الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تدمر العسكري أقسى سجون العالم

آرام كربيت

2021 / 1 / 10
أوراق كتبت في وعن السجن


الاستبداد موضوعيًا كاره لكل ما هو جميل في الحياة، وهذا يتضمن الثقافة والفكر والإبداع، إذ يرى فيهم أعداء له يريدون النيل منه، يعروه من ثيابه وينشرون ثيابه القذرة على حبال الغسيل تحت الضوء. الاستبداد منتج حصري للدكتاتورية، والجهل والقهر الاجتماعي والتراتبية الاجتماعية والسياسية، والاستزلام والخضوع. والاستبداد متعدد الأنواع، منه الثقافي والديني والاجتماعي والفكري، يضعهم الدكتاتور في جبته كصرة واحدة وينثرهم في فضائه، فضاء سلطته الفردية، لهذا أرى أنّ التكوين النفسي والعقلي للدكتاتورين متقارب جدًا، إنهم منتج واحد، لهذا لا أرى هناك فارقًا كبيرًا بين حافظ الأسد وبشار وستالين وعبد الناصر وصدام. الدكتاتور يضرب التنظيم، خلايا فكرية وسياسية، مكونة من كتّاب ومفكرين ومثقفين، وبضربه للخلايا المنظمة يرعب المجتمع ويركعه.
وعلينا أن نعلم أنّ الاستبداد الديني كان موجودًا، قبل الأسد الأب وابنه، منتجه الثقافي كان راسخًا في المجتمع منذ أكثر من ألف سنة. بمعنى عندما جاء الدكتاتور رأى البناء مشيدًا، بل راسخًا، فأخذ المفاتيح ودخل بيته، إلى البناء الجاهز، حفر أكثر وبنى أكثر وكرس وجوده على الدعائم القائمة. بنى دولة أمنية، محوّلًا سورية كلها إلى مؤسسات أمنية خادمة لسلطته. جلب كتّابه وزلمه ومضى يكرّس مفارخ الاستبداد في كلّ مكان.
السجن السياسي ما زال قائمًا، والدولة الأمنية مستمرّة، فكيف يخرج السجين من سجنه. هذا على المستوى الفكري، أما على المستوى الشخصي فما زال السجن يشكّل لي غربةً وانطواءً على الذات. ماتت الحياة الطبيعية في داخلي، لم أعد كائنًا مثل بقية البشر. أشعر بالنفور من الاجتماع العام بالناس، شيء ما في داخلي يوجهني ويبعدني عنهم. لا أعرف سيكولوجيًا السبب الحقيقي. أينما أذهب أرى نفسي حاملًا سجني تحت إبطي أو قلبي أو ظهري.
كتبت روايتي عن السجن بعنوان، «الرحيل إلى المجهول»، ونشرت في العام 2010، بيد أنها لم تلق رواجًا أو أي اهتمام من الكتّاب والصحافة، أعدّ هذا الأمر مقصودًا، لأنّ مجتمعنا مقسوم على نفسه. وجاءت الثورة السورية وكشفت عمق الخراب الذي فيه. أعتقد أنّ الاستبداد تعرى أكثر في السنوات العشر الماضية، حيث صعدت على السطح التراكمات الماضوية الكامنة في المجتمع، كالطائفية والمناطقية، والعنصرية. بصراحة؛ لا يكفي أن نعري الدكتاتور وحده، إنما علينا أن نعري الاستبداد، المنتج الحقيقي للدكتاتور. عرّيت الدكتاتور، بيد أني لم أعرِّ مجساته، وهذا كان خطأً مني. كان الواجب أن أعري المعارضة أيضًا، لأنها العينة المكملة له، إنهما من المفرخة ذاتها. كنت في سجن تدمر العسكري، وهو أقسى السجون في العالم، هذا السجن مزقني نثرني حوّلني إلى أشلاء متناثرة. لا أعرف إلى اليوم كيف خرجنا منه أحياء؟ هل هي إرادة الحياة في داخل كلّ واحد منّا فقط، أم أنّ إرادة الحياة هي من تريد ذلك، هذا لا أعرفه بالضبط، بيد أني كنت أتمنى الموت ولم أحصل عليه. سجن تدمر أعدّه أكثر من ألم أو وجع أو قتل للنفس الحية. الكتابة عن السجن حررت جزءًا من الذاكرة. وبعد أن كتبت روايتي ونشرتها، شعرت أنني لم أعد أستطيع أن أعود للكتابة عنه مرّة ثانية. سجن تدمر مدمّرٌ، أعادني إلى الفراغ والخوف مرّة ثانية وحوّلني إلى إنسان غريب، فتح عيني على قسوة السلطة وقدرتها التدميرية.
في عدرا، كان السجن حجزًا للحرية، توفرت لنا الكتب والقراءة والتنفس اليومي. هذا السجن حررني من الخوف، من الجهل. استطعت أن أقرأ بعمق وأدخل في حوارات مع الأصدقاء، وتعلمت كثيرًا من التجارب في علاقتي مع السجان والسجين. وعرفت أكثر عن الحياة والمجتمع وسبب خرابه. كنت أراقب سلوك الزملاء وأعكسها على نفسي، وأقارن بيني وبينهم، كنت أقول لنفسي: آه، الخراب بيننا مشترك، بل هو واحد. وأقول إنّ العلاقة بين السجان والسجين ليست ميكانيكية خالصة، إنما بنية كاملة، هي نتاج استبداد طويل، وإنّ التغيير يجب أن يكون ثقافيًا أولًا حتى لا ننتج سلطة بديلة عن سلطة.
السجون أنواع، حسب حركية المجتمع. النظام يتمفصل مع آلية المجتمع، فإذا كان هناك حركة اجتماعية تهدد دولته أو سلطته الدكتاتورية؛ تحوّل إلى وحش، يأكل الدولة والمجتمع بأنيابه وأسنانه، أما في فترة الراحة وخمول المجتمع فإنه يسترخي. في سجن عدرا بدمشق، كان النظام قد بسط سيطرته على السياسة والمجتمع، وكان مرتاحًا، وكنّا في الثمانينيات والتسعينيات مرتاحين إلى حد بعيد، هنا أتكلم عن القوى السياسية التي لم تحمل السلاح، أما الذين حملوا السلاح فكانت معاملتهم قاسية جدًا. وعندما رحّلونا إلى تدمر كان ذلك بسبب رفضنا للعفو الرئاسي، أي إنه كان “تكسيرًا للرأس”، كما كان يقول قادة الأجهزة الأمنية.
حرّاس السجن مجرد أدوات سياسية، وهم ينفذون توجيهات السلطة. إنهم العصا التنفيذية التي يُضرب بها المجتمع. وهؤلاء يمكن إدانتهم لأنهم عملوا في هذه المؤسسة الأمنية، لكنهم عمليًا مجرد كائنات مأمورة. السلطة السياسية الأمنية في سورية هي الحارس الحقيقي للزنزانة، ولا أشعر بأي ضغينة نحوهم أو كره، ولا ألومهم. أقصد حراس السجن. في تدمر لا نرى السجان، لأننا نغمض أعيننا وننكس رؤوسنا عندما نكون بحضرته. إنه شيء محزن أن لا ترى وجه سجانك، ولا تعرفه. إنّ إخفاء الوجه مخيف أكثر من السجان ذاته. وسجن تدمر لا يمكن أن أنساه، إنه في سريري. سورية كلها سجن منذ أكثر من خمسين سنة برعاية دولية وحمايتها. كتبنا عن السجن، أدبيًا وسياسيًا، دخلنا في بعض مفاصل السجن، عريناه وعرينا أنفسنا، لكن يعوزنا أن نفكك مفهوم السجن، تفاصيل تكوين السجن، غايته الباطنية وكيف يمكن تدميره من داخله. هل يمكننا تسمية ما نكتبه عن السجن، بـ “أدب السجون”؟ لا أعرف. هل هو مذكرات، تعرية، (فشة خلق) كما يقال، محاولة أخذ التعاطف من المجتمع بأن نقول لهم انظروا لقد تعذبنا من أجلكم، أي “تبرئة ذمة”؟ لا أعتقد أننا كتبنا عن السجن بموضوعية، كان ذلك توظيفًا. هل يرقى ذلك إلى تسمية “أدب السجون”لا أعرف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نعمت شفيق.. رئيسة جامعة كولومبيا التي أبلغت الشرطة لاعتقال د


.. في قضية ترحيل النازحين السوريين... لبنان ليس طرفًا في اتفاقي




.. اعتقال مناهضين لحرب إسرائيل على غزة بجامعة جنوب كاليفورنيا


.. بينهم نتنياهو.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة إسرائيل بسبب حر




.. اعتقال مصور قناة -فوكس 7- الأميركية أثناء تغطيته مظاهرات مؤي