الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألم ألألم … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 5
الادب والفن


جبار .. شاب طيب لا يزال يتعثر في سنواته العشرين .. شاءت الاقدار ان يتجه تفكيره توجها دينيا عاديا .. متدين روتيني لا يضر ، ولا ينفع كما اغلب المتدينين التقليديين البسطاء .. يذهب الى الجامع كل يوم يؤدي باختياره ما مفروض عليه من واجبات يعتبرها مقدسة بطيبة خاطر .. ينفذها بحذافيرها كالآلة دون جدل او نقاش او حتى مراجعة !
اثناء تردده على الجامع تقع بساطته ، وطيبته فريسة لحفنة من الشبان المؤدلجين ، فيسحبون عقله ، وتفكيره الى مكان آخر خطير ، بل في غاية الخطورة .. لم يدرك في البداية مداه ، ولا عمقه ، فينساق معهم دون ايمان حقيقي بطروحاتهم .. لم يشعر والده الكادح المسكين بهذا التحول المفاجئ في مسار حياة ولده العزيز ، والغالي .. فهو لا يملك غيره ، وهو ما طلع به من الدنيا ، وسبعة من البنات حتى يكاد لا يذكر اسماء البعض منهن … !
وتمر الايام هادئة رتيبة .. ولا اي مشاكل من اي نوع ، لكن الاتصالات بينه ، وبين رفاقه الجدد لم تنقطع ، ولم تخُف .. تستحوذ عليها انفاس السياسة العطنة اكثر من الدين .. مما ازعج جبار لان الدين هو اهتمامه الاول .. فكر كثيرا مع نفسه ، وتوصل الى قرار شد العزم عليه .. ان يبتعد عن هذه المجموعة ، ويتجنب الشر ، فتوقف عن الذهاب الى الجامع ، وبقي في البيت لا يغادره .. لكن هل يمكن ان يرخي الشر قبضته من على رقبته ، ويتركه في حاله ؟
تاتيه يوما احدى شقيقاته ، وتخبره بأن شخصا واقف على الباب يريده .. يسألها عن اوصافه فتخبره بانه شاب ضعيف البنية ملتحي .. يقفز من مكانه ، وكأنه شاهد ثعبان .. كيف عرفوا بمكانه ؟ تسائل مرتبكاً ، وهو يهم بالخروج .. استقبل ضيفه ، وادخله مُرحباً ، وبعد ترديد كلمات الضيافة سأله جبار السؤال الذي حيره قبل لحظات كيف عرفوا بمكانه .. اجابه الشاب بكل ثقة ، واطمئنان بانهم لا يخفى عنهم شئ ، ثم اخذ الشاب بدوره يسأل جبار عن اسباب تخلفه عن اللقاءات ، والحضور لاداء صلاة الجماعة .. فاعتذر جبار متعللاً بالمرض ، ومشاغل الحياة .. لكن الشاب قاطعه مستنكرا بان لا شئ يمكن ان يقف امام الرسالة المكلف بها الاخيار من المسلمين .. وعده جبار بانه سيعود الى اللقاء بهم بعد ان تستقر اموره ، وتتحسن صحته …
في تلك الليلة بقي ساهراً .. ليل مخيف لا يريد ان يتزحزح .. بانتظار نوم معاند لا يجئ .. أنشب القلق مخالبه في سكينته .. اي ورطة تورط ؟ فهو يعرف مدى شراسة النظام ، وبطشه .. قارب الفجر الاخرس على الانبلاج .. سمع عواء كلاب سائبة كأنه بكاء .. يحذره .. انقبض قلبه ، واحس بضيق كأنه على وشك ان يختنق .. بكى حتى شرق بدمعه .. أمسك نفسه حتى لا يتقيأ ، عقله لم يتوقف عن النشاط .. استعاد تصميمه على ان لا يذهب الى الجامع ثانية بعد اليوم مهما كان الامر ، ويكتفي بما يشاء من عبادة ، وغيرها في البيت … !
ظلت الشمس تواصل سقوطها الهادئ خلف حافة الافق البعيد .. تودع الارض الغريبة التي لم تعد ارضاً .. الا للموت والجفاف ، واللهاث .. خرج جبار ليروِّح عن نفسه ، ويشتري حاجياته بعد ان سئم البقاء في البيت ، وافترسه الملل .. جمعته الصدفة بواحد من معارفه المترددين على الجامع ، فاخبره بان كبسة قد حصلت قبل يومين على الجامع ، واعتقلوا المجموعة التي كان يلتقي بهم ، وحذره من الذهاب الى هناك .. راعه ما سمع ، وحمد الله لانه لم يستأنف علاقته بهم بعد ان زاره ذلك الضيف …
عاد الى البيت مسرعا يرتعد .. يملأ الخوف قلبه الصغير .. يا تُرى لمَّ لم يأتوا لاعتقاله ؟ هل يمكن ان من كان يجالسهم لم يذكروا اسمه ، ام لم يحن دوره بعد … ؟ مضت ايام كأنها قرون في ثقلها دون ان يحصل شئ .. شعر بشئ من الاطمئنان ، وبأن الخطر قد زال .. فقام ، وصلى ركعتين شكراً لله على السلامة .. لكنه بقي في البيت لم يغادره …
وفي ليل مجهول لا شخصية له ، اوغلت فيه الظلمة الموحشة .. بينما هجع الكل .. جاء ضباع الليل ، وانتزعوه من دفء الفراش .. تفوح في الجو انفاس الخوف والرعب .. ابوه لم يفهم شيئاً .. توسل اليهم بأن ابنه ليس له اي اهتمامات بالسياسة ، ولكنه كان يُكلم آلات لا احاسيس ، ولا مشاعر لها .. حتى الكلام كأنهم نسوه او نسيهم .. اخذوه ، وانصرفوا .. صمتٌ كالموت يستحوذ على المكان الذي فقد قيمته ومعناه بعد ان ذهب جبار الى المجهول .. تمر الايام كأنها جبال على ابو جبار لا تقبل ان تتزحزح ، لايستطيع فيها النوم .. يهجر النوم او يهجره ، وتخاصمه الطمأنينة .. كيف له ان ينام وقد اخذوا منه جزءً مهماً من قلبه ، وروحه .. لا يمكن ان يعوض .. يعيش العذاب ، والالم يوماً بيوم ، لحظةً بلحظة .. وام جبار المسكينة تنوح ملتاعة ليل نهار !
وها هي الأيام تمر ثقيلةً ، وتتبعها الشهور ، وابو جبار يلف على دوائر الامن الواحدة تقذفه على الاخرى ، ولكن من يعير اهمية لرجل فقير بائس مثله .. انه لا شئ بالنسبة لمنزوعي القلوب ، والرحمة من وحوش العصر المفترسة .. لا يتلقى منهم سوى الطرد او اللامبالاة ، وفي افضل الاحوال وعود مؤجلة كاذبة … !
وفي يوم توقف فيه كل شئ .. وتراجع الزمن حتى فقد كل معانيه ، كأنه لا لزوم له .. حتى الريح كانت خرساء بلا صوت ، وساكنة .. جاء من ينعي موت جبار معدوماً ، ويطلب من ابيه ان يذهب لاستلام جثة ابنه .. الموت قبيح ، قاس ، وعنيف .. مهما حاولنا مداراته ، وتجميله ، واعطيناه اسماءً أخرى مخففة … !
تُرى من منا يمتلك قلما عبقريا يستطيع ان يصف تلك اللحظة الرهيبة ، ويكتب الكلمات الاخيرة في خاتمة هذا الجزع العظيم … ؟ لحظة تذوب فيها المعاني ، وتتبدد الكلمات ، وتغادر الاقلام على عجل محرجة خجلةً ، ومعتذرة عن تصوير تلك اللحظة المسروقة من عمر الزمن !
ألا ما افزع فكرة النهاية … !! ألا ما أصعب الفراق .. لحبيب انتظرته ، وبنيت آمال الطيور في ان يضمك معه حيزاً صغيراً ، مهما كان ، واينما كان ! شهق الصمت بعبرته ، وبكت الازهار حزناً .. وانحنت الحياة اجلالاً امام تلك المعاناة الانسانية … ! عجباً .. من اي صمت يخرج كل هذا الالم ، وكل هذا الوجع … ؟!
كان جسد ابنه الغالي مسجى ميتا او شهيداً .. لا فرق مجرد تبديل كلمات ، وتداخل مفاهيم … هذا هو كل ما تبقى من جبار المسكين .. يحدق فيه ابوه بوجه ملئ بالتفجع ، والاسى .. يحمله بين ذراعيه ، ويضمه الى صدره بشوق .. يبكى بكاءً حاراً يمزق نياط القلوب ، وجسده الهزيل ينتفض ، ويتلوى .. يواصل احتضانه كأنه يحرس جسده الساكن من ان يأخذوه منه ثانيةً .. يشتم رائحته … وهو يصيح بصوت مجروح يمزقه الألم .. مستغيثا بكل ما تحتويه دواخله من حرقة ، ولوعة :
أُفيش … ولك جبيّر اشگد ريحتك طيبة … !!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما