الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عائدٌ إلى دير ياسين

سميح مسعود

2021 / 1 / 9
الادب والفن


هذا العنوان عنوان مجموعة قصصية صدرت مؤخراً في عمان للشاعروالروائي والمترجم بسام أبوغزالة،العنوان يضيء حلمه الدائم بالعودة إلى فلسطين؛ حلم يتحدث عنه في أحاديثه العادية،ويدفع به أشرعته على مدار أيامه في منافي الشتات.
قرأت لأحد الفلاسفة أن الأحلام من أهم خصائل الإنسان،تخرج من عميق نفوسنا وتختلج ظلالها في حياتنا ويمكن بالعمل الدؤوب تحويلها إلى واقع في ركام الأيام، وها هو بسام أبو غزالة يحول أحلامه في العودة إلى حروف مقروئةعلى مستوى السرد، يثبتها في رباط متين من التتابع في مجموعته القصصية، ويؤكد أن حلم العودة لا يموت بموت الأجداد والأباء،بل ينقل للأحفاد ويصبح قرين ذاتهم ويتجلى في كل لحظة من لحظات حياتهم.
المجموعة القصصية التي أنا بصدد تعريف القراء بها هي من نتاج أحلام المؤلف بالعودة،إنها تمس تسع قصص هي عدد قصص المجموعة ، وسوف أحصر التعريف فقط بالقصة التي تحمل عنوان المجموعة،وذلك لضيق الحيز الذي تحدده الصحف لمثل هذه المقالات، ولأن القصة المختارة فيها دلالات منظورة تجسد حالة وعي تام بالاحساس بالعودة والاغتراب والقلق.
تتشابك في القصة موضوع البحث مجموعة من الشخوص قدمهم المؤلف في طقوص خاصة بهم،لا يرتوون من الحديث عن الوطن قبل النكبة،تطول أحاديثم وتختلط بأحداث النكبة والنكسة وأصواتهم تئز كالهيب وهم يتذكرون الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء الوطن،يُقوي حنينهم للوطن أحاديث الكبار منهم ممن عاشوافي قراهم ومدنهم قبل 48، كانت لديهم القدرة على استدعاء الأحداث من ذاكرتهم أكثر من غيرهم.
شخوص القصة يقيمون في مخيم البقعة قرب عمان، لكل منهم طريقته في اقتفاء أثر الماضي؛يقربهم المؤلف من الحقيقة ويحررهم من الخيال عندما يريد ويقدمهم بتأثير واضح على عواطف ومدارك القارئ ويجعله يستسلم لما في القصة من أحداث بمحض إرادته،وهذا هو بيت القصيد في ألأعمال الإبداعية بأن يُدخل المؤلف القارئ بين شخوصه يتاعامل معهم وهو يقرأ ما يقولونه وكأنه منهم.
أتقن المؤلف في إعطاء صورة بانورامية لمخيم البقعة، وهو يدبج أحاديث شخوصه ربطها بخيوط محكمة الأوصال، شدها وأظهرها برؤى واضحة ومقنعة تحاكي تفاصيل التغريبة الفلسطينية بكل تشكيلات الزمن الراهن والذي مضى،وتحافظ أيضاً على اتساق المشاهد من حيث الدلالة والمعنى في كل المجالات.
أظهر المؤلف قدرة عالية في التحليق بمهارة في الشأن الفلسطيني،وتمكن في نصه السردي أن يعكس الماضي في مرآة الحاضر،يضعها أمام القارئ، ويدخله في مسارات كثيرة ينسى فيها نفسه وهو يجول بين القرى والمدن الفلسطينية والأغوار ونهر الشريعة الفاصل ما بين الضفتين.
قصة عائد إلى دير ياسين متعددة الأقطاب مليئة بالاسماء تنقل بهم المؤلف من دير ياسين وقرى أخرى غيرها إلى طولكرثم إلى مخيم البقعة، عبر بهم عبوراً هادئاً بحبكة متمرسة وتركيبة بنائية مشوقة يظهر فيها الجد كبير المخيم الذي عاش مجزرة دير ياسين وهو يصور ما جرى بلوحات ناطقة يسمعها أولاده وأحفاده وجيرانه وكل سكان المخيم. هذا الجد الواعي على هذه الأحداث من دير ياسين يكثر الحديث عن المجزرة كان صغيراً عند حدوثها ،تفننت العصابات الصهيونية في مختلف أشكال القتل، نجا قلة من أهل القرية فروا حفاة في هدأة الظلام واستقروا في الضفة الغربية ، ثم رُحلوا ثانية في عام 67 إلى الضفة الشرقية.
نجح المؤلف في إعطاء الجد كبير المخيم الصدارة، وقدم أحاديثه بنبض عال ٍخاصة حلمه بالعودة إلى دير ياسين،جعل صوته يشق سكون المخيم، إنه بطله الذي يتشابك حوله كل الشخوص بما فيهم حفيده فارس الذي كان يتقن سماع جده ويغوص تحت عباءته عندما ينوي الخروج من البيت،يسجل أحاديث جده في ذاكرته بأحرف نافرة، ويعتبرها الحقيقة الأهم التي تربطه بالعالم المحيط،خاصة العودة التي يريد أن يساهم في تحقيقها في قادم الأيام.
لا يقف المؤلف عند سرده على توالي الأحداث بل يعرض أرائه في الإختلاف والتقارب في أقوال شخوصه بحنكة ودراية،وهم كثر وزعهم على اتساع مخيم البقعة يستطيع القارئ سماع أصواتهم ويشعر بهم وهم يتجولون ويجلسون في مقاهي المخيم ويرى كبيرهم برأي عين وهو ينتقد الدول العربية التي لم تف بوعودها وتركت شعبه في براثن الصهاينة لا يساعده أحد.
بقيت أحوال المخيم على ما هي عليه عدة سنوات، وذات يوم دب في براكياته نبض الفرح مع إطلالة أول فدائي، كان يرخي بارودته على ظهره رأوا في عينه شيئ من وهج، بدأ أهل المخيم بالرقص على اتساع دائرة دبكة واسعة شارك فيها الجميع بما فيهم الجد الأكبر، كانت الأرض ترج خوفاً من أقدامهم،ويطرقون بأغانيهم أبواب الفضاء، حتى الصغير فارس كان يلوح بعصا جده ويشارك بالغناء على إيقاع شبابة من قصب الخيزران.
فرحوا بحاملي البنادق من الفدائيين، شعروا أن سيوفهم لا تُفل قادرة على كسر الصخر،كانوا يحدقون في عيونهم ويرون فيها طوق النجاة من الإغتراب، وان بهم سيتم التشكيل النهائي للعودة إلى أرض الأجداد.
بعد فترة من الزمن تهاوت راياتهم عند انجرافهم بالتجاوزات والأخطاء كانوا يطلقون الرصاص في الهواء لأتفه الأسباب ويزعجون سكان المخيم،كان كبيرهم يتمخترفي المخيم كالطاووس، ويدخن السيجار ويطرب لخشخشة الرصاص، يضرب يده اليمنى بيسراه وهو يصفق لجنوده الصغار.
هنا بدأت لحظة نقد هذه الممارسات الغريبة، صرخ الجد في وجوههم بأعلى صوته"فلسطين لا تسترد بالفوضى، والعودة إلى دير ياسين لا بد لها من مكرٍ وتخطيط، الطخطخة في الهواء لهوٌ ولعبٌ وليست حرباً،ولا بد من إدخار الرصاص لصدور الأعداء."
كانوا يضحكون عليه ويزيدون من الطخطخة في الهواءويعيد القول بأعلى صوته" في ال48 ضاعت فلسطين لأن سلاحنا وعتادنا كانا شحيحين،فيضحكون ويطلقون الرصاص في الهواء."
كان الجد رجلاً ذا رؤية لا تغريه الخطابات ولا يصفق للزعماء،وعندما رحل عن دنيانا، تحول إلى رمز لحفيده فارس، سار على خطاه وفق إيقاع أفكاره، وتجلت عنده الحاسة النقدية لممارسات النضال الخاطئة مع توالي الأحداث،وهزه المقطع الآخير ألذي أطفأت فيه قناديل
النضال.
إتكأ فارس على موروث جده وخاصة حلمه في العودة إلى دير ياسين، وقرر أن ينزع عن نفسه كل شارات التردد وعليه أن يتجه صوب الضفة الغربية،وهذا يستدعي عبوره نهر الشريعة بالخفاء،وقد بدأ مساره إلى الأغوار وفق رؤية يخالط فيها التوجسَ أملٌ يلوح من بعيد في أنه سينجح في العبور إلى الجهة الأخرى من النهر.
وبالفعل نجح بالعبور بمساعدة شاب غوراني،وسرعان ما وجد نفسه يخطو على تراب الوطن بين الحقول، بقي على هذا الحال عدة أيام، وفي لحظة رأى بصيص أضواء مخيم عسكر قرب نابلس،وجد في هذه الصورة المؤثرة بدء تحقيق حلمه بالعودة إلى دير ياسين.
لم يضيع وقته أخذ يبحث عن بيت عمه أبي فادي، وجده ورحب به عمه وأولاده خير ترحيب، كانت عودته إلى دير ياسين معنىً مكرساً في حديثه مع قريبه فادي، ولفرط سيطرة هذا الحلم عليه قرر تنفيذه في أقرب وقت ممكن، لكن للأسف استشهد فادي تلقى في رأسه رصاصة من أحد المستوطنين، وقررفارس أن يثأر لابن عمه،تقدم لتنفيذ خطته لكن أذرع القدر تلقفته وتم استشهاده، وبقي حلمه بالعودة إلى دير ياسين حلمٌ حزين يسري نسغه في أعماقه حتى آخر لحظة في الحياة.
نجح المؤلف في نسج قصته بدراية فائقة لأنه يحمل في داخله قلباً ينبض بحب الوطن،يرى ذاته المنظورة فيه، ويبشر دوماً بحيوات تتخلق في باطن أرضه إثماراً وإزهاراً








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني