الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آرثور شوبنهاور (1788 – 1860 )

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 1 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



فيلسوف مثالي ميتافيزيقي ألماني، ولد في عائلة أصحاب البنوك، وتلقى علومه في بريطانيا، ثم جاءت أحداث عام 1848 التي أدت إلى تحول البورجوازية في ألمانيا إلى قوة رجعية، وأوقظت في نفسه حقدا دفينا، كراهية لا تحد، للجماهير ولتطلعاتها الثورية، فقد كان عدو الفلسفة المادية والجدل.

كانت ألمانيا عهدئذ–كما يقول جورج طرابيشي- "قيد اختمار مكثف؛ ففي الفلسفة عُقِدَ إزار النصر للمذاهب الكبرى اللاحقة على كانط: فيخته وهيغل وشلينغ؛ وبتهوفن انتهى من تأليف السمفونيتين السابعة والثامنة؛ وفيخته ألقى في عامي 1807 و1808، في برلين التي كان لا يزال يحتلها الفرنسيون، خطاباته الشهيرة إلى الأمة الألمانية"([1]).

حياته:
"نشأ شوبنهور الصغير في جو مشبع بروح العمل وكسب المال، وعلى الرغم من انه هَجَرَ حياة التجارة التي دفعه والده اليها، فقد تركت أثرها في نفسه وطَبَعتْ نظرته إلى الحياة بطابع الواقعية في التفكير ومعرفة بطبيعة الناس، ومات والده منتحراً على الارجح في عام 1805.

قال شوبنهور انه "ورث من ابيه خلقه وارادته، وعن امه ذكاءها، لقد بلغت أُمه أوج الشهره في عالم القصص والروايات، وغدت احدى مشاهير كتاب القصة في ذلك الوقت، لكنها لم تكن سعيدة في حياتها مع زوجها الذي لم تساعده ثقافته على الامتزاج معها، وعندما توفي زوجها انطلقت – تبحث عن الحب المتحرر بعد ان تحررت من قيود هذه الحياة الزوجية"([2]).

وقد ثارت ثورة شوبنهور على هذا الاتجاه الجديد من أُمه، وأثَّر النزاع بينهما على نفسه وأثار فيها مقته الشديد للنساء الذي رافقه طيلة حياته، وهكذا تم الاتفاق بينهما على ان يعيشا منفصلين بعد ان تعذرت الحياة بينهما، واصبح شوبنهور لا يتردد على منزل امه الا كما يتردد عليها الضيوف والزوار من وقت لاخر.

وقد "زاد في توتر هذه العلاقة ان "جوته" الذي كان يحب أم شوبنهور ان قال للأم يوما بأنه سيكون لولدها شأن عظيم، وسيغدو رجلاً مرموقاً ومشهوراً، وقد اثارت هذه الملاحظة استياء الام وغيرتها من منافسة ولدها لها في شهرتها، واخيراً في ذروة نزاع بينهما، دفعت الام ولدها ومنافسها في نبوغها من أعلى درج منزلها، ولكنه نهض واقفا وقال لها بصوت مختنق من المرارة والحسرة، ان الاجيال القادمة لن تعرفها، وتسمع بها الا عن طريقه، واسرع فيلسوفنا في مغادرة مدينة "فيمار" وعلى الرغم من ان أمُّه عاشت بعد ذلك أربعة وعشرين عاماً فانه لم يرها بعد ذلك الحادث بينهما"([3]).

ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد، ان "بيرون" الشاعر الانجليزي ولد في عام (1788) وهو العام الذي ولد فيه شوبنهور، وكان حظه مع امه سيئاً مثل شوبنهور، وقد انتهى به هذا الحرمان من عطف أُمه إلى ما انتهى اليه شوبنهور من تشاؤم، فالانسان الذي يحرم من حنان الأُم وحبها ولا يعرف سوى مقتها وكراهيتها، لن يفتنه أو يغريه بعد ذلك شيء من محاسن الدنيا ومباهجها.

على أي حال، ورث شوبنهور حصة من مصنع خَلَّفُه أبوه، وعاش في اعتدال على ريع هذه الحصة، وَمَكنَّه دخله هذا من استئجار غرفتين في بنسيون، عاش فيهما الثلاثين سنة الباقية من حياته بلا صديق سوى كلبه، الذي اطلق عليه اسم "اطما" (وهو اسم يطلقه البرهمى على روح العالم) ولكن سكان المدينة اطلقوا على كلبه اسم "شوبنهور الصغير".

وفي تلك الفترة ، يقول ديورانت: "واصل شوبنهور العابه الرياضية ودراسته الجامعية، واستوعب من المعلومات فوق ما درسه في برامج الجامعة، وسَخِرَ من الحب والعالم وألقى بهما من وراء ظهره، وقد طبع هذه الاتجاه حياته وترك أثره في أخلاقه وفلسفته، وغدا كئيباً ساخراً مرتاباً، قلقاً تستبد به المخاوف ويخشى على نفسه من شرور الناس وغدرهم، وأغلق على نفسه الابواب، ونام ومسدسه محشوا بالرصاص دائماً إلى جانبه في انتظار من تحدثه نفسه من اللصوص بالسطو عليه، وعلى الرغم من ذلك، كان شوبنهور يحس في اعماق نفسه بعظمته، على الرغم من عدم اعتراف الناس به.

لقد عاش وحيداً بلا أم ولا زوجة ولا ولد، ولا أسرة ولا وطن ولا صديق، ولم تلهب حمى الحماس الوطني التي اجتاحت عصره شعوره واهتمامه، فانصرف بكل وقته وقوته على كتابة كتابه الذي اطلق عليه اسم "العالم كارادة وفكرة" وعندما ارسله للناشر علق عليه بقوله: "ان هذا الكتاب ليس مجرد سرد لافكار وآراء قديمة، ولكنه بناء شامخ متماسك من الآراء الأصيلة، والبيان الواضح، ولا يخلو من الجمال على الرغم من عنف أسلوبه، انه كتاب سيكون في المستقبل مصدراً وموردا لمئة كتاب.

لكن كتابه هذا، لم يلق رواجا أو اهتماماً، فقد كان عاَلم المجتمع الألماني فقيراً ومتعباً، ولا حاجة به لقراءة كتاب عن فقره وتعبه، وبعد ستة عشر عاماً من طبع الكتاب ابلغ شوبنهور ان جزءاً من نسخة كتابه بيعت بالجملة ورقا تالفاً ليستخدم في رزم ولف البضائع، "وقد اشار شوبنهور في مقال عن الشهرة في "حكمة الحياة" إلى كتابه العظيم هذا بِحُرْقة وأسى بقوله: "ان كتاباً مثل هذا أشبه بمرآة، إذا نظر فيها حمار فلا ترجو ان يرى فيها ملاكا"([4]).

ويواصل شوبنهور كلامه بصوت الكبرياء التي اصابها جرح: "كلما كان الكاتب أو الفيلسوف عبقرياً ويكتب للاجيال القادمة، أو بعبارة أوضح للإنسانية بوجه عام، كان غريباً بالنسبة إلى معاصريه الذين يعيش بينهم، لان كتابه ليس موجها لهم وحدهم، بل يخاطبهم كجزء من الانسانية عامة، لذلك سيكون هذا الكتاب خالياً من الصبغة المحلية التي تستهويهم، وتسترضيهم وتنال قبولهم، وكمتشائم حساس، فقد تجنب الوقوع في حفرة المتفائلين، وأبى أن يُسَخِّر قلمه للكسب، أسوة بسقراط، الذي كان يرفض أجراً من تلاميذه، ومع ذلك فقد تجاهلته الجامعات وتجاهلت كتبه، وكأنها بذلك قد أيدت زعمه بأن ما أحرزته الفلسفة من تقدم كان خارج جدران المعاهد العلمية"([5]).

قال نيتشه "لا شيء أساء إلى أساتذة الجامعة والعلماء الألمان أكثر من مخالفة شوبنهور لهم، ولكنه صَبَرَ وكان على ثقة من اعتراف الناس به، مهما جاء هذا الاعتراف متاخراً، وقد "تحقق رجاؤه فأقبل المثقفون من ابناء الطبقة المتوسطة من محامين وأطباء وتجار على قراءة كتبه، لأنهم وجدوا فيه فيلسوفاً لا يقتصر بحثه على ادعاء معرفة أوهام الميتافيزيقا الخيالية، بل يقدم لهم دراسة وافية واضحة عن ظواهر الحياة الحقيقية، فقد اتجهت أوروبا، التي خيبت ظنها المثالية والجهود التي طبعت عام 1848 بطابعها، إلى فلسفته التي صورت حالة اليأس التي عرفتها أوروبا في عام 1815، كما ان هجوم العلم على اللاهوت، وآثار الحرب وانتشار الفقر، والكفاح من أجل البقاء والدعوة إلى النظم الاشتراكية، كلها ساعدت شوبنهور ورفعته إلى ذروة المجد والشهرة، ولم يكن قد بلغ من الكبر عتيا ليقعده عن التمتع بشعبيته وشهرته، واخذ يقرأ بشغف وشرَه كل ما كتب عنه من مقالات. وطلب من اصدقائه ان يرسلوا له كل ما يصل إلى ايديهم من تعليقات تنشرها الصحف حوله، وتعهد ان يدفع لهم اجرة البريد"([6]).

عصر شوبنهاور وآثاره على فلسفته:
" ارتفعت أصوات التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر في أوروبا، وعلت أصوات الشعراء المتشائمين في كل مكان: "بيرون" في انجلترا "ودي موسيه" في فرنسا، "وهيني" في المانيا، "ليوباردي" في ايطاليا، "بوشكين وليرمونتوف" في روسيا، وظهرت طائفة من الملحنين الموسيقيين المتشائمين من أمثال شوبرت وشوبان. وحتى بيتهوفن كان موسيقياً متشائماً يحاول ان يقنع نفسه بأنه متفائل، ولكن ارثرشوبنهور الفيلسوف الألماني طغى على هؤلاء جميعاً في روح التشاؤم التي طبعت حياته وفلسفته"([7]).

لطالما عانى أرتور شوبنهاور من سمعة لازمته طويلاً باعتباره متشائماً متطرفاً، ومشاكساً شرساً، كارهاً للبشر، وناقداً لاذعاً للفلاسفة المثاليين الألمان من أمثال فيخته ، أستاذه بجامعة برلين؛ وشيلنج الذي كان معاصراً مباشراً له؛ وهيجل ، زميله المنافس له في كلية الفلسفة بجامعة برلين، ولم يظهر أبداً أنه كان يُكِنْ احتراماً كبيراً لهيجل، ولكن منذ سنة 1820 فصاعداً لا نجد في كتابات شوبنهاور أثراً لكلمات طيبة عن هيجل.

اشتهر شوبنهاور "برؤية تقوم على أن "العالم هو تَجَلِّ لقوة عمياء مندفعة لاواعية يمكن وصفها "بالإرادة" "Will"، وبان وعينا بهذه الإرادة يعكس بوضوح النحو الذي يكون عليه الواقع في ذاته"([8]).

لقد ظهر كتابه "العالم كارادة وفكرة" في عام 1818، وفي هذا الجانب يقول ديورانت "ان شيئاً من تمجيد شوبنهور للإرادة يعود إلى تأثره بنابليون، كما ان شيئاً من يأسه يعود إلى تأثره بخاتمة نابليون المحزنة، لقد هُزمت الإرادة أخيراً بهزيمة نابليون، وانتصر الموت كعادته في كل الحروب، وعاد "البوربون" إلى المُلْك في فرنسا، وعاد أُمراء الإقطاع للمطالبة في استرجاع أراضيهم، وانتشرت حركة رجعية (في ألمانيا وأوروبا) وراحت تعمل على قمع التقدم في كل مكان، وانتهى العصر العظيم، وقال جوته في ذلك العصر: "اشكر الله، بانني لست شاباً في مثل هذا العالم المضطرب الذي انتهى فيه كل شيء بالخراب"، كما تأثر شوبنهور اثناء سفره وطوافه بفرنسا والنمسا عام 1804 بما شاهده من حياة الفوضى والدمار والقذارة في القرى، والفقر المدقع الذي انتشر بين الفلاحين والبؤس والتوتر الذي ساد المدن.

لقد "كانت أوروبا مسرحاً للقتال الدائر بين جيوش نابليون وجيوش اعدائه، وخَلَّفتَ هذه الجيوش آثار الدمار والخراب في كل بقعة من بقاع أوروبا، وتعرض العمال فيها إلى جميع أنواع الرعب والخوف التي رافقت النظام الصناعي الناشئ الذي لم يكن خاضعاً للاشراف من جانب الحكومة، واضاف تسريح الجيوش إلى عدد البطالة والعاطلين عن العمل، فقد "ماتت الثورة الفرنسية، وماتت معها روح الحياة في أوروبا، كم من الوف الابطال والمؤمنين بمبادئ هذه الثورة حاربوا من أجل انتصارها؟ وكيف اتجهت افئدة الشباب في كل مكان في أوروبا صوب الجمهورية الفرنسية الفتية، وعاشوا على ضوء الأمل فيها، وكم من الناس حاربوا من اجلها وآمنوا بها حتى النهاية"([9]).

هذه هي الخاتمة المجيدة –كما يقول ديورانت- "لعهد من الامل والرجاء والجهد لم يشاهد له تاريخ الإنسان مثيلاً من قبل.. أيةُ رواية هزلية اقترنت بهذه المأساة المروعة، التي امتزجت فيها الأفراح بالأتراح، والضحك بالدموع، لقد لاذ الكثير من الفقراء في تلك الأيام التي سادها الألم وخيبة الأمل إلى الدين طلباً للسلوى والعزاء، وفقد قسم كبير من الطبقة العليا ايمانهم، ونظروا إلى هذا العالم الذي يسوده الدمار والخراب نظرة الكفر والإلحاد والشك في وجود حياة أخرى يحل فيها العدل والجمال محل هذا الخراب والدمار الذي رَوَّعَ هذا العالم، وأصبح من المتعذر الايمان بوجود إله رحيم كريم يهيمن على شؤون هذا العالم كما شاهده الناس في عام 1818، وانتصر الشيطان على الخير والصلاح، واستبد اليأس بالامل والرجاء، لقد زرع فولتير أرض الثورة، وجاء شوبنهور لحصد هذه الأرض"([10]).

فلسفته:

يعتبر الفيلسوف أرثو شوبنهاور من الممثلين الأوائل للنزعة اللاعقلانية البرجوازية، ذلك "إن ماهية الإنسان في نظره، هي إرادة، مستقلة عن العقل، ورغبة عمياء لا تنفصل عن الوجود الفيزيولوجي للإنسان، هي تَجَلٍ لارادة كونية شاملة، تشكل الاساس والمحتوى الحقيقي لكل ما هو قائم"([11]).

"في فلسفة شوبنهاور تتشابك المثالية الموضوعية([12]) بالمثالية الذاتية([13])، كما تشكل الإرادة السمة المميزة لمذهبه الفلسفي، وهو يقترح الانطلاق لا من الموضوع كما يفعل الماديون، ولا من الذات كما يفعل المثاليون، بل من التصورات التي تولدها الارادة اللاواعية، فالإرادة، من حيث هي "شيء في ذاته"، تتكشف مباشرة لذات النشاط المعرفي، لكن جسدنا هو الشرط الاساسي لهذا التجلي، فالجسد هو الوحيد بين جميع الموضوعات، المعطاة للإنسان في تصوره، الذي يشكل بالنسبة له مظهرا للارادة، والذي بفضله يكتسب الإنسان خضوصيته، وهكذا فإن الموضوعة الاساسية في فلسفة شوبنهاور هي التالية: أنا موجود لوحدي، وليس العالم كله الا تصوراتي، بذلك يقف شوبنهاور على أرضيته المثالية الذاتية"([14]).

"ينطلق شوبنهاور من الزعم الخاطئ، القائل بأن العلم ليس نشاطا معرفيا، بقدر ما هو نشاط مُسَخَّر لخدمة الإرادةWill. إن هدف العلم، عند شوبنهاور، هو تلبية الاهتمامات العملية، التي هي دائما اهتمامات الارادة، أو الرغبة العمياء، والمعرفة الكاملة لا يمكن أن تكون الا المعرفة الناتجة عن التأمل، البعيد عن كل صلة بالحياة العملية، أو باهتمامات الارادة، هذا التأمل ينظر إلى الاشياء لا في علاقة ما، بل كمضمون، يتجلى في كل علاقة، لكنه لا يخضع لها"([15]).

العالم كفكرة :
ان ما يثير دهشة القارئ لدى قراءة كتاب شوبنهور "العالم كارادة وفكرة" هو سهولة أسلوبه ويسر فهمه، فقد خلا من تعقيد المصطلحات التي نجدها في كتب "كانط" والتشويش الموجود في "هيجل" ومصطلحات الهندسة في "سبينوزا".

لقد كان كل شيء في كتاب شوبنهور –كما يقول ديورانت- :"واضحاً ومنظماً ومركزا تركيزاً يدعو إلى الاعجاب حول نظريته الاساسية وهي ان العالم ارادة، وعلى ذلك يكون العالم كفاحاً، ويترتب على الكفاح بؤس وشقاء.

كما امتاز كتابه هذا بنزاهة البحث وامانته وعنفه وعدم تساهله، وجاء زاخراً بالامثلة لتوضيح فكرته، وجديداً في فكاهته، وابتعاده عن الغموض الذي ميز سابقيه من الفلاسفة ولكن ما هو السبب في عدم رواج هذا الكتاب وكساده وعدم تحمس القراء له؟

قد يكون السبب هو "ان شوبنهور هاجم في كتابه اولئك الذين كان في وسعهم الدعاية له، وهم اساتذة الجامعة، فقد كان (هيجل) الحاكم بأمره في عالم الفلسفة في المانيا في عام 1818، ومع ذلك فان شوبنهور لم يعبأ به، ولم يضيع وقتاً في مهاجمته ونقده، فقد ذكر في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه: لا شيء يسيء للفلسفة في وقت من الأوقات اكثر من اتخاذها وسيلة للتعيش وكسب الرزق والوصول إلى مطامع وأهداف سياسية .. لقد اتخذ هؤلاء السادة من الفلسفة وسيلة لكسب الرزق وعملوا وفقاً للمثل القائل من ياكل من مال السلطان يحارب بسيفه، أو المثل القائل اغني اغنية من آكل من خبزه، واعتبروا مثل هذا العمل صالحاً.

لقد اعتبر الفلاسفة الاقدمون اكتساب المال عن طريق الفلسفة صفة من صفات السفسطائيين. ولا شيء يمكن ان نجنيه من الذهب سوى الاعتدال وعدم التطرف في الاراء الفلسفية"([16]).

لقد اعتاد شوبنهور ان يقول: "انني لا أرى شيئاً تم تحقيقه في الفترة الواقعة بين (كانط) وبيني" فهو يقول: "اعتقد أن هذه الفكرة وهي أن العالم إرادة هي الفكرة التي بحثت عنها الفلسفة، ان ما أقصده فقط هو تعريف وشرح فكرة واحدة فقط، وعلى الرغم من جميع محاولاتي في ايجاز شرحها لم اجد وسيلة لاختصارها باقل من هذا الكتاب"، اقرأ الكتاب مرتين، مستخدماً الصبر وطول البال في المرة الأولى، ليس الاعتدال في الفلسفة سوى نفاق وتواضع مصطنع، ولكنا –يقول ديورانت- لا نجد تواضعاً في العبارة الأولى التي صَدَّرَ بها شوبنهور كتابه الذي بداه بقوله "العالم فكرة" وهو يقصد بذلك ما ذهب اليه "كانط" من اننا نعرف العالم الخارجي عن طريق احساساتنا وافكارنا"([17]).

واتبع شوبنهور هذا بعرض واضح قوي للمذهب المثالي، ولكن "هذا العرض على الرغم من قوته –كما يضيف ديورانت- اضعف اجزاء الكتاب واقلها اصالة في الرأي، فقد بقي شوبنهور مجهولاً من العالم جيلاً من الزمان لانه اخفى افكاره وراء مئتي صفحة تحدث فيها عن المذهب المثالي.

ان اهم جزء في الفصل الأول من الكتاب هو هجومه على المذهب المادي، فهو يتساءل بقوله: كيف يمكننا ان نفسر العقل بانه مادة ما دمنا لا نعلم المادة الا عن طريق العقل.

يقول شوبنهور: "كلا من المستحيل ان نصل إلى حل لغز الميتافيزيقا، وان نستكشف كنه الحقيقة، بان نبدأ ببحث المادة أولا، ثم ننتقل منها إلى بحث الفكر، بل يجب أن نبدأ بذلك الذي نعرفه معرفة مباشرة قريبة- انفسنا. "اننا لن نصل ابداً إلى طبيعة الاشياء الحقيقية من الخارج، مهما طال بحثنا ولن نصل إلى شيء سوى صور واسماء ". ونحن في ذلك مثل رجل يدور حول قصر يبحث عبثاً عن مدخل واحيانا يرسم الواجهة، دعنا ندخل إلى الداخل، اننا اذا استطعنا كشف طبيعة عقولنا النهائية فقد نظفر بمفتاح العالم الخارجي"([18]).

إرادة الحياة جوهر الإنسان:
يسمي شوبنهور الإنسان "بالحيوان الميتافيزيقي" لان الحيوان يرغب بغير اللجوء إلى الميتافيزيقا، والانسان مسوق بإراداته لا بعقله.

يقول شوبنهور "لا شيء أكثر اثارة وتهيجاً للاعصاب عندما نحاول اقناع انسان عن طريق الادلة العقلية والبراهين المنطقية، ونبذل جهوداً وألما في محاولة اقناعه، ثم يتضح لنا اخيراً انه لم يفهم وسوف لن يفهم، واننا ينبغي ان نخاطبه عن طريق اثارة ما يريد ويرغب، أي عن طريق ارادته، ومن هنا يتضح عدم فائدة المنطق، ولم يتمكن احد اطلاقاً من اقناع احد بالمنطق وحتى علماء المنطق انفسهم يستخدمون المنطق وسيلة لكسب العيش فقط، ولكي تقنع انساناً يجب ان تلجأ إلى اثارة مصلحته الشخصية إلى رغباته وارادته، انظر كيف نتذكر انتصاراتنا مدة طويلة من الزمان وكيف ننسى هزائمنا بسرعة، ان الذاكرة خادمة الإرادة"([19]).

ومن جهة اخرى "فاننا نلاحظ ان عقل اغبى انسان (عند شوبنهور) يتحول إلى ذكاء مرهف عندما تكون المسألة المطروحة للبحث متمشية مع رغباته، وعلى العموم فإن العقل ينمو ويتطور في الخطر كما في الثعلب أو بدافع الحاجة كما في المجرم، ولكنه دائماً يكون خاضعاً للرغبة واداة في يدها، وعندما يحاول العقل ان يحل محل الإرادة فإن الاضطراب يتبع هذه المحاولة، ولا يتعرض إلى الخطأ أكثر من الشخص الذي يحكم عقله وفكره فقط، يقول شوبنهور: "تأمل في كفاح الناس لتأمين طعامهم وزوجاتهم أو اطفالهم، هل يمكن أن يكون هذا من عمل العقل؟ كلا ولا ريب، والسبب هو ارادة الحياة، "قد يبدو للناس انهم مسحوبون من الامام، والواقع انهم مدفوعون من الخلف" فهم يفكرون انهم مسوقون بما يرون، بينما هم في الحقيقة مدفوعون بما يشعرون بالغريزة التي لا يدركون عملها نصف الوقت.

واذا كان أفراد الطبقات الغنية تعساء أيضاً كالمحرومين، فانه لا يبقى أمام الكادحين، على حد زعمه، الا أن يتخلوا ليس فحسب عن النضال من أجل حياة أفضل، بل أيضاًعليهم أن يتخلوا عن الرغبات والحاجات.

العقل والإرادة واللاشعور عند شوبنهور:

ليس العقل سوى وزير للخارجية –كما يقول شوبنهور- "فقد انتجته الطبيعة لخدمة ارادة الفرد، وقد أعد فقط لمعرفة الاشياء طالما هي دوافع للاردة، لا ان يبحث عنها ليدرك حقيقة وجودها وان الإرادة هي الدائم الثابت الوحيد في العقل.. وهي التي تعطي عن طريق غرضها الثابت وحدة لمشاعر الإنسان ووعيه وتربط جميع ارائه وافكاره بعضها ببعض وجمعها في انسجام دائم مستمر"، ما يعني ان شخصية الإنسان تكمن في ارادته، وليس في عقله، وشخصية الإنسان واخلاقه ايضاً استمرار للغرض ووجهة النظر، وهذه ارادة"([20]).

اذن فالإرادة هي جوهر الانسان عند شوبنهور، والان، ما المانع ان تكون جوهر الحياة في صورها، وماذا يمنع ان تكون الإرادة هي الشيء في ذاته الذي بحثنا عنه طويلاً ويئسنا من الوصول إليه – وان تكون الإرادة هي الحقيقة النهائية الداخلية، وكنه جميع الاشياء الخفي؟

دعنا –كما يقول ديورانت- "نحاول اذن تفسير العالم الخارجي بالإرادة، ولنتجه من فورنا إلى اعماق الموضوع، فنرفض ما قاله الآخرون من ان الإرادة شكل من القوة، ونقول ان القوة شكل أو صورة من الإرادة، وما لم نفهم العلة على انها ارادة، فسنظل مسوقين إلى ترديد صفات غامضة مثل "القوة" والجاذبية، وغيرها، نحن لا نعرف ما هي هذه القوى ولكنا نعلم على الاقل بوضوح أكثر قليلاً ما هي الإرادة. دعنا نقول اذن بان الدفع والجذب والتركيب والانحلال والمغنطيسية والكهرباء والجاذبية والتبلور هي ارادة؟، وهكذا في حياة النبات، فكلما هبطنا إلى أسفل صور الحياة، كلما صغر الدور الذي يلعبه العقل، ولكن هذا لا يحدث في الإرادة اذ انها تبقى كما هي: ان ما فينا من ارادة تتابع اغراضها في ضوء المعرفة، ولكن الإرادة في النبات، تكافح كفاحاً اعمى وابكم بطريقة ثابتة لجهة واحدة لا تتغير، ومع ذلك يجب ان تندرج تحت اسم الإرادة في كلتا الحالتين"([21]).

ان "اللاشعور هو الحالة الاصلية والطبيعية لسائر الاشياء، ولذا فهو الاساس الذي تفرع عنه الشعور وبخاصة في الكائنات الحية، حيث يكون الشعور تفتحها وتجوهرها الاسمى، ولكن اللاشعور تبقى له السيطرة دائماً، وعلى ذلك فان معظم الموجودات تكون بلا شعور ولكنها مع ذلك تعمل وفقا لقوانين طبيعتها – أي بارادتها، وفي النباتات شبه ضعيف جداً من الشعور أو الوعي، فقد كان ارسطو على حق عندما قال بوجود قوة في ذلك الذي يشكل كل صورة في النبات والكواكب والحيوان والانسان، فالبراعة الالية العجيبة في الحيوان تظهر لنا بوضوح كيف ان الإرادة اسبق من العقل.

ان الإرادة طبعاً هي ارادة الحياة، ارادة لبلوغ حد أعلى من الحياة، كم هي عزيزة هذه الحياة بالنسبة إلى جميع المخلوقات الحية، ان البذور الجافة تبقى محتفظة بقوة الحياة الكامنة فيها ثلاثة الاف سنة، وعندما تصادف في النهاية الظروف المناسبة تنمو وتترعرع إلى شجرة أو نبات، وفكر في هذه الضفادع البرية التي وجدت بين احجار الجير تدل على ان حياة الحيوان قادرة على ارجاء نفسها حيث بقيت هذه الضفادع بين احجار الجير عدة الاف من السنين تنتظر العودة إلى الحياة، ان الإرادة هي ارادة الحياة، وعدوها الابدي هو الموت، ومن يدري فقد تتغلب ارادة الحياة هذه على الموت؟"([22]).

العالم شر :
يقول شوبنهاور: "اذا كان العالم في حقيقته إرادة، لا بد ان يكون مليئاً بالألم والعذاب، وذلك لان الإرادة نفسها تعني الرغبة، وهي دائماً تطلب المزيد عما حصلت عليه، وفي اشباع رغبة يُطِل من ورائها عشرات الرغبات التي تطلب إشباعها وتحقيقها، إن الرغبة لا نهاية لها، ومن المتعذر اشباعها جميعها، انها كالصدقة التي ندفعها للفقير تغنيه عن الجوع اليوم ليواجه البؤس والفقر غدا، وما دامت الإرادة تطغى وتملأ شعورنا، وما دمنا خاضعين لتجمع الرغبات وآمالها ومخاوفها الدائمة، وما دمنا خاضعين للإرادة، فلن نبلغ السعادة الدائمة أو السلام اطلاقاً، هذا بالإضافة إلى أن تحقيق الرغبات لا يستتبع القناعة، ولا شيء يقتل المثل الأعلى أكثر من بلوغه وتحقيقه، ان اشباع العاطفة يؤدي في الغالب إلى الشقاء بدلاً من السعادة لان حاجاتها كثيراً ما تتعارض مع مصلحة صاحبها إلى أن ينتهي الأمر بالقضاء على هذه المصلحة"([23]).

إن كل فرد يحمل في نفسه متناقضات هدامة ممزقة، والرغبة المشبعة تولد رغبة جديدة تريد اشباعها وهكذا إلى ما لا نهاية، والسبب في هذا هو ان الإرادة لابد ان تعيش على نفسها، اذ لا يوجد شيء بجانبها، هي ارادة جائعة؟ ان الحياة شر (عند شوبنهور) لان الالم دافعها الأساسي وحقيقتها، وليست اللذة سوى مجرد امتناع سلبي للالم، ولقد أصاب أرسطو عندما قال: ان الرجل الحكيم لا يبحث عن اللذة، ولكن عن التحرر من الالم والهم، ذلك إن كل ضروب القناعة والرضى، أو ما يسمى عادة بالسعادة سلبي في حقيقته وجوهره فقط.. فنحن لا نشعر تماماً بما لدينا من النعم والفوائد، ولا نقدرها حقيقة قدرها، بل نفكر بها باعتبارها شيئاً عادياً ليس إلا، وذلك لأنها ترضينا بشكل سلبي فقط، بأن تخفف من عذابنا وتكبح جماحه، ولا نشعر بقيمتها ونقدرها حق قدرها الا اذا فقدناها، لان الحاجة والحرمان والحزن هي الجانب الايجابي الذي يتصل بنا اتصالاً مباشراً.

ان "الحياة شر لانه لا يكاد الإنسان يشعر براحة من الألم والحاجة، حتى يتملكه شعور بالسآمة والملل مما يدفعه إلى البحث عن شيء يعوضه شعوره بالملل والسآمة، ويبدأ في مواجهة المزيد من الالم، وحتى لو تحققت أحلام الاشتراكيين في اقامة المدينة الفاضلة فسيبقى من الشرور مالا يحصيه العد، لان بعضها كالكفاح مثلا أمر ضروري للحياة، واذا تمكنا من القضاء على كل شر، ووضعنا حداً للكفاح في هذه الحياة أصبحت السآمة عبئاً لا يحتمل كالألم سواء بسواء، ذلك إن زيادة المعرفة في الإنسان تؤدي إلى زيادة آلامه، كما ان ذاكرة الإنسان وبعد نظره يزيدان في آلامه، لان الشطر الأكبر من آلامنا كامن في تأمل الماضي أو في التفكير بما سيقع في المستقبل"([24]).

كما أن "الألم في حد ذاته قصير، إن الإنسان يتألم من فكرة الموت أكثر من ألم الموت نفسه، وأخيراً وفوق كل شيء، الحياة شر لانها حرب، أينما وليت وجهك لا تقع عينك إلا على صراع – ومنافسة ونزاع، وتبادل إنتحاري بين الهزيمة والنصر، وكل نوع يقاتل للفوز بالمادة والأرض والسيطرة.

ان "صورة الحياة في مجملها مؤلمة جداً اذا تأملناها، وهي تعتمد على جهلنا بها، اننا لو عرضنا امام نظر الإنسان ما تتعرض له حياته دائماً من ضروب الالم والبؤس المروع عرضاً واضحاً لامتلأ رعباً، ولو دخلنا بالمتفائل الشديد في تفاؤله إلى المستشفيات وملاجئ العجزة والمقعدين وغرف العمليات الجراحية، ولو دخلنا به إلى السجون وغرف التعذيب، وحظائر العبيد، ولو اخذناه إلى ميادين القتال وأماكن الاعدام، ولو فتحنا له كل مساكن البؤس والفاقة المظلمة حيث يواري البؤس نفسه من نظرات الفضول السمجة الباردة واخيراً لو سمحنا له بالنظر إلى السجون التي يموت الناس فيها جوعاً، لعلم هذا المتفائل أخيراً طبيعة هذا "العالم أفضل العوالم" والا من اين جاء دانتي "بمادة جحيمة، لقد استمدها طبعاً من هذا العالم الواقعي الذي نعيش فيه واستطاع ان يصور من هذا العالم جحيماً ما بعدها من جحيم، ولكي يكون الإنسان سعيداً ينبغي ان يكون في جهل الشباب الذي يظن ان السعادة بالكفاح والإرادة، لانه لم يتبين له بعد شره الرغبة المضني ونهمها الذي لا يشبع، وظمأها الذي لا يرتوي، ولم يعلم ان مثل من يحاول اشباع رغباته كمن يضرب مسماراً في ماء أو يصب ماء في برميل مثقوب، اذ لا حدود للرغبات ومن المستحيل اشباعها، كما ان الشباب لم يجرب بعد اثر الهزيمة المحتومة.

ان فرح الشباب ومرحه ناجم عن اننا لا نرى الموت عندما نكون صاعدين إلى ربوة الحياة، لان الموت يكون في اسفل الجانب الاخر من الهضبة.. فاذا اقتربنا من نهاية الحياة فان كل يوم يمر بنا يبعث في نفوسنا نفس الاحساس الذي يحس به المحكوم عليه بالاعدام، في كل خطوة يخطوها وهو في طريقه إلى المشنقة.. ولكي يعلم الإنسان مدى قصر الحياة لابد ان يعيش طويلاً"([25]).

ان خشية الموت هي بدء الفلسفة –كما يقول شوبنهور- "وهي العلة النهائية للدين، والانسان العادي عاجز عن التوفيق بين نفسه وبين الموت، لذلك فهو يضع فلسفات وديانات لا تحصى. ان ما يسيطر على الناس من عقيدة الايمان بالخلود لدليل على خوف الناس وفزعهم من الموت، فكما ان الدين واللاهوت مهرب من الموت، فكذلك الجنون مهرب من الالم، ان الجنون وسيلة يلجأ اليها الإنسان لتجنب الالم والهروب منه، فهو توقف لخيوط الإدراك الذي ينقذه من الامه، اننا نستطيع التغلب على المخاوف بنسيانها فقط.

كثيراً ما نفكر باشياء رغم ارادتنا تضر بمصالحنا وتجرح كبرياءنا تصطدم مع رغباتنا، على الرغم من الصعوبة التي نواجهها عند وضع هذه الاشياء امام عقولنا لنتناولها بالبحث الدقيق.. وفي مقاومة الإنسان لارادته والسماح بما هو نقيضها ان يوضع تحت بحث العقل، تكمن الثغرة التي ينفذ الجنون منها إلى العقل.

فاذا بلغت مقاومة الإرادة ضد استيعاب معرفة ما إلى حد تعطيل عملية العقل تعطيلاً يعجزه عن أداء عمله على الوجه الاكمل، عندئذ –يقول شوبنهور- "يتكون في العقل عناصر وظروف معينة تكبت فيه كبتاً تاماً، لان الإرادة لا تطيق رؤيتها، وعندئذ لضرورة الاتصال تمتلئ الفجوات التي حدثت باللذة ويظهر الجنون، لان العقل قد سلم بطبيعته لارضاء الإرادة، يبدأ الإنسان في تصور اشياء وهمية لا وجود لها، ومع ذلك فإن الجنون الذي نشأ على هذا النحو هو في الواقع نسيان وسلوان لالام شديدة غير محتملة، وبهذا يكون الجنون العلاج الاخير من طبيعة ارادتنا المزعجة. اما المهرب الاخير فهو الانتحار، هنا اخيراً يتغلب الفكر والخيال على الغريزة وهو أمر يدعو إلى الدهشة"([26]).

في هذا الجانب يرى شوبنهور: "ان البؤس والكفاح يبقيان بعد موت الفرد ولا بد ان يبقيا ما دامت الإرادة تستعبد الإنسان وتسيطر عليه، ويستحيل الانتصار على امراض الحياة الا اذا تم اخضاع الإرادة للمعرفة والعقل إخضاعاً تاماً"([27])، فقد عُرِفَ عنه "عدم احترامه للنُّظُم الكنائسية السائدة في عصره، وكان يشعر بمقته لرجال اللاهوت واعتبار الناس لهم المرجع الأعلى في الأمور الدينية، ووصف الدين بكونه "ميتافيزيقا الجماهير" ولكنه بدأ يرى في السنوات الاخيرة من حياته أهمية عميقة في بعض الشعائر والمعتقدات الدينية، لكنه قال "إننا بحاجة إلى شيء أكثر، يستطيع الفرد ان يبلغ السعادة بفضل "النرفانا" وهي نظرية هندوسية تعتقد ببلوغ حالة من السعادة الناجمة عن كبت الرغبات والشهوات وايقافها ايقافاً تاماً"([28]).

"ان المغزى الاجتماعي لتشاؤمية شوبنهاور، لحياة التنسك والزهد التي يدعو اليها، لا يحتاج إلى تدليل أو ايضاح، فهو يحاول أن يقنعنا بان علة الآلام البشرية كلها ماهية عالمية، وليس باستطاعة أي من التحولات الاجتماعية والسياسية، أن تغير شيئاً في حياة الناس، كما كانت قمة فلسفته في المثال التصوفي للنيرفانا (السكينة المطلقة) التي اقتبسها من الديانة البوذية، وقد شكلت آراءه الأساس الإيديولوجي لفلسفة نيتشه التشاؤمية، كما وتنسحب النزعة الارادية عند شوبنهاور لتشمل آراءه السياسية أيضاً، وتتلخص هذه الآراء في المناداة بالدولة البوليسية، بجهاز القمع والارهاب، الضروري جدا للرد على انتفاضة الجماهير ضد طغيان الملكية الخاصة، ضد النظام القائم ومؤسساته"([29])، ويبدو أن الأفكار النازيه والفاشيه، استفادت كثيراً من أفكار وطروحات شوبنهاور.

ديورانت ونقد فلسفة شوبنهاور:
العصر الذي عاش فيه شوبنهور فترة شبيهة تماماً بالفترة التي اعقبت حكم الاسكندر في اليونان، وقيصر في روما، حيث تعرضت اليونان أولاً وروما ثانياً إلى سيل جارف من العقائد والأفكار الشرقية، اذ ان من مميزات الشرق –حسب شوبنهور- أن ينظر إلى الإرادة الخارجية في الطبيعة بأنها أقوى بكثير من إرادة الإنسان وهذا يؤدي إلى التسليم بالقضاء والقدر واليأس، وكما ان انحلال اليونان جعلها عرضة للرواقية الشاحبة، والابيقورية المستسلمة، فقد احدثت الكوارث والفوضى التي خلفتها الحروب النابليونية في أوروبا فتوراً ومللاً وحزناً جعلها –كما يضيف ديورانت- تصغي إلى شوبنهور وتجعل منه صوتا لفلسفتها. لقد كانت أوروبا تعاني صراعاً مخيفاً في عام 1815".

لقد "اعترف شوبنهور ان سعادة الإنسان تتوقف على الإنسان نفسه، أكثر من توقفها على الظروف الخارجية، ان التشاؤم تهمة تقع على عاتق المتشائم نفسه، فقد استمد شوبنهور فلسفته من مزاجه العصبي وفراغ حياته وعزلته ووحدته وانطوائه على نفسه الذي طبع حياته بطابع السأم والملل المعتم القاتم، هذا بالإضافة إلى الالآم والاحزان التي كانت تسود عصره، اذ لا شيء يبعث التشاؤم في الإنسان أكثر من الفراغ وحياة الكسل، والحياة النشيطة تؤثر على النفس وتقوي من معنوياتها وتزيد في نشاط العقل والبدن"([30]).

لقد كان لديه من المال ما يساعده على الاستمرار في حياة الفراغ والراحة، ووجد ان الفراغ المستمر لا يُحْتَمل وأشد عبئاً من العمل المستمر. ولعل نزوع الفلاسفة إلى الكآبة يعود إلى خلو حياتهم من النشاط والعمل، وملازمة الجلوس وعدم الحركة.

ان "النرفانا هي المثل الأعلى للإنسان فاتر الهمة، لذا –يقول ديورانت- "إن الإنسان الذي يبدأ حياته بالطموح إلى الوصول إلى غايات كبيرة وأهداف عظيمة وينتهي أمره بالفشل في تحقيق هذه الغايات والآمال يمضي بقية حياته في ضجر ونزق، كما هو حال شوبنهور"، ولا شك ان تجارب شوبنهور المبكرة مع النساء أحدثت في نفسه ريبة شاذة وحساسية ضدهن، كما حدث مع نيتشه، فغدا ساخراً منعزلاً، فهو يقول "لا تخبر صديقك بشيء تخفيه عن عدوك". وينصح بحياة هادئة ناسكة رتيبة، وهو يخشى المجتمع، ولا يتذوق متعة الاجتماع بالناس، والواقع ان السعادة لا معنى لها اذا لم يشاركنا فيها الآخرون"([31]).

يعلق ديورانت على تشاؤم شوبنهور قائلاً: "لاشك ان التشاؤم من الحياة يحمل قدراً كبيراً من الانانية وحب الذات، واذا كان العالم لم يضحك بوجهه لنا انقلبنا عليه وتحولنا عنه ألقينا التبعية عليه، وربما كان اشمئزازنا من العالم بسبب اشمئزازنا من انفسنا، وقد يكون الخطأ والزلل منا ولكنا نضع اللوم على البيئة أو العالم، اللذين ليست لهما ألْسِنَة يدافعان بها عن نفسيهما، كما أن بعض التشاؤم في شوبنهور ومعاصريه ناجم عن وجهة نظرهم الرومانتيكية والآمال الكبيرة التي عَلَّقوها على المستقبل، وعندما تبين للرومانتيكي ان مَثَلَه الأعلى في السعادة قد انتهى به إلى شقاء حقيقي، لم يوجه اللوم إلى مثله الأعلى، بل وجه اللوم إلى العاَلم، وأن هذا العالم ليس جديراً بانسان منظم مثالي مثله.

يقول ديورانت: "لقد أُوحي إلى شوبنهور بأولية الإرادة ونهايتها ما شاهده في العالم من نهوض نابليون إلى السلطة الامبراطورية وما دعا إليه روسو من رفض العالم والمدنية، وفلسفة "كانط" ونقده للعقل وقد تكون معركة واترلو ومصير نابليون في سانت هيلانه قد اوحت له بفلسفتة المتشائمة، فقد كان نابليون اعظم ارادة فردية ظهرت في تاريخ العالم، وبسط نفوذه وسيطرته على أوروبا وغيرها من قارات العالم، ومع ذلك فقد كان مصيره الفشل كحشرة تحمل الموت المحتم في جنباتها في اليوم الذي جاءت فيه إلى هذه الدنيا، وكان الاجدر بشوبنهور ان يفهم بان من الأفضل ان نحارب في هذه الحياة وان نخسر المعركة من ان نقعد ولا نحارب اطلاقاً، ولم يشعر مثل "هجل" الأكثر رجولة وأشد عنفاً بمجد الكفاح والنضال في هذا العالم"([32]).

رغم كل ما تعرض له شوبنهور، إلا أن روحه – كما يؤكد ديورانت- تاقت إلى السلام، لانه عاش في وسط الحرب، وكان الكفاح يجري حوله في كل مكان، ولم يستطع ان يرى وراء هذه الحرب مساعدة الجيران الودية، وبهجة الاطفال، ومرح الشباب، ورقص الفتيات، وتضحيات الآباء والأحبة، وجود الأرض، وجمال الربيع، والانسان السليم العقل والصحة لا يبحث عن السعادة بقدر ما يبحث عن فرصة تُمَكُّنه من ممارسة قواه ومواهبه، وهو على استعداد لان يدفع عن طيب خاطر ثمن هذه الحرية من عنائه وآلامه.

لقد ذهب شوبنهور "إلى أن زيادة المعرفة تستتبع زيادة الألم، وإن أرقي الكائنات نظاماً هي أشدها تعرضاً للألم، وهو على صواب في قوله هذا، ولكن من الصواب أيضاً ان نفهم بان زيادة المعرفة تزيد في السرور كما تزيد في الألم، وان الإنسان الراقي المتطور هو وحده الذي يتمتع باعظم الفرح واشد الألم.

ولكن كيف يمكن لشوبنهور ان يتجنب التشاؤم وقد عاش طيلة حياته في غرفتين في فندق وتخلى عن طفله الوحيد وتركه لا يحمل اسما شرعياً طيلة حياته، علاوة على أن السبب في شقائه وتشاؤمه ناجم عن نبذه للحياة، ونبذه للنساء والزواج والاطفال، فهو يعتبر الأبوة أعظم الشرور، بينما يعتبر الإنسان السليم الأبوة أعظم السعادة والرضى، وهو يعتقد بأن التستر في الحب ناجم عن الخجل من عملية التناسل واستمرار الجنس، ولا شك ان اعتقاده هذا ينطوي على الحماقة والادعاء، اذ هل يمكن لشيء ان يكون أكثر بطلانا وادعاء من هذا الاعتقاد؟ ومع ذلك فإن في هذه الفلسفة من الامانة ما يجعل الكثير من المذاهب المتفائلة نفاقاً"([33]).

لقد فعل شوبنهور خيراً "بأن أجبر الفلسفة على مواجهة حقيقة الشر الأولي، ووجه الأفكار إلى مهام الإنسان في التخفيف من هذه الشرور والالآم، وأصبح من الصعب على الفلسفة منذ ذلك اليوم أن تعيش في جو المنطق والميتافيزيقا الوهمي، وبدأ المفكرون يعرفون بأن الفكر المجرد عن العمل ليس سوى مرض.

لقد فتح شوبنهور أعين علماء النفس إلى قوة الغريزة، لقد سقط المذهب العقلي (الذي اعتقد بأن الإنسان حيوان مفكر أولاً وقبل كل شيء) مريضاً على يد روسو والتزام الفراش على يد كانت، وخر ميتا على يد شوبنهور، وبعد قرنين من التحليل والفحص والتأمل وجدت الفلسفة ان وراء الفكر الغربة ووراء العقل، الغريزة، تماماً كما وجد علم الطبيعيات بعد قرن من المذهب المادي وجود الطاقة وراء المادة"([34]).

اننا –يقول ديورانت- "مدينون إلى شوبنهور لأنه كشف لنا عن خفايا قلوبنا، وأظهر لنا أن رغباتنا هي قاعدة فلسفاتنا، وأوضح الطريق أمامنا لأن نفهم الفكر لا على أساس كونه تقديراً مجرداً لأحداث غير شخصية، لكن على أساس كونه أداة للعمل والرغبة، وعلى الرغم من جميع اخطائه فقد افلح في وضع اسمه في قائمة العظماء"([35]).

"وفي عام 1854 ارسل له فاجنر نسخة عن قطعة من روائع موسيقاه مرفقة بكلمة تقدير لفلسفته الموسيقية، وهكذا أوشك ان يتحول المتشائم العظيم إلى متفائل في أيام شيخوخته، وراح يعزف على القيثارة كل يوم بعد الغداء، ويحمد الوقت الذي خلصه من نيران الشباب، وهرعت جموع الناس من جميع انحاء العالم لرؤيته، وعندما احتفل ببلوغه السبعين من عمره انهالت عليه التهاني من كل بلد وكل قارة، عاش بعد ذلك سنتين، وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر سبتمبر جلس وحده لتناول طعام الافطار، وكان يبدو وافر الصحة، وَوَجَدَتْهُ ربة الدار بعد ساعة لا يزال جالساً على المائدة ساكناً لا يتحرك وَتَقدَّمتْ منه فَوَجَدَتهُ ميتاً"([36]).

" توفي شوبنهاور في السنة ذاتها التي تم فيها انتخاب أبراهام لينكولن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية التي رأى شوبنهاور في تأييدها للعبودية أمراً بغيضاً من الناحية الأخلاقية، وقد مات في هدوء عن اثنين وسبعين عاماً في 21 سبتمبر سنة 1860، في شقته التي تطل على نهر الماين.

وعندما وافته المنية، كان قد مرَّ على رحيل كل من أمه واخته زمناً طويلاً، ولم تكن له زوجة ولا أولاد يمكن أن يترك لهم ميراثاً، وما تبقى من ثروته فقد رصده كوديعة لصالح الجنود البروسيين العجزة ولعائلات الجنود الذين قتلوا أثناء قمع ثورة 1848"([37]).

قالوا عنه([38]):

· "إنني أجده ذكياً، ولا أعير اهتماماً للباقي". (غوته).

· "آرثر شوبنهاور أكبر فيلسوف بعد كانط وأول من تعقل أفكاره إلى النهاية.. وبالمقارنة معه لا يعدو أضراب هيغل، إلخ، أن يكونوا من المشعوذيين!". (فاغنر).

· "لم يكن لدى شوبنهاور أي رجاء، لكنه كان يريد الحقيقة. ولا أحد آخر يضاهيه". (نيتشه)

· "شوبنهاور فنان لغة؛ ومن هنا يتولد فكره" (كافكا).

· "إنه أول ممثل أصيل في ألمانيا لصنف الكتاب من أصحاب الريوع، وهذا التحرر من هموم الوجود المادي جعل شوبنهاور مستقلاً عن الجامعات والادارات الأخرى (التي كانت لا تزال شبه اقطاعية) وعن التيارات الايديولوجية التي تروج لها، وأتاح له أن يتبنى بصدد جميع المسائل، بدون أن يكلفه الأمر شيئاً، موقفاً شخصياً أصيلاً". (جورج لوكاتش).




([1])جورج طرابيشي - معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط2 - ديسمبر 1997– – ص 405

([2]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة - ص388

([3]) المرجع نفسه - ص389

([4])المرجع نفسه - ص391 / 392

([5])المرجع نفسه - ص392 -394

([6])المرجع نفسه - ص395

([7]) المرجع نفسه - ص384

([8]) روبرت فيكس - شوبنهور – ترجمة: د. سعيد توفيق- آفاق للنشر والتوزيع – سنة 2017 – ص11

([9])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص386

([10]) المرجع نفسه - ص386-387

([11]) جماعة من الأساتذة السوفيات – موجز تاريخ الفلسفة - تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 586

([12]) المثالية الموضوعية :احد الانواع الرئيسية للمثالية ، وتذهب الى أن الروح أولية والمادة ثانوية ومستمدة منها ، وهي في تميزها عن المثالية الذاتية لا ترى ان المصدر الأول للوجود العقل الانساني الشخصي، وانما ترى انه وعي موضوعي من عالم آخر، هو الروح المطلق، أو العقل الكلي، وكان افلاطون اعظم مثالي موضوعي في العصر القديم. وكان هيغل الممثل التقليدي لها في القرن التاسع عشر .أما في الفلسفة المعاصرة فإن المثالية الموضوعية تتمثل في التوماوية الجديدة والشخصانية ، وغيرهما من التيارات. وتمتزج المثالية الموضوعية كقاعدة عامة مع اللاهوت وتقيم أساساً فلسفياً خاصاً للدين. (م. روزنتال و ب. يودين –مرجع سبق ذكره - الموسوعة الفلسفية – ص 456)

([13]) المثالية الذاتية :اتجاه فلسفي يرى انه لا يمكن اعتبار العالم الموضوعي موجودا وجودا مستقلا عن نشاط الانسان الادراكي وعن وسائله في الادراك ، وينتهي المثاليون الذاتيون المتزمتون الى نزعة الانانة. ولقد كان الدعاة التقليديون للمثالية الذاتية هم بركلي وفيخته وماخ، اما الصورة الحديثة من المثالية الذاتية فهي الذرائعية ( البراجماتية ) والاجرائية والوضعية الجديدة والوجودية .. إلخ. وتقوم نظرية المعرفة في المثالية على اضفاء الطابع المطلق على الجوانب الذاتية للعملية الواقعية للادراك .ورغم هذا فإن حقيقة كون المعرفة ذاتية لا تنفي في واقع الأمر مضمونها الموضوعي، ومصدرها الموضوعي. (م. روزنتال و ب. يودين - مرجع سبق ذكره - الموسوعة الفلسفية – ص 455)

([14]) جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص 587

([15]) المرجع نفسه – ص 588

([16]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص398

([17]) المرجع نفسه - ص398 / 399

([18]) المرجع نفسه -ص399

([19]) المرجع نفسه - ص400

([20]) المرجع نفسه -ص401 -402

([21]) المرجع نفسه –ص 405

([22]) المرجع نفسه – ص406

([23]) المرجع نفسه – ص415

([24]) المرجع نفسه - ص416

([25]) المرجع نفسه – ص 418 / 421

([26]) المرجع نفسه – ص 422/ 423

([27])المرجع نفسه - ص423

([28])المرجع نفسه - ص439

([29])جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة –ص 590

([30])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص443

([31])المرجع نفسه -ص444

([32])المرجع نفسه - ص446

([33])المرجع نفسه - ص448

([34])المرجع نفسه - ص450

([35])المرجع نفسه – ص 450/451

([36])المرجع نفسه – ص395 / 396

([37]) روبرت فيكس - شوبنهور– ترجمة: د. سعيد توفيق- آفاق للنشر والتوزيع – سنة 2017 – ص35

([38]) جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987– ص 405








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر