الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة الاتجاه الماركسي الكلاسيكي لبناء الدولة القومية (2)

عبدالله تركماني

2021 / 1 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


ومن جهة أخرى، فقد تحدث أنجلز عن " أمم ثورية " و" أمم رجعية "، فعندما رأى أنّ " سلاف الجنوب " في الإمبراطورية النمساوية يدعمون السلطة الإمبراطورية ضد الثورتين الألمانية والمجرية، كتب في العام 1849"... إننا نكرر: باستثناء البولونيين والروس، وعلى الأخص سلاف تركيا، ليس لبقية الشعوب السلافية أي مستقبل، وذلك لسبب بسيط: فهذه الشعوب تفتقر إلى أدنى شروط الاستقلال والقدرة على الوجود، سواء أكانت هذه الشروط تاريخية أم جغرافية أم سياسية أم صناعية. وليست هذه الشعوب قادرة على الحياة وعلى تحقيق أي نوع من الاستقلال لأنه لم يكن لها في أي يوم من الأيام تاريخ خاص بها. كما اتضح أنّ هذه الشعوب كلما بلغت، بشق الأنفس، أسفل درجات الحضارة وأكثرها بدائية إلاّ وسقطت في التبعية للخارج. واتضح كذلك أنها شعوب لم تبلغ المرحلة الأولى من الحضارة إلاّ تحت ضغط الهيمنة الخارجية.. (و) لم يكن للتشيكيين...أي تاريخ أبداً...وهذه " القومية " التي ليس لها أي وجود تاريخي تدّعي المطالبة بالاستقلال..." (5).
وتابع قائلا " من سائر الأمم التي تعيش في كنف الإمبراطورية النمساوية، لا يوجد سوى ثلاث منها حملن راية التقدم ونهضن بدور إيجابي في التاريخ وما زلن يحتفظن بحيويتهن: الأمة الألمانية، البولونية، المجرية. ولهذا السبب فهي الآن أمم ثورية...إنّ المآل الرئيسي لجميع العروق والشعوب الأخرى، كبيرة وصغيرة، هو الفناء في المحرقـة الثورية.." (6).
لقد كانت مساهمة أنجلس في المسألة القومية أغنى من مساهمة ماركس، حيث كتب عن تمايز البشر إلى مجموعات لغوية في التاريخ الوسيط، وعن تطور القوميات إلى أمم، وعن توجّه المجموعات البشرية القومية لبناء دولها القومية. فقد كتب في سنة 1884 " إنّ حدود انتشار اللغة كانت أبعد من أن تتطابق مع حدود الدول في سياق القرون الوسطى كلها، ولكن كل قومية، باستثناء إيطاليا، أغلب الظن، كانت مع ذلك ممثلة في أوروبا بدولة خاصة كبيرة، والميل إلى إنشاء دول قومية، الذي يبرز بصورة أوضح وأوعى، هو رافعٌ من أهم روافع التقدم في القرون الوسطى ". وقد وصّف السلطة الملكية، في التاريخ الوسيط، بأنها كانت تشكّل عنصراً تقدمياً " كانت ممثلة النظام في الفوضى، ممثلة الأمة بسبيل التشكّل، على نقيض التجزؤ إلى دول تابعة متمردة " (7).
أما عن الدولة القومية، فقد كانت مساهمة الماركسية الكلاسيكية محدودة، إذ يُعَّد كتاب أنجلز " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة " النص الكلاسيكي الوحيد المكرّس لموضوع الدولة. ويركّز الكتاب على دراسة الشروط التاريخية لنشوء الدولة في العالم القديم: أثينا، وروما، والجرمان. وتتركز أهمية هذا الكتاب في تحليل حقل تاريخي هام لنشوء الدولة، إلاّ أنه حقل محدود، من حيث إطاره المكاني، إذ يقتصر على أوروبا الغربية. كما تبرز أهميته أيضاً في تقديمه قرائن واضحة عن " التنوّع " في وظائف الدولة، و" التنوّع " في أشكال وظروف نشوئها.
وبالرغم من أنّ ماركس هو منظّر التسييس بلا منازع، فلم تكن الدولة عنده سوى متغيّر تابع، أي أنها ليست قائمة بذاتها، ولا تُفَسَّر بذاتها، بل هي نتاج التطور العضوي للرأسمالية، إنها جزء من البنية الفوقية للمجتمع. وفي الواقع، فإنّ ماركس وضع، في كتاباته المبكّرة، لبنات نقد وتحليل الدولة الحديثة، خاصة في كتاباته " نقد فلسفة الدولة عند هيغل " و" نقد فلسفة الحق عند هيغل"، أو تحليلاته في" الأيديولوجيا الألمانية "، التي تتناول تاريخية الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني، وتفاعلها مع مالكي الثروة، بل مع شتى الطبقات.
وبشكل عام، خلّف ماركس عن الدولة مجموعة غير منظّمة من التحليلات السياسية والفكرية، يمكن تقسيمها زمنيا إلى ثلاث مراحل:
(أ)- مرحلة بداية النقد الهيغلي، حيث تبلورت تحليلات ماركس في حقلين: أولهما، اشتقاق الدولة من المجتمع المدني، لا من الفكرة المطلقة. وثانيهما، نقد انفصال المجتمع السياسي (الدولة) عن المجتمع المدني.
(ب)- مرحلة تصفية الحساب مع الوعي الهيغلي، وعرض التصوّر المادي للتاريخ، خاصة في كتاب " الأيديولوجيا الألمانية "( 1845-1846).
(ج)- مرحلة النضج، حيث انتقل ماركس من التركيز على السياسة إلى التركيز على المجتمع.
وفي إطار هذه المراحل الثلاث، صاغ ماركس تصوّراته عن الدولة، بعد أن اغتنى بوقائع التجربة التاريخية الأوروبية، وقد توزعت ملاحظاته على ثلاثة حقول من المفاهيم الأساسية عن الدولة (8):
1- الدولة كأداة للهيمنة الطبقية والقمع الطبقي، أداة لضمان ملكية ومصالح الرأسمال ضد العمل، إنها نتاج التناحرات الطبقية للرأسمالية والقوة الناظمة لها. وقد تفرّع عن هذا التوصيف للدولة مجموعة مفاهيم، وضعت ماركس على نقيض فكر الأنوار فيما يتعلق بالدولة، من أهمها: نقد فكرة حيادية الدولة، ونقد تمثيلها للمصالح العامة، ونقد التدابير الانتخابية، ونقد فكرة المساواة الحقوقية - السياسية.
2- الدولة كمؤسسة مستقلة عن المجتمع المدني، بل تصبح سيدة له، قوة مهيمنة عليه، لم تعد تُشتَق مباشرة من نمط الإنتاج، لم تعد خاضعة لطبقة واحدة، لم تعد ثابتة البنية، خاصة في كتابه " 18 برومير لويس بونابرت ".
3- تاريخية الدولة، أي خصوصية كل دولة في التطور بفعل اختلاف الثقافات، والجماعات الإثنية، والعوامل التاريخية المختلفة.
وبالرغم من أنّ القرن التاسع عشر كان بحق " عصر القوميات "، عصر الصراع من أجل تكوين الدول القومية، فإنّ ماركس أغفل دور الدولة في تكوين الأمة. بل أنه ذهب أبعد من ذلك، حينما دعا إلى دمج السلطتين التنفيذية والتشريعية في الدولة " الثورية " المقبلة، بما ينطوي عليه ذلك من وحدة المجتمعين السياسي والمدني (9).
وهكذا، نلاحظ أنّ لدى كارل ماركس وفريدريك أنجلز تحليلات عديدة للوقائع القومية، وللظروف وللعلاقات بين الطبقات داخل الأمم، ولكننا لا نجد لديهما نظرية متكاملة للمسألة القومية، وهو الأمر الذي سوف نجده، إلى حد بعيد، عند الاتجاه البلشفي.
الهوامش
5- نقلا عن: د. التيمومي، الهادي الجدل حول الامبريالية...، المرجع السابق، النص رقم (17)، ص 160.
6 - نقلا عن: شرام، ستيوارت و دنكوس، هيلين كارير الماركسية - اللينينية...، المرجع السابق، ص 14.
7- أنجلز، فريدريك: (بصدد انحلال الإقطاعية ونشوء الدول القومية) - عن كتاب ماركس وأنجلز/بصدد الدولة، ترجمة: الياس شاهين، دار التقدم - موسكو -1986، ص 303-304
8 - د. عبد الجبار، فالح (ماركس والدولة/النظرية الناقصة؟) - عن كتاب: نحو تجديد المشروع الاشتراكي/بحوث ومناقشات مهداة إلى مهدي عامل (ندوة عُقدت بين 16و18 مايو/أيار 1997 في بيروت)، الطبعة الثانية - بيروت، دار الفارابي – 1998، ص ص 417- 422.
9- يبدو أنّ بناة الدولة السوفياتية، والدول التي على شاكلتها، قد أخذوا برأي ماركس، فحوّلوا المنظمات الاجتماعية الوسيطة بين المجتمع المدني والدولـــة إلى منظمات لـ" رفع اليد "و لـ" التصفيق " للحزب " القائد "، وحكموا بواسطة ديكتاتورية الموظفين الحكوميين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية وتقدير على المقال القيم
د, محمود يوسف بكير ( 2021 / 1 / 8 - 20:06 )
شكرا جزيلا د. عبد الله تركماني على هذا المقال الذي استفدت منه كثيرا . أنا كاقتصادي أركز دائما على الجوانب الاقتصادية غير المتماسكة في الفكر الماركسي عندما أكتب أحيانا عن هذا الفكر وقد أكملت أبحاثك ما لدي من نقص في بعض الجوانب السياسية . مع أطيب تحياتي

اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة