الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايقونات التمدن 2

فارس تركي محمود

2021 / 1 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


لقد وصلت إلينا من العصور التاريخية القديمة وثيقة فريدة من نوعها تعود إلى نهاية القرن الخامس ق . م . تعرف ( بدستور الاثينيين ) تعكس لنا مدى قوة الفكرة الديمقراطية في الحضارة اليونانية ، وتعطينا صورة واضحة عن حرية التفكير والكلام والنقاش الحر البنَّاء وعن الأجواء الديمقراطية وعن قوة المنطق وسيطرة المنهج التحليلي الواقعي على طريقة التفكير ، وكاتب هذه الوثيقة - ويبدو أنه من الطبقة الأرستقراطية - شخص يعرف باسم ( التاجر العتيق ) حيث يناقش فيها الدستور الاثيني قائلاً :
" أما فيما يتعلق بالدستور الاثيني ، وبنوع الدستور الذي اصطفوه لأنفسهم ، فإني لا أحترمه ولا أقرضه، لأن اختيارهم هذا النوع من الدستور من شأنه أن يضمن مصالح الطبقات الدنيا عوضاً عن أن يعنى بالطبقات العليا. واكرر القول أني إلى هنا أستنكف عن إطراء هذا الدستور. ولكن لنفترض جدلاً أن هذا الدستور هو ذاته الدستور الذي اتفقوا عليه، فإني أجد نفسي مرغماً على القول بأن الأثينيين أحسنوا في المحافظة عليه . . .
أريد أولاً أن أؤكد أنه من العدل أن تكون الطبقات الفقيرة وعامة الناس من أهل أثينا أحسن حالاً من أهل الثروة والنسب الكريم، ذلك لأن الذين يعملون في الأسطول هم من هذه الطبقات، وهم الذين عملوا على خلق هذه القوة العسكرية. إن الرجل على دفة السفينة، والنوتي البسيط، والضابط الرفيع، والمراقب عند مقدم السفينة والعامل، هؤلاء هم مصدر قوة المدينة، وقوتهم تفضل قوة الجنود المشاة وأهل الحسب والنسب. فبناءً على هذا الواقع أجد أنه من العدل أن تكون وظائف الدولة في متناول كل فرد بالإقتراع والتصويت، وأن حرية القول يجب أن تكون من حق كل مواطن يريد أن يعبر عن رأيه بدون قيد. لأنه ، كما تلاحظون ، هناك وظائف عديدة يتوقف أمن الناس وسلامتهم ومدى تعرضهم للأخطار على من يشغلها. ولذا لا تشترك عامة الناس في هذه الوظائف، وحسناً تفعل. فإن العامة من الناس لا تفكر في أن تقوم بوظيفة القائد أو وظيفة آمر الخيالة. لأنها تدرك أنها إذا تخلت عن هذه الوظائف وتركتها إلى غيرها من المواطنين الأشداء الأقوياء، فإنها تضمن لنفسها تعادلاً في المنافع والمصالح. غير أن عامة الناس ترغب في أن تحتفظ بتلك الوظائف التي من شأنها أن ترعى مصالح الأفراد في ملكياتهم الخاصة والتي من شأنها أن تدر عليهم الخير.
وأحب ثانياً أن أشير إلى أمر تحار عقول الناس في تعليله وتفسيره – أعني الاهتمام المتزايد في كل مكان بالطبقات الدنيا والاعتناء بالطبقات الفقيرة وجماهير الناس من العامة، الذي يفوق اهتمام الناس بالطبقات المثقفة – وإني لا أرى فيه شيئاً يدعو إلى الدهشة والحيرة لأنه من الواضح أن هذه الناحية هي حجر الزاوية في الحفاظ على الديمقراطية. فإن هذه الطبقات الفقيرة ، وهذه الجماهير من العامة، وهذه العناصر المنحطة في المجتمع، عندما تتحسن حالتها الإقتصادية – إلى جانب تكاثرها عدداً – تدعم الديمقراطية وتقويها. بينما إذا تكدست الثروة في طبقة الاثرياء والطبقات المثقفة أدى ذلك، بالنسبة إلى العامة من الناس، إلى قيام قوة عظيمة تقف في وجه الطبقات الدنيا. والواقع أن صفوة المجتمع في كل قطر من أقطار العالم هي التي تشكل المعارضة في وجه الديمقراطية . . . .
وقد يعترض أحد الناس بقوله أنه من الخطل منح جميع الأفراد حرية القول وإفساح المجال لهم أن يصبحوا أعضاء في مجالس الحكم، وأنه كان يجب أن تبقى هذه الأمور وقفاً على الأذكياء وعلى صفوة المجتمع. ولكني أقول ثانية أن أنصار الديمقراطية يتصرفون بحكمة وتعقل عندما يمنحون حتى أدنى الطبقات حرية القول والكلام. لنفترض جدلاً أن حرية القول لا تمنح إلا للطبقات العليا وحدها وأن أفرادها لهم وحدهم حق الجلوس في مجالس الحكم، فإن جميع النعم والبركات التي يوفرها الحكم تصيب الجماعة من الناس أمثالهم ( الطبقات العليا ) بينما يغمط حق أفراد الطبقات الدنيا فلا ينالهم خير ولا تصيبهم نعمة. بينما في النظام الديمقراطي كل من يشاء من الناس، وكل صعلوك يستطيع أن يكتشف أن هنالك أموراً تهمه يجب عليه أن يدافع عنها في مجالس التشريع، لأنها تؤول إلى صالحه وإلى صالح أمثاله من الفقراء. وقد يعترض أحد الناس قائلاً : وهل يستطيع صعلوك كهذا أن يكتشف ما هو خير له ولغيره من الناس فيدافع عنه ؟ وجواب أنصار الديمقراطية على مثل هذا الاعتراض هو أن جهل هذا المرء وحطته، وحسن نيته هي في نظرهم، أعظم أهمية من فضائل أهل الطبقات العليا وحكمتهم، إذا كانت هذه الفضائل وهذه الحكمة تصدر عن روح العداء والكراهية. وخلاصة القول أن الدولة التي تقوم على مثل هذه المؤسسات الاجتماعية ليست الدولة المثالية. ولكن إذا لم يكن للديمقراطية من بديل فإن اتساع هذه المبادئ هي الأداة الفعالة للحفاظ عليها. إذ يجب أن نتذكر أن الناس لا يهمهم كثيراً أن تكون حكومة المدينة حكومة صالحة بينما هم في حالة الاستعباد لأن مطلبهم الأول أن يكونوا أحراراً وأسياداً . . . .
ومن الأمور التي تسترعي الانتباه الحريات والامتيازات التي كانت أثينا تغدقها على العبيد والمواطنين حيث الصفعة أو اللكمة جريمة يطالها القانون، وحيث العبد لا ينزل عن الرصيف الذي أنت ماشٍ عليه ليفسح لك طريقاً. وها إني أعلل هذه العادة الغريبة في بابها. لنفترض أنه يجوز للمواطن الحر أن يضرب عبداً، أو أنه يجوز للمواطن العادي أن يضرب المواطن الغريب المقيم في المدينة أو العبد المعتق، فقد يحدث كثيراً أن مواطناً أثينيا قد يُضرب خطأ على أنه عبد أو غريب مقيم، لأن الرجل من عامة الناس في أثينا لا يلبس لباساً أفضل من لباس العبد أو الغريب، لباساً يميزه عن غيره من الناس. كذلك لا يفضل الأثيني غيره في منظره وملامحه. كذلك إذا أبدى المرء دهشةً واستغراباً من أن العبيد في أثينا يسمح لهم أن يتمتعوا بأطايب العيش – والواقع أن الكثير منهم يحيا حياة ترف واستمتاع – فأننا نستطيع أن ندلل أن هذه الظاهرة مقصودة بالذات. فإنه إذا كانت الاساطيل لا تقوم إلا على الثروة فنحن مرغمون أن نكون عبيداً للعبيد الذين يقومون بأعمال هذا الاسطول كي نستطيع أن نجمع رواتب وأن نعتق العبيد الحقيقيين. وحيث يكون العبيد اغنياء موسرين فإني لا أرى خيراً في أن يقف عبدي أمامي وقفة الذليل الصاغر . . . " .
كذلك تتناول هذه الوثيقة تأثير الديمقراطية والحكم الديمقراطي على العلاقات الخارجية للدولة حيث ورد فيها : " وفضلاً عن هذا فإن الدولة التي تحكمها جماعة التجار والأثرياء تجد نفسها مرغمة على تصديق المعاهدات مع حلفائها، وإذا عجزوا عن تصديقها ونقضوا نصوصها فإن مثل هذا النقض – ولا اعتبار لمن هو مسؤول عن النقض – تقع مسؤوليته بكاملها على كواهل التجار الذين عقدوا هذه المعاهدات. ولكن إذا كان الحكم الديمقراطي هو الذي عقد هذه المعاهدات فإن الشعب هو المسؤول عن محاكمة من حبذوا المعاهدة وعضدوها، إن للشعب أن يطلب إعادة التصويت قائلاً للناس : ( نحن لم نكن في المجلس أو الحكم عندما عقدت هذه المعاهدة أو تلك ، ونحن لا نوافق على بنود المعاهدة ). وهكذا يجري التحقيق في اجتماع عام يحضره جميع الشعب . . . . " .
إن الشواهد والمواقف والأحداث التي توضح وتبين أجواء الديمقراطية ومناخات الحرية التي عاشت في ظلها الحضارة اليونانية القديمة أكثر من أن تعد وتحصى وهي بحاجة إلى مؤلفات ومجلدات بكاملها للإلمام بكل أبعادها وتفاصيلها وقد تناولها وكتب عنها الكثير من الباحثين والمؤرخين . إلا أنه وباختصار يمكن القول أنه لا يوجد أي فعل أو فكر أو إجراء أو سلوك ديمقراطي أو أي مظهر من مظاهر الحرية تتمتع به وتمارسه الحضارة الاوربية الحديثة إلا ويعود بأصله وجذره إلى الحضارة اليونانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط