الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة25

محمود شقير

2021 / 1 / 6
الادب والفن


حدثتنا أمي مراراً، عن معاناتها المريرة في السنوات الأولى لمغادرتها البرية، وقدومها للسكن في بيتنا الجديد في جبل المكبر. كان الجبل في تلك الفترة، قبل النكبة بعشر سنوات، خالياً من البيوت تقريباً. وثمة امرأة مشدودة القوام مثل فرس شموس، تظهر غاضبة كل فجر على مقربة من بيتنا، فتصيح بأهل البيت لأنهم ما زالوا نياماً في عز الفجر، تدعوهم إلى الاستيقاظ، ثم لا تلبث أن تختفي بعد أداء مهمتها التي لم يكن أحد يعرف السبب في إلحاحها عليها.
كان خوف أمي في تلك السنوات ينتقل إلينا بالتدريج، خصوصاً وهي تحدثنا عن همهمات مبهمة لرجال غامضين، تسمعها طوال ساعات ما قبل منتصف الليل، قادمة من كهف كبير لايبعد عن بيتنا إلا بضع عشرات من الأمتار. كانت الحقيقة تختلط بالوهم في ذهن أمي.
ولم تعد مضافة جدي لأبي، بعد عام 1948 تستقبل كثرة من الناس مثلما كانت الحال من قبل. أصبحت "التعليلة" تقتصر في أغلب الأحيان على أبناء العائلة وبعض أبناء العشيرة. وأصبح جدي، لا يخرج عن صمته إلا لكي يتحدث باختصار عن نعيم الجنة الموعودة وعن عذاب النار، أو لكي ينهى أحد المتحدثين عن استغابة الناس لما في ذلك من إثم، ومن مخالفة لسنن الدين الحنيف. وبين الحين والآخر، خصوصاً إذا تصادف مجيء ضيف من مكان بعيد، كانت مآسي القتل والتهجير القسري التي حدثت للفلسطينيين عام 1948 تحظى بقسط وافر من الاهتمام، يستذكرها الجالسون في المضافة، بشعور من الأسى والإحساس بالعجز أمام فداحة النتائج التي أصبحت ماثلة في الأذهان.
غير أن أحد أبناء عمومة أبي، لم يكن يجد متعته إلا في سرد الحكايات الساخرة، وفي التعليق الفكه على سلوكيات الناس وأخبار معاشهم وقعودهم وقيامهم، فلا يطيب لجدي الاستماع لمثل هذا الكلام. كنت أعجب من قدرة ابن العم هذا على تنميق أسلوبه، وعلى اختيار الكلمات التي تثير ضحك السامعين، وتدخل المتعة إلى نفوسهم. وكان يعرج في بعض الأحيان على ذكر أخبار النساء، مبرراً ذلك بالرغبة المشروعة في "التزهزه". يلذّ له أن يستطرد في وصف جمال النساء، وأن يشبه المرأة الجميلة ذات القوام الفارع بالمهرة الأصيلة.
أما عمي الأصغر، فقد اتصف بالشرود الدائم، وهو يظل في الغالب مطأطئ الرأس، ولا يفتأ يمرر أصابع يده على جبينه، يفركه، ثم يكرر الحركة نفسها على عينيه، فيبدو كأنه يغالب نعاساً ملحاً، ثم يرفع رأسه فجأة في منتصف الحكاية، لدى سماعه جملة فيها مثيرة للفضول، فيمعن في التساؤل عما فاته من كلام لعله يستوعب ما يدور من حوله. ولا يستطيع مواصلة التركيز، فيشرد ذهنه من جديد (يبدو أنني اكتسبت منه صفة الشرود هذه، إذ كثيراً ما يشرد ذهني وأنا أستمع إلى حكاية ما أو إلى نشرة أخبار، وحينما لا تتوفر لدي ثقة في أحد المتحدثين فإنني لا أستطيع التركيز على ما يقول، لاعتقادي بأنني لن أجني من كلامه أي شيء مفيد، وذلك موقف خاطئ بطبيعة الحال).
وكان زوج عمتي مغرماً بسرد الحكايات المملة، يحاول أن يسترعي انتباهنا بوسائل مصطنعة، كأن يضحك قبل أن يكمل جزءاً من حكايته، فلا يفلح في استقطاب السامعين، لكثرة ولعه بالاستطراد، ولرغبته الشديدة في التطويل. ولم يكن أبي وأعمامي، في أغلب الأحيان، يتحدثون عن شيء خارج إطار دائرة الأشغال التي يعملون فيها، حتى صرنا نحن الأطفال على معرفة بأشخاص لم نلتق بهم من قبل. تعرفنا مثلاً على مهندس الدائرة الذي ينتمي لأسرة مقدسية معروفة، غير أنه، بحكم عمره الغض، وقلة خبرته في الحياة، كان واقعاً تحت هيمنة مراقب الدائرة، وهو رجل شديد الطمع، مستعد لقبول الرشوات النقدية والعينية، مقابل تشغيل الناس في الورش أطول فترة ممكنة.
مرة، كان لدى ابنة عمي دجاجة وخلفها سرب من الصيصان، وضع زوجها الدجاجة وصغارها ذات صباح مبكر في صفيحة، ومضى بها إلى بيت المراقب الكائن في حي شعفاط، فقدمها له رشوة، ثم عاد منتشياً لأنه ظفر بفرصة للعمل، فسار على خطاه كثيرون من أبناء قريتنا. قدموا للمراقب بسطاً محلية نسجتها أمهاتهم وزوجاتهم من صوف الأغنام، وحملوا إليه صفائح من الجبن البلدي والسمن، وساقوا إليه الجداء والخراف. شكلت هذه الرشوات مادة رئيسة للأحاديث التي كانت تدور في مضافة جدي، وجدي يعلن أن هذا الأمر حرام.
بعد ذلك، تتعاقب الأحاديث فارغة مكرورة، تسير على منوال واحد لا تتعداه، وتأخذ في العادة شكل أسئلة باهتة عن أشياء معروفة، فتأتي الأجوبة باهتة على غرار الأسئلة. آنذاك، كان عمي الأصغر يستيقظ من شروده، فينخرط في "التعليلة"، ولا يندر في مثل هذه الحالة أن يداعبه أحد الجالسين مثنياً على إسهاماته المفاجئة، فيبدي تجاوباً حذراً مع هذا الإطراء، الذي يعرف الجميع أنه ضرب من ضروب السخرية. كانت "التعليلة" في مضافة جدي لا توغل كثيراً في الزمن، فما إن يرتفع صوت المؤذن معلناً عن صلاة العشاء، حتى ينهض الجميع للصلاة خلف جدي الذي يقف فيهم إماماً، ثم يتفرق الجميع إلى بيوتهم بعد انتهاء الصلاة.
ولم تكن تلك مهمة جدي الوحيدة، فهو يستعيد حيويته حينما تمتلئ مضافته بين الحين والآخر، بأعداد كبيرة من الناس الذين يتجمعون لكي يقضي بينهم في نزاع على قطعة أرض، أو في شأن امرأة يوشك زوجها أن يطلقها، أو ما يقع بين أبناء العشائر من مشاجرات لأتفه الأسباب. آنذاك، كانت المضافة تتحول إلى مكان يحظر دخوله على الأطفال، وقد تعرضت مرات عدة إلى خيبات مريرة، جعلتني حتى يومنا هذا أشعر بالرهبة والارتباك كلما دخلت على حشد من الناس. كنت أدخل المضافة، فتأخذني المفاجأة الضارية، حيث لا يعيرني أحد من الجالسين أي انتباه، حتى أبي الذي يكون جالساً بينهم يتحول إلى شخص غريب الطباع، فلا تنفرج أساريره ولا يسمح لي بالاقتراب منه. أما جدي فلا يكتفي بعدم الاكتراث، بل ينتهرني بغضب طالباً مني الانصراف، فأنصرف وأنا كسيف الخاطر متألم مما وقعت فيه من حرج.
استعضت عن ذلك بالانصراف إلى تفاصيل المدينة. يتسع عالمي بالتدريج كلما اقتربت من هذه التفاصيل. وصرت أشعر بالحبور لأنني أستطيع التنقل في شوارعها وأسواقها دون الاعتماد على أبي. كان شارع صلاح الدين آنذاك لا يشهد حركة واسعة كالتي نراها اليوم، فلم يكن على جانبيه سوى قليل من البنايات. كنت أقطع الشارع نحو سينما الحمراء، أتفرج على الملصقات التي تحمل صوراً لممثلين وممثلات، ثم أذهب للغاية نفسها إلى سينما النزهة التي تقع في آخر الشارع، ولا تبعد عن سينما الحمراء إلا مائتي متر أو أكثر قليلاً، أمضي بعض الوقت في الفرجة، ويكون الوقت ظهراً.
ولم أفكر بدخول السينما انطلاقاً من نصائح أهلي الذين وصفوها بأنها مضيعة للوقت، لكنني دخلت سينما الحمراء ذات مساء، دون تخطيط مسبق، لمشاهدة فيلم سنوحي المصري (فيما بعد قرأت شيئاً عن حياته في كتاب مصطفى مراد الدباغ، وعرفت أنه جاء إلى فلسطين "لاجئاً سياسياً" في القرن التاسع عشر قبل الميلاد هرباً من فرعون الجديد، وعاش فيها سنوات عدة، وتزوج من فتاة فلسطينية، ثم عاد إلى مصر بعد أن سمح له فرعون بالعودة إلى بلاده) فأصبحت السينما بعد ذلك مصدراً من مصادر ثقافتي ومتعة كبيرة لي في الحياة.
كنت أتناول طعام الغداء أحياناً في متجر عمي، أشتري قطعة من الحلاوة ورغيفاً من الخبز من أحد الحوانيت، ثم أجلس عند باب المتجر، أو في مقهى "منى" المقابل لمتجر عمي، متأملاً الناس الذين يعبرون السوق، وبعد ذلك أنهض عائداً إلى المدرسة لتمضية ما تبقى من وقت الدوام.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/