الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا يرون … لكن اللهَ يرى!

فاطمة ناعوت

2021 / 1 / 3
حقوق الانسان


دخلت السيدةُ إلى الغرفة وقالت للجالسين شيئًا. لكن أحدًا من أفراد الأسرة لم ينتبه لوجودها ولا سمع أحدٌ ما قالت. كررت قولها بصوت أعلى: (أخفضوا صوتَ التليفزيون، لو سمحتم!). ولم يتحرك أحدٌ. وفي أحد المساءات كانت وزوجها مدعويْن إلى حفل. وبعد ثلاث ساعات حان وقت العودة للبيت. بحثت عن زوجها الذي تركها ليتحدث مع أصدقائه. وقفت أمامه وأشارت له مرّةً ومرّات. لكنه لم ينتبه، وظل يتحدث إلى رفاقه! هنا أدركت أن زوجها لا يراها وهي أمامه! (أنا غير مرئية!)، هكذا قالت لنفسها بحزنٍ. وتأكد لها الأمرُ حينما أوصلت طفلها إلى مدرسته في الصباح، وسألته المعلّمةُ: (مَن السيدة التي أتت بكَ يا جاك؟) فأجاب الطفلُ بتلقائية: (لا أحد!). "يا إلهي! لقد أصبحتُ لا أحد؟!” هكذا بدأت "نيكول جونسون" تُدرك أنها لم تعد مرئية. صارت من المُسلّمات البديهية في عيون أفراد أسرتها. ومن فرط حضورها لم يعد أحدٌ يراها! كانت تؤدي مهامها اليومية كأمٍّ وزوجة، لكنّ احدًا لا يشعر بوجودها! بدأ الحزنُ يسكنُها وأوشكت على السقوط في الاكتئاب.
في أحد الأيام أهدتها صديقتُها كتابًا مُصوّرًا عن أجمل كنائس أوروبا. في صدر الكتاب إهداءٌ يقول: (بكل الإعجاب أ أُهدي كتابي إلى الفخامة والأناقة التي شيّدتموها، حين لم يركم أحد. للأسف لن نعرف أبدًا أسماء البشر الذين شيّدوا تلك الكاتدرائيات الرائعة!)
راحت تُقلِّب الصفحات تلوَ الصفحات؛ تتأمل صور الكنائس العملاقة الملوّنة، ثم تنزل بعينيها إلى أسفل الصفحات لتعرف أسماء المعماريين والبُناة، فتجد مكتوبًا أسفل كل صورة: (المعماريُّ والبنّاؤون: غير معروف). ثمّة بشرٌ يتممون أعمالهم الخالدة، وهم مدركون أن أحدًا لن ينتبه إليهم.
حكى الكتابُ عن نحّاتٍ ظلَّ ينحتُ في رأس عمود حجري شكل طائر ضئيل. هذا الزخرف سوف يختفي بعدما يُشيّدُ سقفُ الكنيسة. صعد إليه رجلٌ وسأل النحّاتَ ساخرًا: (لماذا تُنفق كلَّ هذا الوقت في نحت تمثالٍ لن يراه أحد؟!) أجاب النحّاتُ: (لأن اللهَ يرى.) أولئك يؤمنون أن اَلله يرى كلَّ شيء. أولئك الكادحون ظلّوا يذهبون يومًا بعد يوم على مدى الأعوام ليشيدوا بناءً لن يشهدوا اكتماله في حياتهم. فبعض الكاتدرائيات استغرق بناؤها أكثر من مائة عام. أكثر من عُمر أولئك المعماريين والنحاتين والبنّائين. قدّموا أعمارهم دون أي ضمانات مستقبلية. يشيّدون بناية لن يروها ولن تحمل أسماءهم. وتساءل الكتابُ: (ربما لن نرى بنايات بتلك الروعة والفخامة بعد ذلك، لأن بشرًا قليلين الآن، مستعدون لتقديم تضحيات بهذا المستوى.)
أغلقت السيدةُ الكتابَ الضخم وكأنها سمعت نجوى الله: (أنا أراكِ. أنتِ لست "غير مرئية" بالنسبة لي. ليس هناك تضحيةٌ لا أراها مهما صغُرت. أرى كلَّ رغيفٍ يُخبَز. كلَّ خرزة تُخاط؛ وأبتسمُ مع كل غرزة تُحاك. أرى كلَّ دمعة إحباط تُذرفينها حين لا تسير الأمورُ كما تشتهين. ولكن تذكّري دائمًا أنكِ تشيّدين بنايةً عُظمى، لن تكتملَ في حياتك، وربما لن يكون بوسعك أن تعيشي فيها. ولكنْ إن أتممتِ عملَك على النحو الأكمل؛ سوف تكون مشيئتي.)
من المؤلم ألا يرانا الناسُ. لكن تجاهلَنا ليس مرضًا يمحو حياتنا ويُهدر جهدنا. بل ربما هو العلاجُ من مرض "التمركز حول الذات"، والترياقُ الذي يشفي غرورنا. لا بأس إن كانوا لا يرون. لا بأس إن كانوا لا يعرفون.
في كتابها (المرأةُ غير المرئية- The Invisible Woman ) تقولُ نيكول: (لا أريدُ أن يقول ابني لأصدقائه في الجامعة: "لن تصدقوا ماذا تفعل أمي من أجلي! إنها تصحو في الرابعة فجرًا لتخبز الفطائر وتخفق الزبد وتكوي الملابس.” بل أريده أن يُحبّ العودة إلى المنزل، ويقول لأصدقائه: “سوف تحبّون بيتي.” لا بأس أنهم لا يرون؛ فالله يرى. دعونا ندعو الله أن تقف أعمالُنا كآثار فخمة في أوطاننا.)
عام 2016 سألتني الإعلامية السعودية الجميلة: “نادين البدير" على الهواء: (تكتبين منذ ستة عشر عامًا عن العدالة والمواطنة والجمال والتحضّر، ألم يُصبكِ الضجرُ وأنت ترين أن أحلامك لا تتحقق، بل تقفين على أبواب السجن؟! لماذا تقبلين أن تكوني الضحيةَ وتتعرضين للملاحقة القضائية والسجن والسُّباب والتكفير والإقصاء؟ هل يستحقُ الأمرُ كلَّ هذا؟!) وأجبتُها على الهواء بعفوية: (مصرُ تستحقُّ! جميعُنا مدين لمصر! ربما لن نشهدَ في حياتنا ما نرجوه لمصرَ من تنوير وتحضُّر، لكننا نبني حجرًا في جدارٍ، سوف يُكمله مَن يأتي بعدنا.
“الدينُ لله، والوطنُ لمن يبني حجرًا في صرح الوطن.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟


.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط




.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا