الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر

صباح هرمز الشاني

2021 / 1 / 6
الادب والفن


هذه الرواية تختلف عن الروايات الثلاث الأخرى التي سبق وأنتعرضت إليها لمؤلفها عبدالخالق الركابي، وهي أطراس الكلام، خانةالشواذي، وليل علي بابا الحزين، تختلف عنها ليس بسبب ما يشوبهاقدر من الغموض فحسب، وإنما أيضا لأن من يقدم على قراءتها عليهأن يكون ملما بفكر وفلسفة التصوف، أو على أقل تقدير أن تكون لديهفكرة، أو خلفية بسيطة عن فلاسفة ومريدي هذه المدرسة التي نشأتفي صلب الديانات السماوية وبالأخص الإسلامية.
تقع هذه الرواية في أربعمائة وخمس وعشرين صفحة من الحجمالمتوسط، وتنقسم فصولها الى سبعة أسفار، بإلحاق كل فصل بفرعمقرون بعنوان خاص به، يختلف عن عناوين الفروع الأخرى، بعكسالفصول التي كلها تأتي تحت عنوان واحد وهو كتاب الكتب، معززا كلفصل بسفر من الحروف الأبجدية التي لو جمعت حروفها السبعةلتكونت منها كلمة (الرحمن)، إبتداء من سفر الألف، وإنتهاء بسفرالنون.
والرقم (7) الذي يتكرر في الرواية، يستمده السارد العليم المتحدثبضمير المتكلم (أنا) من عدد أيام الخليقة السبعة المذكورة في العهدالقديم، في إشارة إلى الشخصيات الست لرواة مخطوط (الراووق)،فضلا عن شخصيته، بوصفها الشخصية المحورية في الرواية، وبذلكيماثل عدد رواة مخطوط الرواق للرقم (7) الوارد ذكره في سفرالتكوين. كما أن هذا الرقم يعم على أبناء (مطلق) السبعة، والحروفالتي وضعتها (ورقاء) في دوائر البالغ عددها سبع أيضا. وكلمة(الراووق) هي الأخرى تتكون من سبعة حروف. والرواة السبعة،بالإضافة الى السارد العليم حسب ترتيب حفظهم، أو كتابتهمللمخطوط هم: عبدالله البصير، مدلول اليتيم، عذيب العاشق، السيدنور، ذاكر القيم، وشبيب طاهر الغياث.
واللافت للنظر، أن السيد نور بالرغم من إقتران مخطوط الراووقبأسمه، لكونه أول من شرع في تأليفه، إلآ أنه يأتي رابعهم، ضمنالذين أسهموا في كتابة المخطوط. ثلاثة منهم شفهيا وثلاثة تحريريا. الرابع بالريشة وهو السيد نور والخامس بالقوبيا الذي هو ذاكر القيموالسادس بالحبر الذي هو شبيب طاهر الغياث، والسابع هو السارد. والثلاثة الذين تناقلوا المخطوط شفهيا هم : عبدالله البصير، ومدلولاليتيم، وعذيب العاشق.
والرقم (7) يحتل مكانا بارزا في الفكر العراقي القديم، إذ إنه يعودعلى الأغلب الى العهد السومري، وهذان النصان دليل على ذلك:

1- يرد في نبوة دانيال 14: 39 (وفي اليوم السابع أتى الملك ليبكيعلى دانيال فدنا من الجب ونظر فإذا بدانيال جالس.).
2- وعندما ماتت سارة بعمر(127) سنة ودفنت في مغارة مكفيلة حزنعليها إبراهيم كثيرا. وأقام لها مأتما سبعة أيام (تكوين 12: 25).

كما أن إعتقاد العراقيين، أن روح الميت تبقى على صلة بعالم الأحياء،فتسمع ما يجري بسبعة أو عشرة أيام بعد الموت، يضاعف هذاالتأكيد.1

لقد احتل الرقم (7) كما يقول حكمت بشير الأسود: (مكانة بارزة فيالعهد القديم، نتيجة تفاعل عوامل عديدة منها ما هو متعلق بالعالمالإلهي والسماوي في تفكيرهم ومنها ما هو مرتبط على الأرض، فكانأن أوجدوا علاقة بين الآلهة من جهة والكواكب السيارة من جهة ثانية،ثم ارتباط ذلك بالعالم البشري في مسألة خلق الإنسان عندما كانتالبداية بداية الإنسان لخلق سبعة أول ذكور وأول سبع إناث، هذانالعالمان الإلهي والبشري أرتبطا مع بعضهما من خلال تصورالعراقيين القدماء بوجود سبع سماوات وتعيش فيها الآلهة وسبعطبقات للأرض خصصت للإنسان، وأخيرا كان الرقم (7) حضورا فيعالم الزمان من حيث تقسيم الزمن الى وحدة قياسية مفيدة وهيالأسبوع الذي أرتبط بظهور أوجه القمر المختلفة . . .)2.
تدور أحداث هذه الرواية حول البحث عن مخطوط الراووق الذي فقدالأصل منه ،لذا تتباين آراء الرواة في ما تضمنه، وذلك بغية البلوغ الىالحقيقة في السيرة المطلقية التي يحاول البعض تشويه ما جرى فيهامن أحداث دامية، والبعض الآخر سردها كما جرت، كالسيد نور مثلا.
(والصوفي هو الحكيم الذي يطلب الحكمة الإلهية ويسعى لهاوالوصول الى الحقيقة الإلهية هو غاية التصوف أو المتصوف. ومدارالطريقة الصوفية أو خطتهم العملية في السعي وراء الحقيقة للوصولاليها محاسبة النفس على الأفعال والتروك وآداب خاصة بهم). 3
كما في سعي شخصيات هذه الرواية، للوصول الى حقيقة مخطوطالراووق، ومحاسبة السيد نور لنفسه بمغادرة كوخه ليعيش في حالةعزلة، كلما ألمت بالبلدة كربة، والإهانة التي يتلقاها عذيب العاشق فيالمدينة لتعلمه القراءة والكتابة، ذلك أن محاسبة النفس هي الأخرىأحد شروط الطريقة الصوفية.
يبدو لي، بإعتبار شخصية السيد نور من أبرز شخصيات الرواةوالمريدين للصوفية، وأكثرهم وقعا وتأثيرا على التغيرات التي يحدثهافي مخطوط الراووق، والمكانة المقدسة التي يحتلها في نفوس الديرة،فقد جاء أسم هذه الشخصية كذلك، (نور)، انطلاقا من اقترانه باليومالأول في بدء خلق الله السماوات والأرض، حيث خلق النور.
اليوم الأول: النور.

abdul khalik, [06.01.21 18:06]
((أمر الله: (ليكن نور)، ورآى الله النور فأستحسنه وفصل بينه وبينالظلام، وسمى الله النور نهارا، أما الظلام فسماه ليلا وهكذا جاءمساء أعقبه صباح، فكان اليوم الأول.)).4
تسير الرواية في إتجاهين متوازيين. يمثل الاتجاه الأول السارد العليمالذي تتفرع منه شقان اثنان وهما شق بدر فرهود وورقاء من جهة،والبحث للوصول الى حقيقة مخطوط الراووق من جهة أخرى. والاتجاهالثاني يمثله السيد النور الذي هو الآخر يتفرع منه شقان اثنان، هماالبحث عن الوصول الى حقيقة مخطوط الراووق مع مريدي التصوفمن ناحية، ودخوله في صراع مع مطلق من ناحية ثانية.
إن إقرار السارد من مطلع الرواية وعلى لسان (شبيب طاهر الغياث)،سادس رواة المخطوطة، في ختام الصفحات التي كتبها له، ملخصاجهده وجهود من سبقه من الرواة: (إنها محاولات تبدو كأنها لا تمتالى متن الراووق بصلة، بيد أن مرور الزمن وحده الكفيل بإدخال تلكالمحاولات في ذلك المتن.). إن هذا الإقرار إن دل على شيء، فإنما يدلعلى أن المخطوط لا يخلو من نقص. وتتكر مفردة (النقص) أكثر منخمس مرات في الرواية، للدلالة على أن الصوفية، لا تؤمن حسب رأيعبدالكريم الجيلي بالإنسان الكامل: ((ذلك أن الإنسان لا يزال يترقىحسب ما يتجلى الله عليه ويعطيه، ولا يجوز لبشر أن يتسمى(بالإنسان الكامل) إلآ الرسول الكريم سيدنا محمد (ص) ويؤكدالجيلي أنه يقصده بعينه عندما يذكر (الإنسان الكامل)).5
تأتي في المرة الأولى على لسان (بدر)، وهو يعزو سبب سعي المبدعالى الكمال في عمله، هو: (( الشعور بوجود (نقص) لا سبيل الىتلافيه.)). وفي المرة الثانية بمراودة مخطوط الراووق في ذهن السارد،وهو يسمع كلمات بدر: ف (النقص) بدوره بقي سمة ملازمة له، وقديكون السبب الحقيقي لإتخاذ ذلك المخطوط هذه البنية المفتوحة التيبقيت تنمو حتى الوقت الحاضر. . )). وفي المرة الثالثة على لسان بدرأيضا وهو يتذكر كلمات بدر، أثر شعوره باليأس من الوصول الىحقيقة مخطوط الراووق، مرددا إياها مرة أخرى. وفي المرة الرابعةوعلى لسان السارد العليم أيضا، متذكرا ما حدثه به بدر يوم زاره فيبيته عن ذلك الشعور المبهم الذي ينتاب كل مبدع – ضاربا بنفسهومتحفه مثلا – بوجود (نقص) في عمله.). وفي المرة الخامسة للتأكيدمن أن السارد وبدرا، يماثلان بعضهما بعضا في محاولتهما لتلافيالنقص الحاصل.

وإذا كان النقص والإختلاف في المخطوط والمتحف، يشكلان الوجهالسلبي لكتابة الرواية بالنسبة للسارد، فإنهما في الوقت ذاته يشكلان،بالتعويل على عملية التناقض، الوجه الإيجابي له. وذلك من خلالالإستفادة من هذا النقص لتلافيه عن طريق الكلمات التي يسطرهافي روايته، لتبدو، كما يقول: ( أشبه بمحاولة أخرى لتلافي النقصالكامن فيها).
وإذا كانت مفردة (نقص) تتكرر أكثر من خمس مرات في الرواية، فإنمفردة (متاهة) تتكرر أكثر من ست مرات، موظفة للمتحف ومخطوطالراووق في آن. أي بالتوازن بين عمل السارد وعمل بدر، وبعبارة أدق،إنسجام تشابك وتعقد سلالم المتحف مع طبيعة أحداث السيرة. فبقدرمعاناة السارد من البلوغ الى هدفه المنشود في كتابة روايته هذه، بناءعلى أحداث السيرة الحقيقية لمطلق ودكة موقعة المدفع، بالقدر ذاتهيعاني بدر من عدم قدرته على تطوير المتحف لما كان يصبو اليه ويدورفي خلده، بالرغم من أنه عمل الكثير من أجله.
تذكرني المتاهة الواردة في مخطوط الراووق والمتحف بمكتبة رواية(أسم الوردة) لأمبرتو أيكو.
أسم الوردة: (فالمكتبة تدافع نفسها بنفسها، لا يسبر غورها كالحقيقةالكامنة في أعماقها، وهي خادعة كالأكاذيب التي تحويها، هي متاهةروحية ولكنها متاهة أرضية أيضا. قد تقدر على الدخول إليها وقد لاتقدر على الخروج منها. ومع هذا تمتثل أنت أيضا لقاعدة الدير.).

والجملة الأخيرة: (ومع هذا تمتثل أيضا لقواعد الدير)، تماثل امتثالالسارد وبدر لقواعد العملية الإبداعية، الأول في كتابة روايته هذه،والثاني في تصميم متحفه، ولكن دون تحقيق الكمال لكليهما، شأنهشأن (غوليالمو) الذي لم يعرف عن سبب حماية (بورج) لأحد الكتبأكثر من غيرها. وبهذا تكشف هذه الرواية تناصها مع رواية أسمالوردة في المكان من جهة، ومع حبكتها من جهة أخرى، أي اللغزالمخفي في عملية القتل من خلال تسميم الكتاب، أزاء لغز عدم قدرةالإنسان على بلوغ درجة الكمال.
جاءت مفردة (متاهة) في المرة الأولى بالإشارة الى ضياع ست مراحلمن أحداث السيرة وسط مئات المرافق والأروقة والممرات والسلالم، وفيالمرة الثانية بإطلاق على إحدى غرف المكتبة بأسم (متاهة الراووق)،وفي المرة الثالثة للتخفيف من حدة فوضى هذه المفردة، لتأتي بهذهالصبغة: (هكذا كنت أقترب حثيثا من ختام التحقيق، مخففا معه منفوضى المتاهة المحيطة بي. .). وفي المرة الرابعة، في حيرة الساردالعليم بالاهتداء إلى المريد الذي بوسعه أن ينقذه من متاهة حشدالمصادر التي في متناوله: (هكذا وجدت نفسي فجأة بأزاء حشدنصوص تفتقد الاتساق والانسجام شكلا ومضمونا – كاسيتات وأوراقمكتوبة. .).

abdul khalik, [06.01.21 18:06]
وفي المرة الخامسة في تذكر السارد غرفة (الأرسي) الممتلئة والسريروالطاولة، بل الأرض: ((بتلك النسخ المصورة بشكل ذكرني بذلك المقطعالذي كتبه (شبيب طاهر الغياث) عن تلك الغرفة القابعة في نهايةمخازن المخطوطات، وكيف أنها لفوضاها غدت تعرف بأسم (متاهةالراووق)). وفي المرة السادسة ناعتا السارد مدينة الأسلاف على هذاالنحو: ( ها هي مدينة الأسلاف في وحشة أواخر الليل وقد أنسحبتعنها ضجة النهار فعادت متاهات وجزرا منعزلة، تبعث على اليأسوالقنوط.).
تقترن مفردة (المتاهة) هنا بالحسرة على الماضي والبكاء عليه، و تشيفي الوقت ذاته بإدانة الحاضر، لاتساع مدينة الأسلاف، المدينةالفاضلة التي يحلم بها السارد، وتحولها من أرض منبسطة متراميةالأطراف الى بنايات وعمارات عملاقة، أدت الى إختفاء كل ما كانيعبر عن معالم البساطة والعفوية والبراءة وأمكنة الأضرحة والمزارات: (كانوا حولي ألصق بجلدي من رائحة عرقي، يخنقون علي حاضريبثقل الماضي الذي لا يرحم. كانوا يحملون لي بوجودهم الأثيري،العزاء واليأس.). وفي مكان آخر يصف السارد مدينة الأسلاف، لمايدعو التقيؤ منها، وقد تحولت: ( بيوتها القديمة ذات الطبقتين التي تعلوالشناشيل المعهودة أبوابها الى بيوت خرجت منها الجنائز أكثر ممادخلت اليها الأعراس)، حدا بلغ: ( لم تتردد تحت سقوفها ضحكةطفل).
إن إيثار المتصوفين للأماكن المفتوحة على المغلقة، أي القرى علىالمدن، ربما مصدره من أن التصوف مبني على خصال التمسك بالفقروالافتقار، الذي هو واحد من أركان التصوف الثلاثة، وكذلك العزلةوالعيش وفي أماكن أقرب الى الأكواخ منها الى البيوت والقصور. أوكما يقول السيد نور: ( لأن البلدة مصدر شر.).

مثلما تكشف هذه الرواية تناصها مع رواية أسم الوردة لأمبرتو إيكو،كذلك فهي في تناص مع رواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيمجبرا، من حيث ضياع ثماني صفحات من مخطوط الراووق في روايتناهذه، حيال عدم الإهتداء الى مصير الشخصية المحورية في البحثعن وليد مسعود. في إشارة واضحة الى ضياع القضية الفلسطينيةفي هذه الرواية، وتدمير الحضارة لكل ما هو قديم في الرواية التينحن بصددها، وكذلك من حيث تعدد الأصوات في كلتا الروايتين(البوليفونية)، إذ تدلي شخصيات الرواية، كل على حدة بأصواتها أكثرمن الشخصيين المحوريتين. فضلا عن ورود الكاسيتات غير المجديةفيهما، ومصادقة الشخصيتين المحوريتين، لشخص واحد لكل منهما. في روايتنا مع بدر، وفي رواية البحث عن مسعود مع الدكتور (جواد).
والسارد في مكان من الرواية، يقر بتناص روايته هذه مع الرواياتالأخرى، وهو يقول: (أما ما يقلقك بشأن التناص والتشابه وما شاكلذلك، فأمر عفا عليه الزمن، ذلك لأنه لا مفر للروايات من أن تتشابه فيأسطر منها أو صفحات، لأن مادة جميع الروائيين على سطح هذاالكوكب هي الحياة نفسها. .).كذلك فإنها في تناص مع حكايات (ألف ليلة وليلة)، وهنا أيضا يقرالسارد بتناص روايته مع حكايات ليلة وليلة وهو يقول: (كأنني أقرأألف ليلة وليلة).

كدأب السارد العليم (المؤلف) لاستخدامه تقنية الإيحاء في الرواياتالثلاث الآنفة الذكر، فقد أستخدم التقنية ذاتها في هذه الرواية، إبتداءمن إشارة السارد الى أسم (ورقاء)، بإعتبارها الخيط الذي شده إليهاأكثر انسجاما مع لحمة هذه الرواية وسداها. ومرورا بسماعه للهاثوهمس أنثوي على الهاتف تحت أسم (إلهام) ليباغت المتلقي أنصاحب هذا الهمس واللهاث هي (ورقاء). مع أن كلا الإيحائين، جليانللمتلقي المتابع للرواية، ومثلهما الدوائر التي حددتها ورقاء بقلمالرصاص حول سبعة حروف من بين بعض الكلمات الموزعة على تلكالصفحات الموجودة داخل المظرف المغلق، والحروف السبعة تشكلجملة: (متى تفهم؟)، وتتكرر هذه الجملة خمس مرات في الرواية.

كما أن نفي (طارش الابن البكر لمطلق، بسرقة أغنامه من قبل المتهمالأكيد فيها (معيدي)، وغيابه عن حضور أغلب جلسات المضيف، وعنالقلعة أيضا، حدت الأسباب الثلاثة لأن يرتاب مطلق بأمر نجله، بمايوحي الى أنه في ورطة. أو قد خرج عن إرادته، وتمرد عليه.
وإن جملة: (وفوق رأس طارق وقفت إمرأة غارقة في السواد، وهي ترنواليه بإشفاق)، توحي الى أنها تتعاطف معه. بيد أن الجمل الثلاث التيأعقبت هذه الجملة، توحي الى أن مطلق سيتزوج من هذه المرأة. والجمل الثلاث هي: 1- (مات زوجها بالوباء، وكذلك طفلها.). 2- (لقدماتت أمي أيضا). 3- (اطمئن فأخي الرضيع (جناح) لم يمت بفضلرازقية.
(تكلم السهرودي في أنواع الصوفية وفي ذكر الملامتي وشرح حالهوهو الذي يكون في ظاهر حياته ما يدعو الى الملامة وتكلم في رتبةالمشيخة وأنها أعلى الرتب في طريق الصوفية، بل هي نيابة النبوة فيالدعاء الى الله، والسر في وصول السالك الى رتبة المشيخة أنه أمربسياسة النفس كما يشاء الشيخ، ويكون في الشيخ حينئذ معنىالتخلق بأخلاق الله تعالى. . .).6

abdul khalik, [06.01.21 18:06]
جئت بهذا الكلام للسهرودي، لأبرهن كيف أن السارد في روايته هذهيعول على الشخصيات الصوفية، ويوظفها في أنواع الرتب المصنفةفيها، آخذا شخصية السيد نور، نموذجا لنيابة النبوة في الدعاء إلىالله، من خلال المعجزات التي قام بها، والقناعة التي يتحلى بها. وأولىهذه المعجزات هي إصلاح ربابة عبدالله الصير، أثر لجوئه الى كوخالسيد نور. ولأن (القناعة) من أبرز آداب وطرق الحياة هي أشبهبدستور التصوف، فقد دخل السيد نور في قطيعة مع مطلق الذيأعماه الجشع، ليهجر كوخه مع أول آجرة توضع في أسس القلعة. وتتكرر مفردة (القناعة) أكثر من ست مرات في الرواية. وعندما لميسمع مطلق الى تحذيرات السيد نور المتكررة من وقوع الكارثة، بسببالتمادي في جشعه وتعاونه مع حكام المدينة، يحدث الطوفان، ويعقبهمرض الطاعون.
إذا عرفنا أن هذه الرواية قد صدرت عام 1994، وأن داعش دخلالعراق عام 1914، ووباء الكورونا عام 2020، وأن الاحتلال الأمريكيعام 2003، ترى أليس هذا دليلا لتنبؤ السارد العليم وقراءته لمستقبلالعراق، قبل دخول داعش في العراق بعشرين سنة، يحدث الطوفان،وست وعشرين سنة تحل الجائحة وتسع وعشرين سنة تقع واقعة دكةالمدفع؟! وبعبارة أدق، أن ما حدث في الماضي، يحدث الآن، أو أنهسيحدث. لذا فإن الماضي يئن تحت ثقل الحاضر، كما تئن مدينةالأسلاف من المدينة التي توسعت كثيرا، وقضت على كل ما هو موجودمن الحياة الحقيقية في البلدة. وبذا فإن التماثل بين الماضي والحاضريجري على هذا النحو:
الطوفان = داعش
الطاعون = الجائحة
موقع دكة المدفع = الإحتلال الأمريكي.
الأول من خلال التكالب على تقسيم غنائم العراق، مقابل جشع مطلقللثراء. والثاني عبر صراع الطوائف والقوميات والأحزاب السياسيةعلى السلطة في العراق، مقابل تعاون مطلق مع الحكومة وعدم الأخذبمشورة مطلق في عدم بناء القلعة. والثالث بالعصيان على الحكومةوالتعاون مع الأجنبي، مقابل استعلاء مطلق بقوة السلاح والانفرادبرأيه.
والجميل في هذه الرواية، هو الجملة التي يطلقها مطلق بعد إصابتهبمرض الطاعون، داعيا أهل الديرة بأن يأخذوه الى السيد نور ليشفيهمن مرضه، والأجمل، أنه يزحف حبوا الى كوخ السيد نور، عندما يجدنفسه وحيدا ولا يستطيع أحد من التقرب منه ومساعدته، والأكثر جمالادقاته على باب السيد نور، هذه الدقات التي تذكرني بدقات ماكبثالتي تفوح منها رائحة الخيانة في مسرحية (ماكبث) لشكسبير. ومعهذا عشيت عينا مطلق بنور وجه السيد نور: (وشعر قبل أن يغمى عليهبتلك اليد الحانية تمسح على جبينه الملتهب. . .).
يبدو لي أن شخصية السيد نور قريبة الى حد كبير من شخصيةسيدنا يسوع المسيح، لجملة أسباب، أولها، تسامحه مع الأعداء فيقوله المعروف: ( من ضربك على خدك الأيسر در له خدك الأيمن)، فضلاعن المعجزات التي كان يقوم بها. كما أن: (وجود أفكار مشتركة بينالديانات المقدسة، ينعكس على الأفكار التصوفية، وعلى المنطقالصوفي، وهذا لا يشكل حجة لصالح النظرة الأحادية التي تربط نشوءالتصوف بالمؤثر المسيحي. ومن المهم الإلتفات الى حقيقة تأثرالمتصوفة المسلمين وغير المتصوفة أيضا بأقوال السيد المسيح وتعاليمهالروحية، مستندين في ذلك الى الأخبار والمعاني القرآنية التي تتحدثعن فضائله السامية.).
(إذا كان المؤلف يجتهد بخلق المكان الملائم لديمومة الأحداث ويفتحطريقا أمام شخوصه لتقصي الأهداف، فإنه في الوقت نفسه يسهمبتعميق الحسي بالمكان من حيث إمكانية التحرك فيه أو مغادرته فيمواجهة المكان أو تحطيمه أو سيطرة المكان بوصفه قوة ضغط علىالأبطال والهيمنة عليهم. لذا فإن المكان يعد مناوئا للأبطال ومعاديا فيبعض الأحيان وإن بدا أليفا لهم سواء أكان مغلقا أم مفتوحا أممحايدا).7
تتحرك شخصيات روايتنا هذه في الأمكنة التالية: المتحف ، الديرة،المدينة، القلعة، السلالم، الكوخ، غرفة السارد، المكتبة، التكية وأخيراالجامع. وبهذا تكون أحداث هذه الرواية، تدور في أكثر من بعد واحد. وما يهمني منها ثلاثة فقط، كونها أكثر تأثيرا على شخصيات الروايةومجريات أحداثها، وهي المتحف والقلعة والكوخ.
1-الكوخ: يقول الناقد ياسين النصير في كتابه الرواية والمكان: (عندماترى الأكواخ ترى ثقل الفضاء الخارجي عليها وكأنها تنوء تحت وطأته،فما كان منها إلا وأن تكورت منحنية على بقعة صغيرة، احتوت بشراهم أيضا ينوؤن بثقله الخارجي.)8 .
ولو حاولنا تطبيق ما ذهب اليه النصير على (السيد نور) مثلا الذييعيش داخل كوخ، لوجدنا أن هذا الشخص مثلما، ينوء تحت ثقله فيعزلة تامة، كذلك فهو ينوء بالقدر ذاته بالثقل القائم في الخارج. أي أنهرغم عزلته، فهو متواصل مع العالم الخارجي وغير منقطع عنه، وها هوعبدالله البصير يلجأ اليه لأن وتر ربابته قد أنقطع.

abdul khalik, [06.01.21 18:06]
والتقرب الى العامة والدفاع عن الخير ضد الشر، هما من أبرزالصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المتصوف، لذا فهو لم يواجه مطلقأثناء سعيه لبناء القلعة وغادر الديرة فحسب، وإنما أحرق الشخصالذي حاول سرقة المخطوط أيضا بإعتبار المخطوط ملكا لعامة الناس،وليس لفرد واحد، وإن كان هذا المخطوط في كوخه، كوخ السيد نور. لذا فإن المكان في كلتا الحالتين، لمطلق والسارق، يعد مكانا معاديا،بينما يعد لعبدالله البصير والسيد نور مألوفا.
2- القلعة: بارتفاعها وقوتها وصمودها تجاه عوامل الطبيعة المتقلبة،وباتجاه الغازين، مثلما تعبر نفسها عن نفسها، كذلك فهي من الداخلوالخارج تعبر عن شخصية مطلق، ولكن ليس من ناحية الخير، بل منناحية الشر، لذا فهي تعد مكانا مألوفا بالنسبة لمطلق، رغم النهايةالمأساوية التي أدت به وبأبنائه وأهل الديرة من أجلها، وتعد مكانامعاديا بالنسبة للسيد نور. لذا فإن السارد لتشويه صورتها من الداخلوالخارج ينعت الأبنية التي أرتفعت فوق أسوارها بالخرسانية، ما يبعثالتنافر والبشاعة منها، والدوار والرهبة.
3-المتحف: هو المكان الذي يضم الآثار القديمة، ولا سيما آثارالحضارة القديمة في عهد سومر وأكد وبابل وآشور. ومثل هذه الأمكنةغالبا ما تكون فضاءاتها مفتوحة على الغرف التي تتفرع من صالاتهاالكبرى، بهدف ترابط الحقب التي أنجبتها هذه الآثار مع بعضهاالبعض، كما أن بناياتها تتسم بأحجام ضخمة، وربما غير متناسقةويلفها الغموض أيضا، لتبث في نفس الزائر نوعا من الرهبة والقدسيةوالاحترام للآثار التي يشاهدها، وتبلغه في الوقت نفسه، بقساوةالظروف التي مر بها تأريخنا العريق، وأنه لم يبلغ هذه الدرجة منالرقي والتطور، إلآ بالجهود الجبارة التي لا تزال أسماؤها خالدة فيسفر التأريخ.
اقترانا بهذا الماضي، ينشأ السارد متحف الرواية، تحديدا بطبيعةأحداث السيرة، وذلك من خلال اللجوء الى قاعة السيد نور القائمةداخل المتحف ناعتا إياها على هذا النحو: (فقد كان سقفها مجوفامثل باطن قبة يضفي عليها هيئة ضريح تكتنفه الاسراروالغموض،وثمة مزيج من رائحة البخور والحناء يفوح منها على الدوام. وكانت تكثر فيها المنحنيات والزوايا والأقواس المسنودة الى أعمدةدقيقة، تزين جدرانها المرايا الطويلة الضيقة التي تعكس المزيد منالظلام.). وكذلك في سلالم المتحف، عبر: (سر الاختلاف بين سلالمالصعود في تشابكها وتعقدها – وبين سلالم الهبوط – في وضوحهاوترتيبها).
المصادر:
1-الرقم سبعة في الحضارة العراقية القديمة، حكمت بشيرالأسود.المملكة الاردنية الهاشمية، الطبعة الأولى عام 2013.
2-المصدر السابق نفسه.
3-تأريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب. محمد لطفي جمعة. القاهرة.2016
4-التفسير التطبيقي للكتاب المقدس. القاهرة. التعريب والجمعالتصويري والأعمال الفنية شركة ماستر ميديا.
5- الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل – عبدالكريم الجيلي.
6-تأريخ فلسفة الإسلام في المشرق والمغرب – محمد لطفي جمعة. القاهرة. 2016.
7-المكان في النص المسرحي. الدكتور منصور نعمان 1999.
8-الرواية والمكان، دراسة المكان الروائي. ياسين النصير. الطبعةالثانية. دار نينوى. سورية – دمشق.

Skickat från min iPhone








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن