الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثامن

دلور ميقري

2021 / 1 / 4
الادب والفن


1
غروب الشمس، كان من اللحظات السعيدة عند الولد حكيم. إنه يعني الخلود إلى الراحة، عقبَ نهارٍ من الكدّ في الحقول والزرائب؛ نهار، يستهله عادةً الأهلُ مع أولى لمسات الفجر على موجودات المكان. عندئذٍ، كان يمكنه أيضاً رؤية زوارق الصيد، العائدة مع غلالها عبرَ مياه النيل، التي كانت ما تفتأ مذهّبة بفعل أشعة الشمس. بدَورهم، يرجع الرعاةُ مع القطيع، ليتسلمه منهم المشرفون على الرائب وذلك بعدما يقومون بعدّ المواشي. إنه يقوم أحياناً بمهمّة الراعي لأغنام المنزل، وكانت تسرّه عمليةُ حشرها في الزريبة، لكي تقضي الليل مستلقية على مفارش التبن ذات الرائحة الحرّيفة. هكذا كان يُختتم النهار في هذه القرية، المتمددة على الشريط الأخضر للبساتين والنخيل، العاقدة صداقة أزلية مع كلّ من النهر والصحراء.
آنذاك، كان حكيم في العاشرة من عُمره؛ صبياً صحيح البنية، لونه النحاسيّ مستمدّ من والدته النوبية. حتى ذلك الوقت، كان وحيد الأسرة، وذلك بسبب رحيل عدد من الأخوة بأمراض الطفولة. لكنه لما عاد إلى القرية شاباً، غبَّ انتزاعه منها قسراً، وجد أن والديه رزقا بولد كان في صحة جيدة بحيث ملأ فراغ حياتهما. انتزاعه من القرية، جدَّ عندما مرّ منها ذت يوم موكبٌ على جانب من الفخامة، يحملُ أعياناً من القاهرة ـ كما سيعلمُ لاحقاً. كانوا قد حضروا في مركب كبير، لقضاء الوقت في الصيد والنزهة. لسوء حظ الصبيّ، أنه كان في ذلك النهار وحيداً، يضربُ على غير هُدى عند ضفاف النهر، كما هيَ عادته حينَ يكون بلا عمل يشغل به وقته. انتبه لنظرة أحد أولئك الأعيان، ومن ثم إشارة إلى الخدم سددت نحوه، ما جعله يركن للفرار باتجاه المنزل. لكن الخدم لحقوا به سريعاً وأمسكوه، ليعيدوه إلى سيّدهم. ما جرى بعدئذٍ كان فظيعاً، وسيظل راسخاً في أعماق حكيم: ثمة عند ضفة النهر، كشفوا عن خصيتيه ثم لفوا حولهما وتداً رفيعاً. الألم الهائل، جعله يسقط مغشياً عليه. لما أفاقَ، كان المركبُ يمخر صفحة المياه، المنعكس عليها ذيولُ أشعة الشمس.

الأعوام العشرة التالية، لم يكن فيها أحداثٌ على جانب من الأهمية. لكن حكيم حظيَ بالعيش في قصر معتبر بمركز الولاية، وأول ما فعلوه معه أنهم ألحقوه بالدراسة مع أولاد الباشا. لاحقاً، عندما انتقل سيّده إلى الأستانة كي يدخل في ديوان السلطان، كان حكيم ما زال في خدمة الحريم. بقيَ كذلك ثلاثة أعوام أخرى، لحين سقوط رأس الباشا بسيف الجلّاد. على الأثر، نُقل هذه المرة إلى خدمة حريم الباب العالي، وهنالك تعرّفَ على بيهان سلطانة. هذه، برغم أنها تصغر حكيم ببضعة أعوام، كانت قد أضحت زوجةً للمرة الثالثة. أقام مع خاصّتها في قصر اللؤلؤ، المتصل مع قصر السلطان من خلال الحدائق والممرات السرية. عليه كان أن يتعلم استخدام تلك الممرات، وذلك في مهماتٍ متعددة الأغراض، متوافقة مع سبب تصميمها. لكن أجواء القصور كانت كلها على ذات الخطورة، مفعمة بالدسائس والحيل والمخططات الدموية. إنه نجيَ مراراً من المهالك، نتيجة صلته القوية بشقيقة سلطان الكون، الأثيرة، التي أسبغت عليه حمايتها.
مع مبتدأ قصتنا، وجد حكيمُ نفسه ضمن حاشية السلطانة بيهان عندما قررت أداء فريضة الحج. كمألوف عادتها عندما تفضي إلى الطواشي بمكونات نفسها، اعترفت له وقتئذٍ أنّ ضميرها مثقلٌ بالذنوب. ولم يكن في حاجةٍ لمعرفة طبيعة ذنوبها، لأنه تورط أيضاً بها نتيجة دسائس أفضت أحياناً لازهاق أرواح بريئة. أحد أزواج السلطانة، كان من أولئك الضحايا، وكانت قد محضته منذ البداية الكراهية والنفور حتى أنها أشهرت عليه خنجراً في ليلة الدخلة. بيد أنها، في المقابل، كانت تعدّ نفسها ضحيةً أيضاً. لقد عجّلوا بزواجها وكانت في الحادية عشرة من العُمر، وذلك في حياة والدها. السلطان الوالد، كان آنذاك يعتمد على الصدر الأعظم في شكم قادة الانكشارية، وهذا دفعه لمصاهرته. لما أعتلى العرشَ شقيقُها، سلّم إليها مهمّة إدارة الحريم مع وجود نسائه والجواري المفضّلات. أساساً، هذه المهمّة كانت في الغالب سبباً للمكائد والمؤامرات وإراقة الدماء.

تقليدٌ قبيح، ألتُزم به في دولة آل عثمان على مر القرون، وهوَ قتل الأخوة. السلطان محمد الفاتح، جعل ذلك التقليد قانوناً أساسياً بحجة الحفاظ على نظام الكون. أحد أحفاده، شرع في يوم تسلّمه العرش بإعدام تسعة عشرة من أشقائه. وبلغ به التعطش للدم يومئذٍ، أن أمر أيضاً بقتل جميع شقيقاته بشكل مجانيّ، برغم أن النساء لا يشكلن أيّ تهديد لسلطته. لكن القانون، في المقابل، كان يشدد على بقاء الأخوة أحياء طالما السلطان لم ينجب بعدُ ولياً للعهد: هذا، فكّرت فيه بيهان سلطانة عندما أعتلى شقيقها الأكبر العرشَ. إذ وجدت من واجبها حماية بقية أشقائها من المصير المفجع ما لو رُزق السلطان بذرية.
الأشقاء الأربعة الآخرون، كانوا قد أحتجزوا في مسكن ملحق بالقصر، يُدعى " القفص "، لحين أن يُعدموا لو حظيَ السلطان بوليّ للعهد. لقد أشبهوا بخروف العيد، الذي يُسمّن من أجل التضحية به. في كل مرةٍ تؤوب من زيارتهم، كان قلب السلطانة يطفح بالغم بسبب ما لحظته من علامات القنوط على ملامحهم. كانوا يعيشون في رعب مقيم، بالأخص في ساعات الفجر الأولى، التي عُدّت الوقت الأمثل للجلادين كي يحضروا لتنفيذ أمر الإعدام. وفي كل مرة أيضاً، كان يستعرّ تصميمها على إنقاذهم بأي ثمن. وكان ثمناً باهظاً، دفعته أرواحٌ بريئة: بيهان سلطانة، عمدت لاحقاً إلى الأمر بتسميم كل طفل يُرزق به السلطان وهوَ ما يفتأ بعدُ في المهد. المهمّة المشينة، كان يتولاها الطواشي حكيم مع عدد من الجواري المخلصات. لقد أمكن كذلك ضمان ولاء طبيبة القصر، بفضل نفحات متوالية من الذهب.

2
بيهان سلطانة، وصل صيتها إلى دول الفرنجة الكفّار، وذلك عن طريق القناصل المقيمين في تخت الخلافة. أحدهم، وهوَ قنصل البندقية، كان موهوباً بالرسم لدرجة حفظه في ذاكرته تقاطيع سحنة السلطانة ومن ثم نقلها إلى القماش بريشته المغمّسة بالألوان. هذا الرسم، نُسخَ مراراً عن الصورة الأصل إلى أن أضحى في تلك الدول بمثابة الإيقونة. لم يكن الأمرُ متعلقاً، حَسْب، بسحر شخصية السلطانة، وإنما أيضاً بمدى تأثيرها على قرارات شقيقها. وكانت العلاقات مزدهرة بالخصوص مع إمارة البندقية، حتى أنّ تجّارها كانوا الكتلة الأكبر والأهم في الأستانة. في حال حصول لبْسٍ ما، سياسياً أو تجارياً، كان قنصل الإمارة يهرع إلى القصر لمقابلة السلطانة سعياً لإيجاد الحل. في أيام الصحو، اعتادت على استقباله في حديقة القصر، أين ينصب سرادقٌ جميل وسط الورود. كان الرجلُ يتبسّط مع السلطانة، وفي كل مرةٍ يذكر لها أنها أجمل من كل ما يحيطها من الأزهار.
كون بيهان تعرف لغة القنصل ( والدتها هيَ أصلاً من تلك الإمارة )، دأبَ على مدّها بالكتب على سبيل الهدية. في أحد الأيام، شاءت بدَورها أن تقدّم هدية له. في خلال وجوده بحديقة القصر، فتحت علبة مزخرفة بنقوش من مادة العاج: " هذه نوع من التوابل، تُدعى القهوة، جلبها تجّار مسلمون من بلاد السودان. إنها تُبقي الذهنَ صاحياً، بالأخص في ساعات المساء؛ حيث يرغب المرء بإطالة السهر بالمسامرة أو القراءة ". ما لم تجده ضرورياً التكلم عنه، أنّ جدلاً كبيراً استفحل في تخت السلطنة جراء شيوع عادة شرب القهوة حتى لقد أعدّ لها أماكن عامة شبيهة بالحانات، يجتمع فيها الرجال في آناء النهار والليل على حدّ سواء. في البدء، أصدر شيخُ الإسلام فتوى بتحريم القهوة. لكنه اضطر إلى سحبها، كون السلطان وحريمه أضحوا من المدمنين على هذا الشراب الفريد. وهوَ ذا القنصل، بعد مضي نحو العام على تسلّم هديته، يُخبر بيهان كيفَ أضحت القهوة تنافسُ الخمرَ في بلدان الفرنجة بعدما تعهّد تجار إمارته استيرادها بكميات كبيرة من الأستانة.

" أتعرف، يا حكيم، أنّ الفرنجة يؤلفون قصصاً شبيهة بالخرافات، التي كنا نسمعها في طفولتنا قبل النوم؟ "، قالت بيهان سلطانة ذات مرة للطواشي. ثم استدركت: " لكنها قصصٌ من واقع الحياة الإنسانية، محبوكة بطريقة تستهلك عدداً كبيراً من الصفحات حتى ليصعب قراءتها في ليلة واحدة. أكثر القصص، حبكتها تعتمد على حالة حب، يُخفق في النهاية أو ينتصر. لكن ثمة قصصاً تعرضُ لنا حادثة قتل، نجح فيها الجاني بالافلات من العدالة، لحين أن يُكشف في الصفحات الأخيرة من الكتاب. ذلك يتحقق بفضل رجلٍ حاذق، أخذ على عاتقه مهمّة التحقق والبحث والتقصّي إلى أن ينجح في الختام بتسليم القاتل للعدالة. الغريب، أن وراء بعض حالات القتل نفسٌ تُخبئ انفعالات قوية من زمن الطفولة، تَظهرُ في الكبر مشفوعة بالرغبة بالانتقام من أشخاص سببوا لها الألم أو ألحقوا الأذى بعزيز عليها إن كان حبيباً أو قريباً. حالة القتل، أو الجريمة بحَسَب تعبير أولئك القصّاصين، يُمكن أيضاً أن يكون سببها الغيرة على الحبيب أو الحسد من توفّق العاشقين "
" أود مشاركتك متعة قراءة تلك القصص، لو سمحتِ لي يا مولاتي "، قالها الطواشي وهوَ يحني رأسه. ثم أضافَ مبتسماً: " قصص الحب، لا تعنيني في حال من الأحوال. لكنني أجدني منجذباً لمواضيع القصص الأخرى، كونها أكثر إثارة وأقرب إلى الواقع ". لحظت السلطانة تشديده على الكلمات الأخيرة، فأشاحت وجهها إلى الناحية الأخرى. حكيم، سبقَ له أن تعلّم لغة أهل البندقية بفضل مولاته، فما لبثَ أن حصل منها على الكتب المطلوبة. أخذ يُخصص وقتاً لقراءة القصص، وكان غالباً بعد تناوله العشاء، حيث يسود الهدوء والسكينة أجواء القصر. عدا عن متعة القراءة، كان في غالب الأحيان يتمثّل شخصية أحد أبطال القصة. الغريب، أنه رأى نفسه دائماً في الجانب الشرير، المُعبَّر عنه بشخص القاتل. لم تحظَ شخصية المحقق بإعجابه، برغم ما اتسمت به من دهاء وفطنة وشجاعة. إذاك، فكّرَ أكثر من مرةٍ، ساخراً، بقرينٍ لتلك الشخصية؛ برجلٍ، كان محط كراهية الكثيرين في القصر.
سلاحدار السلطان، المتسنّم منصباً حسّاساً وخطيراً، عُهد إليه بمحاولة حل مغامض عدد من حوادث القتل في القصر، وكان كلّ منها قد جرى خفيةً بتدبير السلطانة بيهان. لكن نتيجة التحقيق، كانت تفضي دوماً لوقوع ضحايا بريئة بعدما يتم انتزاع اعترافاتها تحت التعذيب في أقبية القصر. أولئك الضحايا ( وأغلبهم من الجواري )، كانوا يظهرون في الوقت المناسب للتغطية على القاتل الحقيقيّ. إلى أن كان يوماً، واجه فيه السلاحدارُ السلطانة بشكوكه في تورطها بتلك الجرائم. فهمت من حديثه، أنه تعمّد إتهام آخرين لكي يحميها. نغمة صوته، باحت بما يكنّه من حبّ عنيف لشقيقة مولاه. لكنه سرعان ما خسر حياته، لكي يُدفن السرّ معه. الطواشي، هوَ مَن أخذ على عاتقه غرس الخنجر في قلب الرجل، وذلك بعدما أوهمه في أحد الأيام بأنه يعدّ له لقاء غرامياً مع حبيبة القلب. غيرة خفية، متأججة، جعلت يده يومئذٍ تبالغ في الإيغال بالقتل: لقد كان حكيم من جُملة مَن تولهوا بعشق السلطانة، غير أنه كان أكثرهم فهماً لاستحالة ذلك العشق ولو في الخيال.
كان حكيم هوَ مَن أقنع السلطانة بضرورة التخلّص من السلاحدار، مؤكّداً لها خطورة احتفاظه بسرّها وأنه ربما يستعمله مستقبلاً ضدها لو تغيّرت الظروف. هذه الحجّة، كررها أمام مولاته عندما واجهته فيما بعد باللغط المستطير، المعقّب شيوع أخبار الشبان القتلى، الذين كان يُعثر على جثثهم طافية في النهر، المار بالقرب من القلعة الدمشقية.

3
الطقس، بدأ بالتدهور سريعاً في ذلك الوقت المتأخّر من الخريف. وهوَ ذا حكيم يخرجُ من القصر خفيةً، متنكّراً بملابس عامّة أهالي الشام. عليه كان أن يفعل ذلك، لكي لا يُثير انتباه أحد عندما يجول في دروب المدينة القديمة. كانت العتمة تتكاثف بفعل الجو المتجهّم، المتأثر بهيمنة السحب الرمادية على السماء. دفقات من الريح الباردة، تغلغلت في أوصال المدينة، لتنفذ من جدران منازلها المتراصّة على بعضها البعض. معرفته الجيدة لمواقع قدميه، كان الفضل فيه يرجع لزياراتٍ دأبَ على القيام بها لصديقين، يعيش واحدهما في حي داخل الأسوار والآخر في حي خارجها. كلا الرجلين، كان قد تشرّفَ بالمثول بين يديّ السلطانة، وإن في ظرفٍ مختلف. أحدهما، المعروف على لسان العامّة ب " النبي كيكي "، توثقت صلته بها نتيجة إيمانها بما قيل عن قواه الخفية، الخارقة للطبيعة. الآخر، كانت صداقته للأول سبباً في اهتمام السلطانة بالتعرّف عليه، ولكونه أيضاً عالمَ دين. بحَسَب ما أفصحت هيَ عنه يوماً للطواشي، لما تكلمت بشكل مكشوف كعادتها، أنّ أياً منهما لا يحوز على إعجابها لو تعيّن عليها التفكير بأمور القلب أو الجسد. في المقابل، كانت قد أكّدت على شدّة إعجابها بوسامة الشبان الدمشقيين، قائلة أنهم يذكّرونها بأندادهم البنادقة، الذين تواجد العديدُ منهم في تخت السلطنة بصفة تجار على وجهٍ خاص.
الطواشي، كان يسعى في هذه الليلة للظفر بأحد أولئك الشبان، وذلك بناءً على طلب السلطانة. إنها نزوةٌ طارئة، ولو لم تكن جديدةً تماماً؛ كونها امرأة، عانت دوماً من الحرمان العاطفيّ والجسديّ. كذا كانت في خلال حياتها الزوجية، فلم تجد في البعول الأربعة سوى ذلك الوحش الغاصب، المنتزع براءتها وكانت بعدُ في الحادية عشرة من عُمرها. أحد الممرات السرية في قصر الباب العالي، أستُخدمَ ليلاً لمرور العشاق إلى مخدع السلطانة. بعدما يقضي الشاب وطره، كان يُخرج من القصر بنفس الطريقة. لم يكن يعلمُ ماهية العشيقة، ولا حتى أنها تعيش في القصر. كذلك، لن يعود مرةً أخرى قط إلى اللقاء بها: هنا أيضاً، في القصر الدمشقيّ، أمكنَ إكتشافُ ممر مماثل، كان الوالي السابق قد حفره بهدف الوصول إلى القلعة ما لو هوجم من قبل خصومه على حين غرّة. كان الممرُ متصلاً ببرجٍ مستحدثٍ، لا يقل سرّيةً، ويفضي منه إلى الخارج من خلال باب مفتوح على دكانٍ مهجور في السوق الجديد، الذي سيُعرف في زمنٍ آخر باسم أحد السلاطين عندما تمت توسعته وتغطيته. فيما سبق، كان المكانُ امتداداً للخندق، المحيط بسور القلعة من كافة جوانبه.

" ثمة امرأة حسناء، ترغبُ بقضاء ليلة ممتعة مع فتىً جميل مثلك "، قال الطواشي للشاب غبَّ اطمئنانه إليه. تباسط أولاً بالحديث معه، بحجّة بحثه عن مسكن مناسب، فعرف أنه من أهالي الكلّاسة ويعمل أجيراً بأحد متاجرها. ترددَ الشابُ في الجواب، برغم أن ضوء الفانوس فضحَ علاماتِ الاثارة على ملامحه الحَسَنة. إلا أنه طرحَ الحذرَ جانباً، وما لبثَ أن سارَ مع من ظنّ أنه مرسالُ الغرام. هذا الأخير، كان أكثر حذراً ولا شك. هكذا تقدّمَ بخطواتٍ عن الشاب، لحين الوصول إلى أسفل أسوار القلعة من جهة البرج السرّي. كانت العتمة مطبقة، بالنظر إلى إغلاق المحلات أبوابها في هذا الوقت المتأخر من الليل. أحد هذه المحلات، كان هوَ المطلوب، وقد نفذ الزائران من بابه الخلفيّ إلى درجٍ يصعد إلى إحدى حجرات البرج. هنالك أعدّ عشُ المطارحة الغرامية، وما عتمَ ضوءُ قنديلٍ مثبت في مشكاةٍ بالجدار أن كشفَ هيئة السلطانة، المستلقية على سرير وثير يكاد يحتل معظم مساحة المكان.
طافحاً بالغم بتأثير الغيرة، كان حكيمُ ينتظر خارجَ الحجرة لحين فراغ العاشقين من خلوتهما. على حين فجأة، دهمته فكرةٌ جنونية، جعلت يده تتحسس الخنجرَ، المغروس في وسط زنّاره. لقد فكّرَ أنه كان سيحظى بجسد سلطانة قلبه، لو لم يتعرّض لعملية الإخصاء في ذلك اليوم البعيد، الذي كان يتنزه فيه على ضفة النيل. مع أنه استدرك حالاً في خياله، بالقول ساخراً: " ولولا ذلك لكنتُ الآنَ مجردَ راعٍ لأغنام الأسرة، أو مزارعٍ في أحسن الأحوال ". تلوثَ داخله هذه المرة بالمرارة، عندما استعاد لحظات زيارته للقرية وكان مضى نحو عشر سنين على انتزاعه منها. كان قد استأذنَ من الباشا، وذلك فور علمه بأنه سينتقل معه إلى تخت السلطنة. كان لقاءً مؤثراً، تخلله العويل والدموع. حتى أمه، الفلاحة الساذجة، أدركت ما حاق بابنها من مصيبةٍ لا راد لها. الآن، وهوَ يستعيد ذكرى ذلك اليوم، يتأسّف لأنه اعتذر عن المبيت تحت سقف الأسرة بزعم عدم حصوله على الإذن: في حقيقة الحال، أنه أراد الاختفاء أبداً عن تلك الأعين، التي نفذت إلى شخصيته الجديدة غير السويّة.
فيما كان غارقاً بهكذا أفكار، فُتح باب المخدع ليظهر الشاب مترنّحاً كالثمل. الإثم، كانت آثاره واضحة أيضاً على سحنته، ولعلها المرة الأولى يقترفه في حياته الفتيّة. كل ذلك ضاعفَ من حنق الطواشي وحقده، ولو أنه تكلّفَ الهدوء واللامبالاة. دونَ نأمة، سارَ أمام الشاب لينحدر على السلم الحجريّ وصولاً إلى قاعدته، الغارقة في العتمة. عادا من نفس الطريق تقريباً، لحين تناهي خطواتهما إلى العطفة، المؤدية إلى الكلّاسة. أراد الشابُ الاستئذانَ بالانصراف، لكنّ الآخرَ قال بسرعة: " عليّ أن أدلك على مكان لقائنا التالي، الذي تريده سيّدتي بأقرب فرصة "
" ولكنها لم تفتح فمها بتاتاً طوال مكوثنا معاً، لدرجة إعتقادي أنها خرساء؟ "، قالها الفتى متلعثماً بكلماته. وكان رد الطواشي، إطلاق ضحكة عالية: " إنها لا تجيد غير اللغة العثمانية، وهذا كان سبب صمتها ". شاركه الفتى شعورَ المرح، وما لبثا أن تحركا من المكان. إلى أن وصلا إلى ضفة النهر، وكان صوتُ خريره يخرق الصمت في هذه البقعة المقفرة والموحشة. التفتَ الطواشي إلى الفتى ويده تقبض على الخنجر بتصميم، ليقول: " في هذا المكان، سنلتقي يوم الغد وفي نفس الساعة ".

4
هنالك عند ضفة النهر، كان حكيم يهمّ بإلحاق الشاب بمن سبقه من الضحايا، عندما شاءت العناية الإلهية أن أتدخل في الوقت المناسب. لحُسن الحظ أيضاً، أن صرختي باسم صديقنا الجبّار، جعلت الطواشي يتسمّر في مكانه. تبع ذلك فرار الشاب لا يلوي على شيء، وكأنما شعرَ بخطر داهم وخفيّ. في اللحظة التالية، كان القاتلُ المفترض يتلوّى ألماً في قبضة برو، الجبّارة. كان مستسلماً وحائراً في آنٍ معاً. لكنه سرعان ما أفاقَ من ذهوله، ليتكلّفَ الابتسام والملاطفة: " ماذا دهاكم، يا أصدقائي؟ "، قالها بصوتٍ مرتعش تأثراً. وكان جوابُ آسره، أن جرّده أولاً من الخنجر قبل أن يطلب منه السيرَ دونَ مقاومة. أعجبتني سرعة بديهة ربيب الأحاجي، وكيفَ أدرك من فوره أننا أمام ذلك الرجل، الذي بث الرعب مؤخراً في أفئدة ساكني المدينة القديمة.
بقيَ برو ممسكاً بساعد أسيره، بينما أنا وباسيل نتبعهما على مبعدة قليلة. هكذا سرنا باتجاه منزل صديقنا الجبار، وكانت الدروبُ مقفرة من السالكين في هذا الوقت المتأخر. حين وصلنا إلى المنزل المطلوب، وكان بابه يُترك دوماً دونَ رتاج، ألقى حكيم نظرةً ساخرة نحو السماء، أينَ لاح القمرُ خِلَل السحب الثقيلة. تفاقمت دهشتي من تصرّف برو، لما هُرع لإلتقاط حبل، يستعمله ولا شك في عمله، ليشدّ به وثاق الأسير. لقد نحّى جانباً مشاعرَ صداقةٍ وثيقة، ربطته بالطواشي في خلال الأشهر الأخيرة، ليغدو مسلكه أشبه بالسجّان الوفيّ لخدمته. كنا الآنَ في الحجرة الرئيسة بالرواق، وكان المكان مناراً بالقنديل، الذي رافقَ جولتنا الليلية. لكننا شعرنا بالحاجة إلى خلوةٍ، لكي نقرر فيها كيفية حمل أسيرنا على الإعتراف بجرائمه. هكذا تركناه مستلقٍ على الأرض ومستنداً بظهره إلى الجدار، فذهبنا إلى الحجرة الأخرى، المستعملة بمثابة المطبخ. رائحة مقيمة لفحم خامد، استقبلتنا هنالك، وعلينا كان أن نستوي وقوفاً لعدم وجود مجالس في الحجرة. لكننا أحتفظنا معنا بالقنديل المشتعل، وكان يضخّم ظلالنا على الجدران العارية.
" هلا أشعلت نار الموقد، لاستعمالها في تعذيب الرجل؟ "، قدّمتُ هذا الاقتراح دونَ عناء تفكير. رمقني برو بنظرةٍ سريعة، ثم عاد يُطرق في الأرضية. لكنه باسيل، من فاجأني بالرد: " أرى ألا فائدة من انتزاع المعلومات بالتعذيب، وأن الأفضل حثّ الرجل على الإعتراف وفق طريقة عقيدتنا المسيحية ". تلقاء نظراتنا المستفهمة، أستدرك بالقول مبتسماً في خجل: " سيفهم أننا مصممون على التخلّص منه، وألا مناص له من مصيره المقرر. عند ذلك، لن يجد معنى للاحتفاظ بأسراره وهوَ قاب قوسين من القبر "
" ولكن الكاهنَ المُعرِّف في عقيدتكم، يُساعد الخاطئ على التجرد من ذنوبه قدّام الرب ومن ثم يدعه ينصرف بسلام "، قلتها ملاحظاً. كنتُ قلقاً بسبب اقتراب الفجر، كذلك كنتُ مرهقاً ومبلبلاً. إن هذه المغامرة قد تكلفنا حياتنا، نحن الثلاثة، بالنظر إلى مركز الطواشي. مع أنني لم أكن على علم بعدُ، بتورط سلطانته في جانبٍ من هذا الأمر المستطير. قبل أن يفتح باسيل فاه ليرد، تدخل المضيفُ بالقول: " إذاً انتظراني هنا، وأنا سأحاولُ حملَ الرجل على الإعتراف ".

انشغلتُ عن أداء صلاة الفجر، برغم أن صوتَ الأذان المتصاعد من المسجد القريب ملأ حجرة المطبخ. كانت قد مضت ساعات على اختلاء برو مع الطواشي، غفوت في خلالها أكثر من مرة. كذلك كان حال باسيل، مع أننا كلانا تناولنا من الشراب الصينيّ، الذي يجعل الذهن يقظاً؛ وكان هذا أيضاً من أعاجيب صاحب المنزل. ثم ظهر هذا أخيراً، وكان ضوء النهار كافٍ لكي يفضح علامات التعاسة على ملامحه. همد على أرضية الحجرة، ليستند على الجدار المقابل لمجلسنا. قال ببطء دونَ أن ينظر إلى أيّ منا: " إنه أعترفَ بمسئوليته عن مقتلة الشباب، لكنه أصرّ على عدم وجود شريك معه ". انتظرتُ أن يستمر في الكلام، ليشرح لنا على لسان القاتل ماهيّة باعث القتل. فلما استمر بالصمت، فإنني قلتُ: " بطبيعة الحال، ألا يكون معه شريكٌ؛ هوَ الغريب عن المدينة. بيد أنّ ثمة سبباً جعله يقدم على تكرار القتل بنفس الطريقة، أليسَ صحيحاً؟ "
" نعم، وقد باحَ بالسبب. الحقد على البشر، وبالأخص الشبان الأصحاء، كان باعثاً كافياً للرجل كي يقتل "، أجاب برو. أردتُ الاعتراضَ، لتذكيره عن فرضيتنا بوجود امرأة وراء المشهد، لكنني أمسكتُ لساني: كان واضحاً أنه يتكتّم على معلومة خطيرة، تمسّ شخصاً عزيزاً عليه. ومن يُمكن أن يكون ذلك الشخص، غير السلطانة؛ مولاة الطواشي؟
عندئذٍ قمتُ بتغيير مجرى الحديث، لأتساءل عما سنفعله بالقاتل. قال برو بعد وهلة تفكير، وكان الارتياحُ بادٍ على سحنته: " إنه قررَ بنفسه غقوبته، فأكّدَ استحقاقه الموت ". كنتُ في الأثناء أرقبُ ملامح صديقنا النصرانيّ، التي ازدادت تجهّماً على أثر سماع الكلمات الأخيرة. تمتمَ قائلاً، كالضائع: " نحنُ أيضاً سنلوّث أيدينا بالدم ". لعله كان ما زال واقعاً تحت تأثير فكرة الإعتراف بمعناها المسيجيّ، ويرغب بترك الخاطئ يذهب في حال سبيله. فعلّقتُ على كلامه بالقول: " سيّان لو أطلقنا سراحه، أو سلمناه للعدالة؛ لأنّ هذا سيؤدي إلى هلاكنا. قد تتدخل مولاته لدى القاضي في سبيل تبرئته، وتكون دماء الضحايا قد ذهبت سُدى ".
نهضَ برو من مكانه في شيء من الحيوية، ليخاطبنا بنبرة حاسمة: " لن نلوث أيدينا بدمه، لأنني قررتُ أن أقتله خنقاً بيديّ ". سكت هنيهة، ثم أضافَ: " سأقوم بعد ذلك بدفنه في حديقة المنزل، برغم أنَ جثته تستحقُ الرميَ لضباع البريّة ".

5
هكذا أشرقت الشمسُ على المدينة، لتبعث الدفء والطمأنينة في أوصال ساكنيها. إذاك، لم نكن نحن الأصدقاء الثلاثة قد أدركنا حجمَ مأثرتنا، المتمثّلة بتخليص أولئك الناس من حالة الرعب. كنا من الإعياء والإرهاق والقلق، أن سلونا كل شيء إلا كيفية الإنتقال إلى الخطوة التالية، الحاسمة. لكنّ أحدنا كان ما يفتأ متردداً، ممتقع الوجه من مجرد التفكير بقرب لحظة تطبيق الحكم على القاتل. باسيل الجميل، كان إلى ذلك رقيقَ الشعور، فلم يكن ضرورياً استمرار وجوده معنا. فعلّقتُ على كلام المضيف، بالقول: " لا يسعنا سوى الدعاء لله بأن يشمل الرجل برحمته، لأنه كان صديقنا إلى يوم أمس ". ثم اتجهتُ إلى باسيل، طالباً منه العودة إلى المنزل كي يصيب شيئاً من النوم والراحة. وافقني بإيمائة من رأسه، المثقل بالنعاس، وما عتمَ أن نظرَ إلى المضيف بنظرةٍ مستفهمة.
قال برو لصديقنا النصرانيّ، مستعملاً نبرته الساخرة: " في وسعك الذهاب، بالطبع. ولا تتوانَ عن الصلاة من أجل روح الخصي المسلم، عسى أن يفيده ذلك ويضمن له مكاناً في الفردوس بصحبة الحوريات والغلمان ". بقيَ الآخرُ يحدق فيه للحظات، وربما كان يدوّر كلامه في ذهنه، ثم ما لبثَ أن تحرك من مكانه. رافقته إلى باب الدار، وفي طريقنا ألقينا نظرةً على الطواشي وكان يبدو غارقاً بالنوم. عندما عدتُ إلى حجرة المطبخ، بادرت بمخاطبة المضيف وكنتُ في غاية التوتر: " لو أردتَ التخلّصَ من صاحبنا، فلتفعل ذلك حالاً وبسرعة، كونه يغط في النوم ". دونَ حاجةٍ للتعقيب على كلامي، إنسحبَ من الحجرة بخطواته العملاقة. كذلك، لم يكن فيّ حاجةٍ لشهود عملية إعدام الخصي المسكين. رحتُ أدعو الله في سري أن يغفر للرجل ذنوبه، بينما كان هوَ في الحجرة الأخرى يتخبط بين اليدين الجبارتين. حل الصمت على الأثر، لكنني كنتُ ما أفتأ متأثراً لدرجة الارتعاش. كان ثمة بابٌ داخليّ، يُفضي من المطبخ إلى حديقة الدار، فاندفعتُ من خلاله طلباً للهواء المنعش وأشعة الشمس الدافئة.
كانت هذه المرة الأولى، أجدني فيها بالحديقة، فرحتُ ألقي نظراتٍ فضولية على ما يحيط بها: الجدران الملاصقة للبيوت المجاورة، كانت واطئة نوعاً ما، لكنها خالية من النوافذ. ثم طفت بنظري على موجودات الحديقة، الفقيرة بالأشجار والنباتات والرياحين، لحين أن استقر على بقعةٍ مقفرة: " تلك، يُمكن أن تكون مكاناً مناسباً للجثة "، قلت في نفسي. وإنما في اللحظة التالية، ظهرَ صاحبُ المنزل ويده تحملُ رفشاً. خاطبني بصوت منخفض وهوَ يحك لحيته القصيرة: " آه، أنتَ هنا إذاً ". ثم أتبع ذلك بالتوجه إلى تلك البقعة الخالية من الزرع، ليغرس الرفش في تربتها. هممتُ بسؤاله ما لو كان يملكُ أداةً أخرى، لكي أسهّل عليه العمل، عندما وضع يده على فمه كإشارةٍ لضرورة الحذر. آبَ بعدئذٍ إلى موقفي، ليقول لي بنبرة كالهمس: " سأتولى العمل كله، فلا تشغل بالك. أنت عليك الذهاب إلى وظيفتك، ثم نعود ونلتقي مساءً ". كنتُ قد قررتُ أخذَ عطلةٍ هذا اليوم، على أن أبرر ذلك لرئيسي لاحقاً بداعي المرض. بيد أنني أنصعتُ لنصيحة صديقي، فقلت له وأنا أتحرك لمغادرة المنزل: " حسنٌ، ستأتي أنتَ إليّ بعد صلاة العشاء ". بمروري من الرواق، عدتُ ألقي نظرةً عابرة على مَن كان إلى الأمس صديقنا المقرّب: كان جسده كله ملفوفاً بالبطانية الرثة، وقد برز منها الرأسُ وخصلةُ شعرٍ ملقاة على الوجه الأسمر المزرق، الفاغر الفم. فكّرتُ وأنا أسيرُ على الدرب بذلك المشهد، وكيفَ دبّرَ القدَرُ هذه النهاية البائسة لرجلٍ قضى معظم سني حياته يتنعّمُ في القصور ويرفلُ بالحرير.

حال وصولي للمنزل، قادماً من مقر عملي في الديوان، طلبتُ من الخادم ألا يزعجني لأنني في حاجة ماسة للنوم. لكنّه صديقي برو، مَن أخذ على عاتقه إيقاظي عندما حضرَ عقبَ أذان العشاء. كنتُ ما أني أهوّمُ، لما أنحنى عليّ مرةً أخرى ليهزني برفق من منكبي. لقد استرسلتُ بلا أحلام، لشدّة ما بي من إرهاق ووسن وقلق. سألته حالما فتحتُ عينيّ: " ألم ترسل إليك السلطانة أمراً بالحضور، لكي تبحث معك موضوع اختفاء خادمها؟ "
" لا، ربما لم يإن الوقتُ بعدُ "، رد بنبرته الساخرة. رفعتُ رأسي عن الوسادة، وكانت الحجرة منارة بضوء القنديل الكبير، المتدلي من سقفها. قلتُ لصديقي، متقمّصاً نفس النبرة الساخرة: " خبرُ إختفاء الطواشي وصل إلى الديوان، ومن مهازل القدَر أنهم أعتبروه أحد ضحايا ذلك القاتل، المجهول ". أطلق الضيفُ ضحكةً مقتضبة، ولم يعلّق بشيء. نهضتُ على الأثر لأتوضأ، فرأيتُ أن الخادم أعدّ سفرة العشاء. لم أكن قد أصبت سوى القليل من الطعام على الغداء، ثمة في الديوان، وذلك بسبب تعب الليلة الفائتة. غبَّ إنهائي الصلاة، دعوتُ صديقي لمشاركتي العشاء، فلم يمتنع كما هوَ مألوف عادته. خمّنتُ أنه بقيَ بمعدة فارغة طوال النهار. فلما تحققت من ذلك، أجابَ: " بلى، لأنني نزلتُ إلى عملي في السوق بعد نيلي بضعَ ساعاتٍ من النوم ". بعد فراغنا من الأكل، انفردتُ مع الضيف في حجرة الجلوس. كان لديّ أسئلة كثيرة، تتعلق بما يُمكن أن فاه به الطواشي قبل موته. عندئذٍ سرد لي برو مجملَ إعتراف الرجل الراحل، وكان قصّة مؤثرة برغم بشاعة الكثير من تفاصيلها.
تساءلتُ عقبَ انتهاء السرد: " ألم يخبرك أيضاً بموضوع الطفلة المفقودة، التي اهتمت السلطانة بالبحث عنها؟ ". سكتَ الضيفُ عن الجواب هنيهة، قبل أن يهز رأسه نفياً دونَ أن ينظر في عينيّ. أدركتُ أنه يكذب، وذلك بغيَة الاحتفاظ لنفسه بسرّ على جانب كبير من الخطورة. لم ألح عليه بهذا الشأن، معوّلاً على الأيام القادمة وأنها لا بد وتدفعه لفتح قلبه لي مجدداً.

* الكتاب الثاني من رواية " الأولى والآخرة "، المنشورة في الموقع عام 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه