الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد وصورة المجتمع الجديد

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


صورة التحول والبناء الجديد في حياة يثرب _ المدينة لم يكن خافيا على أحد ولا هو مفترض تاريخي دون مصداق على أرض الواقع، فقد نشأ واقع أجتماعي جديد على أنقاض صورة تقليدية لمجتمعات الجزيرة العربية، ركز في تفاعله على تحريك قيم وبناء أدوات ووضع الإنسان الذي عاش مرحلة التغيير أمام إنسانيته أولا، ليقود بنفسه مرحلة التطور والتغيير، فالدين كان عاملا محفزا ودافعا لهذا التغيير ولكن لم يكن هو المسئول عن إحداث كل شيء فيه، وصحيح أيضا أن الرسول بفكره النير قاد مرحلة التغيير ولكن ليس بمعزل عن أداة التغيير والبناء وهو الإنسان الفرد، الذي يبحث عن نظام أجتماعي يحميه ويوفر له كل الظروف الممكنة ليخرج إنسانيته المعرفية ليجسدها في حياته اليومية.
من هنا لا بد لنا أن نحدد ملامح صورة التغيير وعلاقتها بالفاعل الأساسي والمؤسس لهذا التغيير من خلال تأثير هذا التحول والتغيير على واقع الإنسان سواء من كان على دينه وعقيدته باقي أو دخل الدين الجديد، فالعلاقات التي أرستها وثيقة المدنية وسلسلة المبادرات والتغيرات البنيوية التي نشأت بعدها دفعت البعض ممن كانوا يناصبوا محمد العداء والرفض والكراهية للتأثير التخريبي بقدر ما يستطيعون عليه، من أجل إفشال هذا المسعى ومحاولة إعادة عجلة التاريخ للوراء.
فلم يكن مجتمع المدينة الجديد مجتمع ملائكي ولا هو صورة للمدينة الفاضلة المنشودة ولكنه بالتأكيد يتحول نحو الأفضل بما يملك من طاقات وفكر ورؤية عملية، هذا الأمر لا يمنع أن نجد بعض الاختلال والأنحراف عن مسيرة التجديد أبطالها أما متضررون من هذا الواقع الجديد، أو مدفوعين لغايات أو أهداف ليس من بينها حماية المجتمع والحرص عليه، كما لا ننسى أن مكة التي شعرت بهزيمتها المدوية أمام فتاها المخرج منها كرها والمطرود من غير أن تنتفع من وجوده بينها، تملك المبررات والعلل التي تسوق لسحق تجربة محمد المدنية بكل ما أوتيت من قوة.
هذا المسعى ترجم إلى عمل عدواني مباشر ليس فقط ضد محمد وأنصاره وحاضنته الجديدة بل لعموم المدينة التي بدأت تستقطب الكثير من الناس أما مبايعا لمحمد أو متسائلا أو مستكشفا لما عنده من أفكار وقيم دينية جديدة، هذا عامل مهم وأساسي دفع مكة لأن تمارس طغيانها وجبروتها ضد المجتمع الجديد لما يشكله من خطر وجودي حقيقي لمستقبلها الأقتصادي والأجتماعي والقبلي والديني.
ومن سقطات التأريخ والمؤرخون أنهم كانوا يطلقون على محاولات قريش أو حلفائها أو المتربصين بالدين الجديد أسم (غزوات محمد أو حروب محمد ضد أعداءه)، والحقيقة المرة والتي تم تعميتها أن كل ما سمي بالغزوات وما أشتق منه على سبيل الحقيقة أو المجاز، كانت بالأساس أعمال عدوانية خارجية تصدى لها مجتمع المدينة الجديد من باب الدفاع عن النفس، فلم يخرج النبي محمد بجيشه يغزو أحد أو يسلب سلام وأمان مجتمعات لم تنافسه أو لم تكن هي البادئة في الأعتداء، فمنذ بداية العام الثاني لوجوده في المدينة وقبل ذلك أشتدت عملية التآمر ضده وضد تجربته التأريخية، وفي كل المرات كانت قريش بشكل مباشر أو غير مباشر ومعها سادة مكة هم من يحرك الوضع في محاولة لهزيمة محمد وقتله ومن ثم وأد التجربة في مهدها.
فمن غير المنطقي أن نطلق على المدافع عن وجوده غازي وهو يحوذ عن مجتمعه ووجوده بوجه من يعد العدة ويقطع المسافات البعيدة لأجل هدف معلن وغير مخفي وهو قتل صاحب التجربة، لقد شوه المؤرخون والرواة هذه الحقيقة وأظهروا أن محمدا وأصحابه ومن والاه بعد أن أستقروا في المدينة، تحولوا إلى قطاع طرق وقوة حربية هدفها السلب والنهب وإجبار الناس على الرضوخ لهم، فلو أعددنا م يسمى بالغزوات والتي يقدر عددها بين الست والعشرين والسبع والعشرين، نجد أن الغالب منها وقع في أطراف المدينة أو على مشارفها.
هذا يعني أن الواقع الدفاعي هو الذي تحكم بحركة مجتمع المدينة للدفاع وليس الهجوم، والأصح أن تسمى غزوات مكة وحلفائها ضد محمد والدين الجديد والتجربة التأريخية الجديدةـ، فمعركة بدر الأولى وبدر الكبرى وأحد والخندق ومعركة خيبر وغزوة بني سليم وغزوة السويق وغيرها كانت جميعا عملا دفاعيا محضا خاضها النبي محمد وأهل المدينة إلا من تأخر لسبب ما أو تأمر مع مكة وأنصارها، الملفت للنظر أن أكثر تلك الأحداث جرت نهايتها بالصلح على أن يكون هناك تعاون وحماية مشتركة بين المسلمين أهل المدينة وبين تلك القبائل التي أعلنت الحرب عليهم، ومنها مثلا ما سمي بغزوات بواط والعشيرة وبدر الأولى التي أنتهت بهروب المعتدين الذين هجموا على مواشي أهل المدينة التي كانت ترعى خارجها.
ما يميز وتحديدا الصورة التي عليها مجتمع المدينة بوجود النبي محمد هو التكاتف والتلاحم بين غالبية مكوناتها، الدينية والعشائرية والوافدين إليها ومن أحتضنهم أيام العسرة، لم يكن ذلك يحدث فيما مضى لولا وثيقة المدينة التي ألتزمت بها الغالبية لولا بعض الخروج المتعمد من بعض قبائل اليهود من بني قنيقاع وبني النضير وبنو قريظة، فلم تكن هذه المعارك الثلاث الرئيسية تحدث لولا ما كان يخطط له زعماء هذه القبائل مع مشركي مكة وقادتها، وبالرغم مما نتجت عنها من تداعيات وأحداث شوهها التأريخيون والرواة ولكنها لن تعدل أو تغير من تعامل الرسول مع مخالفيه الذين يتمسكون بالمعاهدات والاتفاقيات طالما هم كذلك، وهذا خلق ديني منصوص وملزم له وللمسلمين.
بعد هذه السلسلة من الأحداث الخطيرة والتي كان البعض منها على درجة عالية من الخطر المحدق بالمدينة، تحولت صورة المدينة ومجتمعها إلى صورة المدينة الدولة أو المجتمع المنظم مركزيا مما زاد بأهميتها مع كل يوم يمر في حياتها ومع كل شخص جديد ينظم إلى مجتمع ديناميكي يتحول بسرعة نحو النظام والتنظيم الممنهج تحت قيادة أثبتت التجارب أنها قادرة على صيانة وتجديد المجتمع وفق ما تتلقاه من دعم روحي وأجتماعي وحتى أقتصادي نتيجة مقاومتها المستمرة لكل محاولات الأعداء ضدها.
هذه القوة وهذا الشعور بالقدرة على المجابهة لا تمنع ولا يمكن أن تكون سببا للتهور وعدم تقدير لمحاولات السلام والصلح مع أعتى أعداء محمد ومجتمعه الجديد، ففي العام السادس من وصول محمد إلى المدينة أراد أن يمارس حقه وحق أتباعه في الحج إلى بيت الله الحرام، كما يمارس غيره من قبائل العرب ومجتمعات الجزيرة هذا الطقس الديني، وهم بأن يجعل ذلك سنة معدلة من سنن العرب في الحج ووفقا لعقيدته الجديدة، لكن قريش وزعماء مكة رءوا في هذا العزم تهديدا لسيادتهم على مكة وعلى إدعائهم بحماية الدين الذي كانوا يؤمنون به، كانت الظروف والمعطيات والهزائم المتلاحقة التي أصابت قريش من جهة ومحاولة الأستفادة القصوى من الواقع على الأرض ونتائجه البعيدة سببا كافية لتعادل ميزان القوى بين محمد وأعداءه، وهنا كان الصلح سيد الأحكام صلح العقلاء وليس صلح المحاربين، فأثمر هذا الواقع وتداعياته وأسبابه عما يعرف تأريخيا بصلح الحديبية.
من قراءة الخارطة العسكرية وتحليل المعطيات التي رافت الحركة الدفاعية التي أختطها النبي محمد لحماية المجتمع المدني وما حوله من حلفاء ومعاهدين وأنصار وحتى المحايدين، نجد أن كل النتائج التي أنتهت لها تلك الأحداث لم يستغلها المسلمون للإنتقام من أعدائهم والأخذ بالثأر منهم كما هي عادة العرب في نزاعاتهم وحروبهم، بل وحتى عندما نقضت قريش صلح الحديبة وسار النبي محمد لإتمام حجه في العام العاشر للهجرة أو ما يعرف عادة وتأريخيا معركة فتح مكة، لم تكن نوازع العدوان والشر هي النتيجة التي كانت تتوقعها وقريش والقضية بمجملها معروفة تاريخيا.
لقد أعطى محمد صورة مغايرة تماما لما هو سائد ومعتاد في حياة المجتمعات سواء ما كان منها في المدن المعروفة في عهدة أو حتى سلوك القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، لقد بنى قيم هدفها السلام وصنع العلاقات التي تربط المجتمعات وتتجاوز حالة الكراهية والعداء، إلى سياسة كسب العدو والصديق والدعوة إلى التعايش السلمي، خاصة وأن ما أشيع من كتابات الرواة والمؤرخين الذي أرخوا وكتبوا عن واقع المدينة في عهد محمد النبي تعمدوا الإساءة لهذه الصورة وتزيفها.
مما حدا بقليلي القراءة والمعتمدين على المرويات تلك بشن حرب تشويه وإساءة لسيرة محمد ولصورة المجتمع الجديد، من خلال إظهار الإسلام وكأنه الغول الذي أجتاح العالم منطلقا من المسجد النبوي بقيادة رجل لا يفهم من الحياة سوى لغة المقاتلة والحرابة لينشر بالسيف دينه رغم عن أنف الناس، هذه الصورة قد تكون صادقة بعض الشيء خاصة بعد رحيله ومن ثم تحول السياسة الراشدة هذه إلى مفهوم الفتوحات والغزوات التي أخضعت شعوبا وأمما بحد السيف بدعوى نشر الدين تأويلا بشريا ومن دوافع أساسا لا تمت لسياسة ومنهج محمد ولا من دينه ولكنه حكم السلطان على أي حال.
إن أي مجتمع يبنى على قواعد القوة العسكرية والرغبة ففي التنازع والمحاربة مع الأخرين، ولأي سبب كان سوف ينهار هذا المجتمع نتيجة تكاليف الحرب وإرتداداتها مهما أمتلك من رصيد منها، القوة العسكرية يمكنها أن تخضع شعوبا ومجتمعات بقوة السلاح والخوف والرعب الذي تجلبها معها، ولكن وبالتجربة التاريخية ستبلغ مداها الحرج في لحظة القوة العظمى التي تبلغها لتعيد لتأكل نفسها بنفسها، القوة تأكل إندفاعها وجبروتا كلما كان الظلم محاطا بها وعدم أحترام لقيمة الدم الإنساني أضافة لما تسببه من خسارة ثقافية وحضارية للمجتمع الغالب والمغلوب، وفي النهاية ستنزوي هذه القوة في مكامن الإهمال والنسيان لتنهض قوة أخرى لتمارس نفس الدور السابق، في معارك محمد الدفاعية كان الهم الأساس ليس كسب المعركة عسكريا، بل كان هدف توعية الناس وحثهم للدخول في السلم كافة هو الشعار والهدف والنتيجة.
هذه الصورة المنتزعة من القراءة العقلانية لما جرى في المدينة بوجود النبي محمد وقيادته الأجتماعية والروحية، تم التعمية عليها بل ومحاربتها ولهذا اليوم من قبل الذين يرون في الرجل مجرد ناقل رسائل أو ساعي بريد بين صاحب الدين وبين الناس، لم يدرس محمد الإنسان والقائد الأجتماعي والمصلح الذي بنى تجربة فريدة في التاريخ، لذا وطالما لا نملك الشجاعة لتصحيح التاريخ وغربلة الأحداث المزيفة أو المحرفة لأي سبب كان تبقى الصورة ضبابية وغير واضحة المعالم، ويحق لكل من يقرأ هذا التاريخ أن يرى في شخوصه ما يصل لذهنه من تداعيات وصور وأفكار غير حقيقية وغير واقعية في مفصل مهم من مفاصل حياة الإنسان على هذا الكوكب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران