الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في ديوان الشاعر جميل داري -لا جناح لي-

اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)

2021 / 1 / 8
الادب والفن


العنوان عتبة النصّ، منصّة الانطلاق الأولى نحو المضمون، المفتاح الإيحائي الذي يحملنا إلى أغوار النصّ وأسرار النفس.
"لا جناح لي" عنوان متعدّد الإيحاءات والدلالات والرؤى، غامض وموارب بقدر وضوحه، يضعنا أمام موجة من التساؤلات، ماذا يقصد؟ وماذا يريد أن يقول في ديوانه؟ هل هو تعبير عن عجزه في تحقيق ما أراد في هذا العالم؟ وهل يمكن لشاعر "لا جناح له" أن يحلّق كالنسر في فضاء القصيدة؟ هل المعنى حرفيّ أم مجازيّ يعكس حالة التمرّد والرفض لحالة الانكسار والعجز، أم من كثرة القمع والنطع نسي هذا الطائر أنّه يملك أجنحة، لكن حين أتت اللحظة المنتظرة التي أجّجت روحه انتفض، وكسر السلاسل والأغلال، وحلّق كاشفاً المخفيّ الذي اختزله، وأوجزه في العنوان. إنّ القدرة على الطيران هي لحظة انفعالية، فالمعنى المجازي للعنوان تحليق ومفارقة وأوسع من نطاق الجملة، فبالقول "لا جناح لي" لا يعني حرفية الكلمة بل رمزيتها وانزياحاتها.
عندما تتكلّم عن شعر جميل داري تشعر كأنّه آت من خلف الغيوم، من العوالم الأخرى، فللحروف سحر خاصّ، وكأنّ الشاعر احتكر المعاني لنفسه، أسرها فصارت طوع أمره، فهو الضليع في التعبير، والقدير في البوح، والتفكير بصوت كلّ من يحمل هذه المشاعر الجياشة، فهو يعالج قضايا الإنسان والحبّ والوطن.
" لا جناح لي" هذا العمل الشعريّ المميّز يمزّق الحجاب عن جانب آخر من شخصه، ويعلن في معظم الديوان عن قوة الحبّ الذي يقهر السنين، ولا يقهره العمر، إنّه بوح شامخ وشفيف من نوع آخر، فيه الكثير من الألفة حدّ الاحتراق، فترانا نسير على جمر متقد ، ونحن ننتقل من قصيدة لأخرى، تشدّنا الحروف، تدخلنا إلى عمق أعماق الحبّ الأسمى بمزيد من الإحساس غير المتعارف عليه، نشعر بزخم عشق تأجّج في أتون القلب، وانسكب على الورق لوحات نحبّها حتى الثمالة، أو لدرجة الغيرة من الأنثى التي استطاعت أن تخترق حياة الشاعر وخياله بتفرّدها وتميّزها.
"لا جناح لي" عمل فريدٌ يحملك نحو أبعاد أخرى في النفس الإنسانية:
"خذيني إلى أيّ منفى
فقد ضاق ..
ضاق الوطن"
يفتتح الشاعر ديوانه بصرخة طائر لا جناح له، طالبًا أن تأخذه من ضيق، وأيّ ضيق؟ حين يضيق الوطن على الإنسان، يكتنفه الضياع الشبيه بالموت، والشعور بالعجز أقرب إلى الموت، ولا إحياء لرميم الأمل إلّا بقوة الحبّ.
من قوة الحبّ ينقلنا الشاعر إلى جناح آخر، وهو جناح الحلم، لنلملم الريح معه، ونشعلها في حالة يأس، فالحياة بالأحلام، وإن كانت الهروب الوحيد من قسوة الواقع، ولكن ألّا يملك الإنسان إلّاها فهذا داء لا دواء له، ينبوع سراب في سراب، ودونها خسارات متتالية، وعقابٌ وسيف يخترقه من الوريد إلى الوريد:

"وأحلم ليت للأحلام حدّاً
فإني ضقتُ ذرعاً باضطرابي
على المجهولِ سجّلَ ألفُ جرمٍ
لماذا يلجؤونَ إلى عقابي؟
أحبّكِ.. لا أحبّكِ ليس يجدي
فهذا الموتُ يربضُ عندَ بابي"

"يا ريح" يخاطب الريح شاعر أخضر بلا جناح، وعلى متن قصيدة لها عينان من ذهب، يتدفّق نار وماء. جامح ليس في جعبته إلّا الذكريات، ووعد في كفّه مثل العشب الندي. هل تعيد له الريح طفولته الهاربة، وكلما اقترب من تحقيق الوعد هربت مثل قافية سراب، تنتعل السحب، وتتمرّد حتى على الريح:
"آهِ..
يا ريحُ
قد قلتِ لي:
ستعيدينَ طفلي البعيدَ
فلا تكذبي"

أما زال هناك ملائكة على الأرض؟ سؤال يطرحه كلّ يوم شاعر مختلف في قصائده. أيّتها المرأة لست من لحم ودم بل ملاك في روحي، إنّ هذه المرأة بلا شك جعلت من فارس الكلمة أن ينتفض حين هطلت عليه مثل رفرفة نحلة فوق الشفاه تحمل الشهد، وإن كانت أنثى رابضة في الخيال، فقد أحيت موات الشاعر، وجعلته يمتطي الجبال، معلناً أنّ للعاشق أجنحة تنبت من حبّ يحلق به نحو الأعالي:

"لستِ امرأةً من لحمٍ ودمِ
أنتِ ملاكٌ في روحي
رفرفةُ النحلةِ فوقَ فمي
حلمٌ ناءٍ وخيالٌ أنأى
بهما أحيا، دونهما عدمي
وهطلتِ عليّ وكنتُ يباباً
أحييتِ مواتي
حلّقتِ بروحي نحوَ القممِ"

نعم يجب أن نقف أمام لوحة فيها كثافة الإيقاع، وموسيقا الصور، قصيدة محلّقة ومختلفة في عالم الشعر، إضافة إلى كلّ هذا فهي صلاة، صلاة ليس بمظهرها بل بجوهرها. لقد هزت هذه المرأة كيان الشاعر، وإن كانت مشرّدة أو مستقرّة فبيدها تنثر الخير والمطر الذي يروي يباب عمره، وشفتاها لهما من الطهر صلاة ملاك:
"كيفَ لامرأةٍ أن تهزّ جنوني
وتحلّق بيني وبينَ عيوني
يدها مطرٌ
شفتاها صلاة ملاكٍ حنونٍ".
كلما تعمقنا في القراءة وجدنا تلك المناجاة لهذه الأنثى التي بلغت بالشاعر مبلغ الجنون، وأعادته إلى طفولته حيناً، وأفقدته رشده حيناً آخر، ليتوب على يديها، فتكون آخر صلاة على شفتيه، أيضاً لتعلّم قلبه الطيران، فهو الشاعر الذي "لا جناح له" يحلّق بأجنحة حبّها في حلم ولو كان قصيرا، ولكن كان له وقع كبير وتأثير في نفسه حتى سالت دمعته في فرح أقصر من الطريق إليها. قبلة اخترقت جدار القصيدة، لقد سقطت عليه مثل المطر المتأخّر، ومثل بلسم لطير جريح، تخرجه من غربته وبردها، ومن الوحشة والجراح التي تراكمت على هيئة دموع داخله:
"هل تذكرينَ دموعي طوالَ الطريقِ
الطريقِ الذي كانَ أقصرَ من فرحي
ربما قبلةٌ فتحتْ كوةً في جدارِ القصيدةِ
وهو ضريرُ"

هذا الضرير راح يغنّي في صمت، يركض نحو نوافذ الحلم يريد أن يتأكّد هل هو يحلق في الواقع أم أنّها مجرد فيوض خيال؟ فالغناء طيران في عالم التعبير عن الفرح لشاعر "لا جناح له" والركض في جنون تعبير عن عاشق لا يعرف الراحة في غياب من يحبّ، فكلّ شيء في الغياب، يا له من سجن كبير دون الحبّ:
"أغنّي إذا صمتَ الكونُ حولي وماتْ
فخارجَ حنجرتي تصدأُ الكلماتْ"
ويستمر الغياب المرهق الذي يفضي بالشاعر إلى الليل والرؤى، وإن غياب الحبيب عن العين لا يعني غيابه عن القلب بل حضوره أقوى كنجمة تحطّ على الأهداب، ما أروعها بلاغة الصورة، تخيّل النجمة فراشة تحط على الهدبّ، أو ربما دمعة تهطل من غيمة الشوق، تقشر الليل، تلملم ألم الذكريات، وتفضّها :
"دعيني ألمّ الذكرياتِ، أفضّها
وأجملُ ما فيها الصلاةُ على الحبّ"
للعصافير التي خرجت من أعشاشها تضامناً مع عطش الحبيب، أن تحمل عاشقنا إلى البعيد، إلى أحلام الحنين، أو ترميه في عينيها فهي مأواه الوحيد، فالشاعر يطمح إلى عالم ينشد فيه الأمان، فهو يعيش في غابة مفترسة من دونها، صرخة خافتة تشقّ الروح، نغمات موسيقية وصور تصويرية لا تنتهي، تفضي بنا إلى غابة غنّاء، فيها الصمت والعزلة الحبّ والحنين والثورة على الواقع، طريد الغياب ومضرّج بالليل، والحسرة على الوطن، تنهش أظافر البعد والغربة قلب الشاعر، فينفتح جرحه ويتدفّق نزفاً من حروف ماسية ترسل إشارات استغاثة من اللاوعي إلى القارئ، تصله على هيئة ذبذبات على فرس العشق المجنح:
" كلّ ما فيّ يناديك، ينادي
فأنا المنفيّ حتى في بلادي
لي خيالٌ في الهوى يسعفُني
فهوَ في تيه المسافاتِ جوادي"
بالرغم من اليباس يأتيه الفرج على صهوة الأمل مهما كان في طيّاته اليأس :
"قصيدتي قد يبستْ
ولم تزلْ مؤمنةً
بالرملِ والسرابْ"

مهما كتب الشاعر يرى أنّه لم يستطع أن يعبّر عما يجول في خاطر روحه وفكره، فالحروف تبقى قاصرة عن التعبير. في الديوان صور تتطلّب مهارات معينة، ولا يستطيع أيّ شاعر أن يعبّر بتلك الصور إلّا الشاعر المتمكن من أدواته، فالشاعر جميل داري بقلمه يداعب شرنقة الحروف لتتطاير فراشات حرّة تنبض بالفلسفة، تملأ فضاء الديوان بالألوان، يخترق المألوف ليرتقي بالقصيدة في أفق المعرفة الرحبة، المعادلة - المفارقة، يسكننا الغيم، يخرج بنا عن إطار الشاعرية المألوفة، يداوينا بالخيال، فهو العقل المسكون بالجنون:

أنا غامضٌ حدّ الوضوحِ
وناقصٌ حتى الكمالِ

يذكّرني في قصيدة الحنين بقصيدة محمود درويش حيث شبه الحنين:
"الحنين ندبة في القلب، وبصمة بلد على جسد. لكن لا أحد يحنّ إلى جرحه، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل يحنّ إلى ما قبله، إلى زمان لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي".
لم يخل" لا جناح لي" من وجع الحنين، الصوت، الوجه، الذكريات، الصوت الذي كأنّه صوت نبي، إلى الظل المشتهى، حتى بات من العسير عليه أن يمرّ في الأماكن التي زاراها معاً، فالغياب شوك ينخر الزهر، وكم من محاولات النسيان والبعد باءت بالفشل، وكان في نهاية كلّ محاولة يعود إليها طفلاً :
"تشوّكني بالغيابِ الشقيّ
على الرغمِ منّي أقادُ إليها
كطفلٍ مطيعٍ بريءٍ نقيّ"
وفي الحنين قصيدة أخرى بحجم الجنون:
" حنينٌ بحجمِ جنوني
وحجمِ انتظاري المديدْ
أعيشُ على صوتِها وصداها
على دربِها وخطاها
على كتفيها أحطّ طيوري
وفي راحتيها أحطّ الورودْ
وألثمُ فاها، ولا أرتوي
فأعيدُ، أعيدُ، أعيدْ"

وباء كورونا كان له نصيب في الديوان، فالموت يحصد الضحايا:
"أينَ الطبّ وأينَ الحبّ،
وأينَ الشعراءْ
فليسمعْ عظةَ الموتى الأحياءْ"
يقولون إنّ الحبّ يصنع المستحيلات، تكاد لا تخلو قصيدة من شبح تلك الأنثى التي صنعها الشاعر من صلصال حروفه، ومن أنفاسه الدافئة بث الحياة في رمادها حين بثّت العشق في روحه، فتعادلا في عملية إعادة الخلق، وكانا الشعاع الذي يصحو وينام عليه. هي شمسه ساعة الشروق، وشدو الطيور عند الغسق، فهي المرأة العاطفة، والعقل النابض بالإنسانية.
إنّ الشاعر مسلّح بأدواته، يمتلكها، أبرزها الثقافة، الصورة، الفلسفة ، الحدث والعفوية في انتقاء الكلمات وصدقها، فمن يكتب من القلب لا بدّ أن يصل القلب.
لقد أسبغ على ديوانه الكثير من صور الطبيعة، فحبّه للطبيعة والوطن يكتمل في حبّه للأنثى التي جعلت منه ملكاً، وأعلن حبّه للإنسان والحياة على شكل قصائد، حفرها بإزميل الشغف، مبحراً في أعمق المعاني، ليضع بين أيادينا كنزاً آخر من كنوز الشعر في تجربة عميقة وواسعة. في كلّ قصيدة تجتاحنا رياح الشوق، لأول حبّ، وآخر حبّ، نتلقف دمعة هنا وقبلة هناك، لنجد نفوسنا في حالة إدمان لا نريد منه الشفاء، لا نستطيع تعليل ما نشعر به كيف نشرح الغموض، وما لا يُشرح، لذا نفوّض الأمر للغروب في ابتهال لا ينتهي للشمس ألّا تغيب:
"وأقولً لشمسِكِ: لا، لا تغيبي"

"لا تخافي الحبّ يا ماري، لا تخافي الحبّ يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.
تقولينَ لي إنّكِ تخافينَ الحبّ. لماذا تخافينه يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدَّ البحر؟".
لقد كتب جبران خليل جبران هذه الكلمات التي أصبحت مرجعاً لكلّ محبّ في التاريخ. يقف عندها كلّ من عاش الحبّ بكلّ تناقضاته:
"لا تخافي من الحبّ
فالحبُّ خيرُ عطاءْ
إن خلا الحبُّ من صهوةٍ
فهو قهرٌ
وكم يُقهر الشعراءْ
أنتِ لي
لستِ لي
يا لها من مفارقةٍ
كم أريدُ على كتفيكِ البكاءْ"
على تلك الكتف يندلع السؤال الكبير: كيف للحبّ أن يغدو أسمى طباع الإنسان؟ يمدّ يده يمسك يدها ينجوان معاً، وكأنّ الحياة تقف عند الأنامل، أنثى من دم ليس إلاها تنهمر على قلبه، وأنثى الماء، ودون الماء يضيع في سراديب الذاكرة، وينطلق الدعاء من الشغاف، صلاة يا ربّ صنها من غبار الوقت، إلى حين اللقاء، هل من لقاء:
"دونَ الماءِ ذاكرتي تضيعُ
هل من لقاءْ
هل من لقاءْ
كي نرتقي. أعلى السماء".
أنثى لونت حياة الشاعر بكلّ ألوان الفرح، أيتها الأنثى الأولى، الجنون إليك الطريق:
"عيناكِ –سيّدتي- نبعانِ من ظمأٍ
كمثلِ عينيكِ في الأحلامِ
لم أجدِ"

ويأتي الوطن من رياح الرؤى والتمنّي، يناشد الحبّ والعصافير، لتكون بلاده، طائر بلا أجنحة يتوسّل الأعاصير، يركض لا يعرف جهاته، يرفع أبصاره نحو السماء، يمسك بالوعد، يرفعه عالياً نحو الأمنيات مثل خرير السحب، يزرع الوقت في الرماد، يبحث عن خيط، يخيط به خياله، هل من معين من أنس ومن جان:
"أزرعُ الوقتَ في الرمادِ وأجني
أيّ خيط به أخيط خيالي
أيّ إنسٍ يعينُني، أيّ جنّي"
إن كان الشاعر يتكلم عن مشاعر الإنسان فليس هناك آخر حريّ به أن يحمل هموم الإنسانية، قبول الآخر من قبول الذات، الاعتراف بالاختلاف يجعله يتقاسم الأرض مع الآخر برغم جشع الآخر الذي يصوب عينيه إلى ما ليس له.
ولبيروت المدينة الحرة التي بكت عليها الأمم، بيروت الشعر والحرية والشعراء. كان لوجعها نصيب ولجرحها بلسم من حرف الجميل.
"فكلّ شيء سوى عينيكِ ممقوتُ"

يستمرّ الشاعر بين قصيدة وأخرى كالمستجير من النار بالنار، يحترق في أتون السراب:
"وأنتِ تدكينَ أسوارَ الغياب"
كأننا بين موت وحياة، ممزّقين بين وطن وغربة، بين لقاء وفراق، بين الأجنحة المتكسرة والقضبان. لغة غنية خلاقة نحو الفضاء الخارجي، نقف عند دمعة نرشفها من بين السطور، أو نرقبها وهي تروي وردة أمل زرعها الشاعر في نبض الوريد، ممزوجة بالحنين، جرح يسافر في جرح، خصوبة في الخيال، والمعاني والصور.
كلّ عبارة فيه مخاض، وكلّ فلسفة جنون، وللصوت الصارخ علينا الإصغاء بإذن الروح، ننظر إلى القصائد بعين البصيرة وعين الباحث نشرد مثل غزال المشتاق إلى جداول المياه، نأتيها سحراً، نبحث عن ارتواء، وعن مراجعة للنفس على ضوء الوجع الذي صهر قلب الشاعر.
تنساب حروفه بصمت مغلّف بالحبّ ليكتب أبجدية جديدة، من صوت الأمّ الذي لا يموت إلى الصباح الممتدّ نحو المساء، إلى ذلك اللهب المشتعل في فؤاد الشاعر الذي يتوسّد القصيدة، ويجمع الغيم، يشعل الريح، ويمضي إلى لا نهاية.
لكلّ بداية نهاية ولكن حين نقرأ "لا جناح لي" لا نريد أن تأتي النهاية بل نسبح في صخب المشاعر شلّالاً فوق الورق، مجنون آخر في حبّ الوطن، وأنثى تتوارى وراء الخمار المرصع باللؤلؤ الثمين، وعاشق في مرتبة الشرف يحمل بيمينه مشعل الحرية والابتهال لطن عاث فيه الدمار، وفي اليد الأخرى ريشته ينقش على جدران القلوب والذاكرة، اعتراف بزمن المعجزات والتحليق بأجنحة الحبّ.
شاعر اعتاد أن يمتطي صهوة الريح والألم، ويقلب الحروف ليخلق منها الأمل.
ليس ثمة مشاعر أقوى من مشاعر الحرّية، بهذه الروح المسؤولة، وهذا الخوف الخجول والحسّ المرهف يعود بنا الشاعر في ختام ديوانه يحرق نفسه ليولد طفلاً يسطّر حرفاً ويمحو آخر:
"أتدرينَ أنّ محياكِ
إن عبسَ الكونُ سمحُ
فلا بدّ أن أحرقَ الآنَ نفسي
لأولدَ طفلاً يسطّر حرفاً ويمحو"
هذا الطفل قد ختم ديوانه بومضات أو ما يسمونه شعر الهايكو الذي أبدع به، وهي عبارة عن جمل مكثفة في المعنى والصور، وهي أقرب إلى الأمثال والحكم، اختار منها على سبيل المثال لا الحصر:
"لا أستطيع حمل نفسي
وكنت يوماً أحمل العالم"

"لا أعرف دقّ مسمار في حائط
فكيف أدقّ عنق المنفى"

"ما الذي يحترق
مدنٌ، أفئدةٌ، أم ورقُ
ما الذي يجعلني مائدةَ لليلِ
شوقي وحده يأتلق"

أما خاتمة الديوان "دنياي":
"دنيايَ البيضاءُ اسودّتْ
هطلتْ
والأمطارُ دمي المسفوحُ
ونجا الكلّ من الفيضانِ
ولم يغرقْ إلّا نوحُ"

أخيراً:

هل رأى جميل داري نفسه باتروس الشاعر بودليرالمهيض ؟
هل الألم والأمل تعانقا في أجنحته الضخمة المحكوم عليها بالموت؟
إنّه الطائر الذي لا حول له ولا قوة، ولا قدرة على الطيران.
هذا على المستوى الظاهري البصري، أما على مستوى البصيرة فقد
وجدته في "لا جناح لي" محلّقاً بأجنحة رعدية تبشّر بمطر غزير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با