الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي بالحياة … الوعي بالموت

فاطمة ناعوت

2021 / 1 / 5
حقوق الانسان


خلال أيام قليلة من نهاية العام الماضي 2020، فقدتُ عشرة أصدقاء مستحيل تعويضهم. بعضهم كانوا زملاء في كلية الهندسة، وبعضهم زملاءُ في الحقل الأدبي، وبعضهم أساتذة لي تعلّمتُ منهم وأدينُ لهم. وأولَ أمس خسرتْ مصرُ هرمًا من أهرامها العظمى في الدراما والتنوير والثقافة، هو الكبير الراحل "وحيد حامد". الموتُ صار حدثًا اعتياديًا في زمن كوفيد19، وصارت صفحات سوشيال ميديا قاعات عزاء ورثاء. أؤمن بأن جميع البشر من مليارات هذا الكوكب، قد صاروا اليومَ جاهزين لتقبّل فكرة الاختطاف الوشيك بالموت. اختطافُ أحباء لنا، أو اختطافنا نحن. ولأنني أكره بثّ الطاقة السلبية، وألجأ دائمًا إلى نشر روح الحياة والأمل، فكرتُ اليومَ، ومع بداية هذا العام الطيب بإذن الله، أن أكتب عن قيمة "الوعي بالحياة"، حتى نتأملها، بديلا عن فكرة التفكير اليومي في الموت تزامنًا مع زمن كورونا وسلالاتها.
في رواية "فيرونيكا تقرر أن تموت"، شيّدَ "باولو كويلو"، الروائي البرازيلي الشهير، مبناه الدرامي على فكرة "الوعي بالحياة والوعي بالموت". مقدارُ ذلك الوعي لدى الإنسان يُشكّل كثافةَ وجوده ومدى استعداده للحياة أو للموت. تستقبل إحدى المصحّات العقلية في سلوفينيا شابّة جميلة ومتحققة حاولت الانتحار. بعد إفاقتها من الغيبوبة التي داهمتها بعد ابتلاع علبة الأقراص المنومة، قالت فيرونيكا أثناء التحقيق معها إنها فعلت كلّ ما يمكن فعله في السنوات الأربع وعشرين التي عاشتها في هذه الحياة: نشأت في عائلة ثرية مترابطة، وتعلّمت تعليمًا جيدًا، وعملت بوظيفة مرموقة، وأحبّت وأحبها كثيرون واستمتعت بكل لحظة في حياتها. ثم أصبح كلُّ شيء في الحياة مُكررًا ومُضجرًا ومتوقّعًا! فلماذا عليها أن تعيش سنواتٍ إضافية وعقودًا طويلة حتى يقرّر الموتُ مداهمتَها بإرادته في شيخوختها؟! لماذا لا تذهب هي إلى الموتِ بكامل إرادتها الحرّة وهي في شرخ شبابها وتحققها وصحتها وبهجتها؟! ما فائدة ما تبقى من العمر مادام كلُّ ما يجرى فيه معروفًا سلفًا ومتوقّعًا وناقص الدهشة وحتمي النهاية؟! إن كان لا بدّ من الموت في نهاية الرحلة، فلماذا ننتظره ولا نذهب إليه نحن بملء إرادتنا؟ أنصتَ إليها طبيبُ الأمراض النفسية والعقلية فوجد أمامه امرأة شابّة كاملة الوعي والإدراك والذكاء. لم تكن بحاجة للخضوع إلى علاج نفسي أو دواء عقلي حتى تكفَّ عن محاولات الانتحار. لكنها بحاجة إلى "صدمة معرفية ووجودية" تجعلها تُدرك أن الحياةَ قيمةٌ في ذاتها، وأن ثمّة ما يستحق أن يُعاش من أجله، وأن الانتحارَ عبثٌ ومراهقة وهروبٌ. هنا يفكّر الطبيبُ الذكي في حيلة عظيمة. يقرّرُ "حقن" الشابّة المنتحرة بمصل "الوعي بالحياة"، إن جاز القول، عن طريق إيهامها أن محاولة انتحارها بابتلاع الأقراص المنومة قد أسفرت عن تلفٍ هائل في عضلة القلب، وأن أيامًا قليلةً أو أسابيعَ معدودة هي كل ما تبقى لها في هذه الدنيا. هنا تدركُ "فيرونيكا" قيمة أيامها التي توشك على الانتهاء، فترغبُ في الحياة وتعزفُ عن الموت. لكن الطبيب أصرّ على إيهامها أن موتها وشيكٌ وحتميّ، ولا حلَّ علميًّا أو طبيًّا لعلاج القلب التالف، وعليها أن تتقبّل تلك الفكرة. قررت فيرونيكا أن تستغلَّ كل دقيقة من كل ساعة من كل يوم من عمرها القصير الموشك على الانتهاء. في تلك الأيام القليلة تعلمت فيرونيكا عزف البيانو وراحت تساعد زملاءها في المصحة العقلية على تجاوز مشاكلهم، فساعدت "زيدكا" التي تعاني من الاكتئاب الحاد، و"ماري" التي تداهمها نوباتُ الخوف المرضي والفوبيات، و"إدوراد" الذي يكافح الفصام العقلي، وتجرّب فيرونيكا مشاعر الحبّ الحقيقي فتتمسك أكثر بالحياة، وترفضُ الموتَ.
إدراك الإنسان أن الموتَ وشيكٌ، يجعله يُقدّر ويُثمّن كل دقيقة من عمره قبل نفادها. وعلى العكس من ذلك، فإن شعورنا الغريزيّ بأن الموتَ قد يصيبُ الجميعَ إلا نحن، لا يسمح لنا بإدراك قيمة الحياة واحترام كل يوم جديد تشرقُ فيه الشمسُ علينا أحياءً. شعورُنا أن الموتَ بعيدٌ، لا يجعلنا ندرك عدد الأشياء العظيمة التي بوسعنا أن نؤديها خلال ساعة من ساعات حياتنا التي نهدرها هباءً.
كلُّ لحظة من أعمارنا هي حياةٌ كاملة علينا اقتناصها. أتذكّر الآن عبارة كتبتها "سوزان كولينز" في كتابها "Catching Fire”: (لأنني أستطيعُ أن أحصي على أصابعي عدد غروبات الشمس المتبقية في حياتي، فلستُ أرغبُ في أن يفوتني أيٌّ منها). الوعيُ بقيمة الحياة، هي رسالةُ الإنسان على الأرض. وتُقاسُ حياتُنا ومستوى ثرائها بحجم ما قدمنا لأوطاننا، وعدد مَن ساعدنا من بشر على اجتياز أزماتهم وعلاج أوجاعهم وضخ المعارف في عقولهم. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيتو أميركي ضد مشروع قرار منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في


.. بن غفير: عقوبة الإعدام للمخربين هي الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ




.. تاريخ من المطالبات بالاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في ا


.. فيتو أمريكي ضد منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم الم




.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية