الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطَّيِّبون يذهبون!

نضال الربضي

2021 / 1 / 4
سيرة ذاتية


العم مُرقص سلامه، أبو فادي، زوج بنت عمَّة والدتي، قِبطي عاش عمره كُلَّه في الأردن، بدأ حياته يعملُ في تزين الصور بالخرز، فنَّانٌ بحق، حتى افتتح مشغله الخاص، و معرضه، مع شريك أردني، حتى آخر لحظة من حياته، حين ودعنا مُتألِّما ً بعد أن أنهك السرطان اللعين رئتيه و أجبره أن يُغمض عينيه. للعم مُرقص ولدان و ثلاث بنات، كُل ٌّ منهم يحمل ُ من نفسِه صفة ً ما، جميعهم أحبَّاءُ إلى قلبي، و كُلُّهم يصغرني بالسن. أراهم إخوتي و أخواتي، و أُحسُّ تجاههم بشعور ٍ خاص.

كان العم مرقص شخصا ً مُتميِّزا ً يحب الحياة، و يؤمن ِ أنَّها في يد ِ من خاض َ صِعابها، و أن الرُّجولة الحقيقية هي أن يعمل المرء ما يستطيع، و أن يستطيع ما أدرك أنَّه موجود و كائن و قابل للفعل. قِبطي من الصعيد، قويٌّ كجبل، و مرن ٌ كجُلمودِ ذهبٍ تمَّ تسخينُه حدَّا ً جعل من صلابته شيئا ً يستجيب بشكل عذب ٍ إلى نار ٍ مُستحقَّة للاستجابة، لا يُهادِن في حق، و لا ينثني لباطل، و لا يبيع ُ مبدأه ُ و لا يقول إلا كلمة ً موزونة ً لها معنى و تأثير يفهمه اللبيب و يستجيب له الكريم.

أذكره حين تخرُّجي من المدرسة، حين أقام لي والداي حفلاً متواضعا ً في بيتنا، لم أنتبه إلا و قد رفعني على أكتافه، و هو العملاقُ جسدا ً، و ابتدأ يرقص احتفالا ً بتخرجي، كانت هذه طريقته في التعبير عن نفسه، أصيل ٌ في شعوره، و فخور ٌ بنفسه و بمن يُحب.

حين علمتُ بمرضه زرتُه في بيته، مع زوجتي، و تألَّمتُ كثيراً، حاولت ُ أن أخفي ألمي، و جهدتُ ألا يبدر َ مني ما يُنبئه بدُنوِّ الساعة التي سيغمضُ فيها عيناه. كرهتُ أن يرى في عينيَّ اللتين تألقتا فرحا ً يوم حملني على كتفيه، يأساً، و جزعاً، و خوفاً، وودتُ لو استطعت ُ أن أهبهُ الحياة، لكني لستُ إلا بشرا ً، و سأمضي إلى حتميِّة ما مضى إليه هو يوما ً ما.

حين أغمض عينيه للمرة الأخيرة، كرهتُ الطبيعة، و نظامها، و الحياة، و كل ما فيها، لكنَّ عقلي الذي يأبى إلا أن يتحكَّم في صبر، و أمسك الدفَّة، و قال لي: انتظر، ما زال أمامك الكثير لتشهده، و حين ثُرتُ في وجهه، و لعنتُه، و لعنت الحياة أجاب بهدوئه المعتاد: معك حق، و لكن الحياة تستمر، و عليك أن تفهم أن وجدانك من حقه أن يثور، و أنا من حقي أن أفكر و أعقل، و من حقك أنت أن تكون لكلينا معا ً الوعاء و الإطار و الوعي و النفس و الهُويَّة، و هذا حقنا عليك.

أدركتُ كما أُدرك الآن أن الحياة تستمر، لكني أدرك أكثر من أي وقت مضى أن الطيبين يذهبون، و أن ذكراهم لا يمكن أن تَخلد إلا إذا و فقط إذا اخترنا أن نصنع كلَّ ما هو خير، و جميل، و مفيد، و نافع. فقط عندها، نكون ُ قد أكرمنا ذكرى من نُحب، لأننا عندها نكون عند حسنُ ظنِّهم، الذي ما هو إلا استجابتهم الفطرية لأصالة ما فيهم، و فهمُنا نحنُ لهذه الأصالة التي هي جزء ٌ منا بحكم طبيعتنا المُشتركة، و التي تترسَّخُ فينا أوَّلا ً بقوَّة الوجدان الذي يربطنا بمن نُحبُّ و يدفعنا لتقليدهم، و ثانيا ً بالعقل الذي يُفكِّر و يحلِّل و يخرُجُ بالنتائج.

يذهب الطيبون، صحيح، لكن العقل يقول، لا: بما علَّمونا، بقوا، و لم يذهبوا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحياة و الفلسفة الميتة
شوكت جميل ( 2021 / 1 / 4 - 22:58 )
تحية طيبة أخي نضال

لطالما غبطت من لا يلغطون بالفلسفة الميتة و يقضون و أيديهم على المحراث.....لعل هذا هو عين الفلسفة التي يحتاجها البشر حقا.

ارق التحايا


2 - فلسفة الحياة
نضال الربضي ( 2021 / 1 / 7 - 01:59 )
أهلا ً بك أيها العزيز الجميل شوكت!

معذرة ً منك فالآن فقط انتبهتُ إلى وجود التعليق. لسبب ما لا تصلني جميع التنبيهات على
التعليقات كما في الماضي، و يبدو أن الخلل عشوائي، يحدث ثم يذهب ثم يعود، كما لاحظتُ حاله منذ بدأتُ التواجد على موقع الحوار المتمدن.

أجد أنني أحبُّ أن أرى في الإنسان الالتزام بقضية ٍ ما، و بذل المصادر الذاتية و المادية لخدمتها. لطالما أعجبني هذا النمط من التنسُّك ِ الإنساني في خدمة شئٍ محمود، كريم، نبيل، ذي منفعة، و قادر ٍ على إشباعِ هوى النفس إلى الاكتمال و الإنجاز.

و في مسار ٍ موازٍ أرى أن التأمل العقلي و دراسة الوجود و العلاقات بين الموجودات ما يزالُ يلقى عندي قبولا ً بل أقولُ اشتياقاً يدفعني لممارسته و تتبُّع من يحبونه و يجيدونه، دون تكلُّف ٍ أو سفسطة.

و لا شكَّ أنك توافقني إذا ما رأيتُ أن الإنسان عقلٌ ووجدان وقضية ٌٌ و محيا، كلُّها في بوتقة ٍ واحدة هي جدليةُ الحياة.

مرةً أخرى أحتكمُ إلى نجيب محفوظ حين قال -لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال و طموح الملائكة-

كل الود يا صديقي الجميل!

اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع