الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد وطريقة بناء المجتمع الجديد

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قد يكون المنهج الإصلاحي والبناء المعنوي والمادي الذي أختطه محمد النبي الآن في يثرب بعد أن تم تغير تسميتها إلى المدينة له مؤشرات خاصة تتعلق بجوهر التغيير وماهيته، ذلك أن محاولة العبور من واقع قديم إلى واقع جديد يستلزم أولا أن يمتلك صاحب المشروع رؤية محددة الملامح، لها خطوات وأليات ومنهج مغاير لما هو سائد وطبيعي في البيئة الأجتماعية والثقافية، ولكي يكون هذا التغيير وهذا التحول له معنى حقيقي وأثر على الأرض لا بد من هدم ما لا يتوافق مع الصيرورة التغييرية مهما كانت درجة التغيير فيها، لأنها أي المرحلة التغييرية مرتبطة بهدف وهو تجاوز حالة لا يمكن تجاوزها إلا بالتغيير والتحول بلب وجوهر العلاقات الأجتماعية المتسيدة فيه.
هنا يكون أما صاحب المشروع مهمة البحث أولا عن أهم النقاط التي شكلت إطارا عاما للعلاقات القديمة والتي يقع بشكل رئيسي العيب أو الخلل الأجتماعي الذي شكل أزمة المجتمع، من هذه النقاط يمكن تسجيل ما يلي:.
1. غياب الوحدة الأجتماعية القادرة على ربط هيكل المجتمع مع بعضه برباط الشعور بالوحدة المجتمعية، لقد كانت الطائف القديمة عبارة عن مدينة منقسمة دينيا وقبليا وحتى طبقيا، فهي تضم اليهود والمتهودة من بعض أفراد القبائل من جهة وبين عبادة مغايرة تشمل طيفا من الوثنين وأصحاب ديانات أخرى، هذا التنوع وإن كان يثري الواقع الثقافي لو تم وفق أجواء من التسامح والتلاقح والفهم المتبادل والقبول المشترك بين الجميع، لكن أن يتحول هذا النوع الديني إلى نوع من الكراهية والتنافس السلبي وصولا لحد الإقتتال على مسائل يمكن حلها من خلال الوسائل الأجتماعية السائدة، فهو مدعاة حقيقة إلى أستبدال المنهج والأسلوب التعايشي السائد بين مكونات هذا المجتمع.
2. حتى داخل المجموعة القبلية هناك تنافر وتناقض ونزاع مستمر عبثي ف كل صوره لأنه لا يهدف بالحقيقة إلى إصلاح أو تغيير في طبيعة العلاقات بقدر ما كان محكوما بعوامل أستفزازية وأحيانا تندفع نتيجة تدخلات خارجية لا تلحظ أي مصلحة كبرى ولا فائدة ترتجى منه.
3. على المستوى الطبقي كانت يثرب مقسمة أقتصاديا إلى طبقتين ملاك وعبيد وعمال الأرض من جهة وبين صناع مهرة وفلاحين أو مزارعين، هذا طبيعي في أي مجتمع لو كانت المهن أو الأقتصاديات المحلية مبنية على عامل عام، المشكلة في يثرب قبل مشروع محمد كانت الطبقية الأقتصادية متوزعة أما على أساس ديني أو على قواعد الملكية الإرثية، فمن كان عبدا للأرض أو فلاحا أو مهنيا لا يمن توقع تغيرا مهما في هذه الطبقية طالما محكومة بقوانين دينية وأجتماعية أشبه بالثابتة الغير قابلة حتى لأحتمالية التغيير، هذا الواقع الطبقي يميت في المجتمع ذاته أي أمل في التغيير أو حتى تحولات تدريجية ليكون المجتمع قادر على التجدد والتطور.
هنا كان لصاحب المشروع أو يجب عليه أولا التفكير في جعل الحاضنة الأجتماعية تتفق على أسس مغايرة تنهي حالة الجمود وتفتح الباب للتحولات الأقتصادية التي هي الأداة الرئيسية في عملية التحول والتغيير، كان لوثيقة المدينة التي تم إبرامها في الأيام الأولى لوصول النبي محمد إلى يثرب، الدور الأساس والعمل الإبداعي الذي هيأ لأي خطوة قادمة في سلسلة خطوات التغيير والبناء الجديد، فقد شعر أهل يثرب ولأول مرة بنوع من السلام المؤطر بأتفاق وتحميه الرغبة في علاقات مستجدة تجعل كل مواطن جزء من نسيج منسجم يبعد عنه شبح القتال والحروب الداخلية.
النقطة الثانية التي باشر بها محمد هي وضع الأغلال الدينية والمذهبية عن الجميع، وفتح باب الحرية الأجتماعية لأول مرة من خلال سلسلة الأعمال الأقتصادية المشتركة في داخل نظامي محصص ومخصص أصلا، فأنشأ في البداية السوق الغربي ليكون محلا لنشاط أقتصادي يشترك فيه الجميع دون هوية مميزة ولا حماية أقتصادية محددة، هنا باشر أهل المدينة في عمل أقتصادي واسع نشأ وتطور سريع ليكون العلامة الأهم والسوق الأكبر في كل المدينة على أعتبار أنه سوقا للجميع ومن حق الجميع العمل والأشتراك فيه.
التركيز على مسألتي السلام والحرية شكلت الركن الأساسي في حياة أهل المدينة بالإضافة إلى بناء الجامع المركزي (المسجد النبوي) ليكون مركز وشعارا لوحدة المدينة ووجود العامل المسيطر والمنظم للعلاقات الأجتماعية، غير أن تركيز المؤرخين على رمزية المسجد النبوي وربطه بالعبادات قد أفرغ مضمون هذا العنصر ومساهمته في بناء أستقرار أجتماعي مركزي يحافظ على منهج التغيير ويطوره نحو بناء مؤسسة أجتماعية واحدة ترتكز في قيمها على القيم الأخلاقية والتربوية التي جاء بها محمد بشريعته وجعل منها دليلا للعمل لمن يشاء دون إكراه أو قهر أجتماعي.
الخطيئة الكبرى التي أقترفها المؤرخ لهذه المرحلة وحتى الدارسين لطبيعة مجتمع المدينة لاحقا هو الإفراط في جعل المسجد النبوي رمزا دينيا فقط دون أن يلتفت للجانب الأهم الذي خططه النبي محمد من إقامة المسجد في أول الخطوات البنائية الجديدة، صحيح أنه كان مكانا للتعبد بعد أن سكنه النبي محمد أو جاوره، لكن الحقيقة أن هذا المكان بعيدا عن القدسية كان دارا للعمل السياسي والمجتمعي بأمتياز، ولم يمنحه محمدا القداسة والتعظيم التي ألصقت به لاحقا، ما كان محمد النبي والقائد والإداري يبحث عن مظاهر قداسة وتعظيم بقدر ما كان بانيا أجتماعيا وأخلاقيا لقيم الوحدة والتوحيد، وإلا كان الأولى حسب العقيدة التأريخية وما يلحظ في ثقافة المسلمين اللاحقة من تحريم دخول غير المسلم للمساجد بأعتبارهم كما يزعم البعض (نجس) لا يمكنه تدنيس مسجد وجامع بهذه الأهمية، والروايات التاريخية تشهد عكس ذلك حيث أئمه الكثير من المشركين ومن أهل الكتاب وحتى الكافرين دون أن يعترض النبي عدى ذلك أو يمنع هؤلاء من الدخول والمكوث فيه.
قد يعترض البعض أن تحريم الدخول للمساجد والجوامع تشريع لاحق نزل بعد فترة، والحقيقة مع رجاحة الرأي والحجة ولكن حتى مع نزول التحريم والذي خص مكانا محددا هو بيت الله في نص محكم وخاص ومخصوص (المسجد الحرام) *، لا يمكن تعميمه ليكون حكما عاما يشمل كل المساجد والجوامع التي لها وظيفة مكانية فحسب، دون أن نضفي عليها هالات القداسة والعظمة الزائفة بناء على نص خاص، وإنما التحريم كان له علة وسبب خاص وذاتي يتعلق بالمشركون الذين لا يتطهرون كما هي مستلزمات الحج والعمرة له، فالنجاسة نسبية وذاتية تتغير مع تغير الإيمان بمحدد هو كون المسجد الحرام مكانا للحج والطواف وغيرها من الأعمال العبادية المتعلقة به وبشرائطها، فلو أسلم مشرك وكان نجسا سرعان ما تزول عنه هذه النجاسة المعنوية ويتطهر كما أمر ليكون حاجا أو معتمرا.
نعود مرة أخرى لمبحثنا وندرس بعناية طرية البناء الجديد، خاصة مع توافد المئات من المهاجرين إليها من مكة أو من قرى وقبائل أخرى للالتحاق بمسيرة محمد ودينه، وهذا ما يشكل عبء أقتصادي وخلل في الموزون الثقافي والديموغرافي للمدينة، فليس من المعقول أن تتحمل مدينة صغيرة بأقتصادياته البسيطة وتركيبتها المغلقة هذا الزخم وهذا العدد من المهاجرين دون أن نشهد نوعا من التمرد أو الإحساس بالضرر من قبل طرفي المعادلة الأجتماعية، فكان لا بد أيضا من تشريع ثقافة التكافل الأجتماعي بين أفراد المجتمع لا سيما مع الحماسة التي أبداها الأنصار من سكان المدينة ورغبتهم العارمة في نجاح التجربة مع تسديد ثمنها ولو مؤقتا من مصالحهم الخاصة، البعض يرى في هذه الخطوة نوعا من العبادة أو الأمر الفوقي الذي لا دخل للرجل محمد النبي فيه وإنما هو يتبع أمرا مفروضا عليه من الوحي أو من الله، ولذلك فسروا قبول الناس لمبدأ التكافل هذا على أنه هداية أو تدخل إلهي مجرد من رغبة بشرية كانت تعمل بجد لأجل بناء تجربة والخوض فيها حتى النهاية، وهذه واحدة من المؤاخذات التي نسجلها على رجل التاريخ حينما يوعز أي تصرف ولو محدود إلى أمر السماء وحدها.
إن التركيز على الجوانب المادية كانت هي السمة السائدة في طريقة البناء الجديد التي أختطها النبي محمد، ولكن لم يكن هناك تفضيل عليها بتقديم الجوانب الاخلاقية والتربوية والعقيدية، لأن أي بناء تربوي أو اخلاقي عقيدي إذا لم يرافقه بناء مادي يفسح المجال للفرد أن يمارس تعبده وأخلاقياته بقدر من المرونة والمادية التي تدعمه، سوف يلاقي فشلا ذريعا ولا يمكن التنبؤ حتى بأمل في ذلك، والدليل العلمي والعملي أن في عصور ما بعد الرسول وخاصة المتأخرة نسبيا، أبتدأ من ظهور عصر المذاهب والصراع الفكري فيها وعليها، وما شهدته من تنازع وتنافس في موضوعات الدين وأصوله وفروعه أكثر من موضوعات البناء الأجتماعي المادي وتطويره.
فقد تم التركيز بشكل رئيسي على الجانب العقيدي قابلها إهمال مطلق في الجوانب العملية والمادية لبناء الفرد والمجتمع، وهذا ما قاد لإنتكاسة بعد إنتكاسة يبررها رجال الدين والعقيدة بتخلي المؤمنين عن إيمانهم، بالرغم من كل مظاهر التدين والإلتزام بالعقائد، السر في هذا النكوص كان التركيز المتشدد والحصري في جانب العقيدة دون عمل مادي داعم ومساند للجوانب الروحية، وهذا أيضا سر تقدم المجتمعات الأخرى التي أدركت ووعت هذه الحقيقة وأخذت بأسبابها العملية.
إن ربط حركة المجتمع مع محركات التغيير فيه لا بد أن ينظر لها بشكل كلي وتفصيلي يلاحظ عمق المجتمع المادي والعملي، هذه النتيجة أدركها النبي محمد فقد كانت طريقة البناء الممنهجة تمتد لكل زوايا المجتمع ولا سيما الأكثر إلتصاقا بالفرد، ومنها أسباب المعيشة القادرة على منح الكرامة والأمل والحرية كي يصنع سلاما روحيا فرديا يتراكم من خلال المجموع لينتج لنا سلاما أجتماعيا عاما به ومن خلاله يمكن أن تكون عملية التحول والبناء الجديد قادرة على السير والتراكم والترسخ.

* 16597- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر, ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجّة الوداع، لم يحجَّ قبلها ولا بعدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر




.. -يجب عليكم أن تخجلوا من أنفسكم- #حماس تنشر فيديو لرهينة ينتق


.. أنصار الله: نفذنا 3 عمليات إحداها ضد مدمرة أمريكية




.. ??حديث إسرائيلي عن قرب تنفيذ عملية في رفح