الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أو كما يسمونهم عادة قصة للذكرى

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2021 / 1 / 10
الادب والفن


نالت هذه القصة الجائزة الأولى في مهرجان القصة الجامعي الأول، ونشرت في مجلة الموقف الأدبي العدد 10 /11 عام 1973، بمبادرة من الأستاذ زكريا تامر، وكان يرأس لجنة تحكيم القصة. ولأنها قصة للذكرى، فإنني آمل أن يتقبل الأستاذ زكريا إهدائي القصة له: لعله لم يعد يذكر، لكنني لن أنسى.

زمن الكراسي المثقوبة
مدينة ملاهي
فراغ
رجل يحب الركض في الشوارع، وخاصة عند الغروب. يحب رحلات.. يحب مغامرات.. كان يملك رغبات بدائية..
قال عنه سعيد الطبيب في مستشفى المدينة: كان يحن دائماً إلى جسد مجهول، كان يحلم به دائماً.
وقال في مقابلة أخرى: كان يصرخ كالمجانين، كان أغنية حزينة.
في ملف الشرطة يرقد هذا التقرير الذي كتبه شرطي رفض الإدلاء بأية معلومات أخرى: " في الأيام الحالكة، وتحت المطر الحار، كان يزور القبور حاملاً وردة بيضاء. يزرعها، ثم يعود إلى الشوارع المزدحمة بالغبار وبالحجارة والأغنيات الصفراء ويقضي ليلته حزيناً "..
قال رجل: زوجته ماتت منتحرة.
_ : لماذا؟!
_ : لا أعرف، لكن..
1965
الأرض حقيبة رجل سادي
الرياح ترقص على أنغام أغنية شرقية
الأرض امرأة عاهرة
الموتى خزانات سوداء، تلقى فيها الأوساخ. الموتى لا يرقصون. في يوم رقص رجل ميت، وفي اليوم الثاني وجد مقتولاً، وفي اليوم الثالث ضاجع الأحياء نساء الموتى في المستنقعات، تحت المطر، في كل الحانات "..
قلت لصديقه مصطفى: متى؟
قال سليم: المسافات تموت.
قلت: زوجته؟!
قال جورج: نحن نموت.
الكؤوس مزروعة بفوضى مرضية على الطاولات، الأيدي تشكل متوازيات متشابكة، العيون ترتجف، تبحث عن جسد..
قال رجل يجلس على طاولة مجاورة: أصبحنا مجموعة ألوان باهتة.
قال الذي على يساره: إنه لا يرتوي أبداً.
بحر..
شمس..
ضباب..
قال الذي على يساره: العالم مزرعة مقابر.
قال رجل مجهول: لا.
قلت: لنذهب.
عدنا إلى الليل..
الجدار الأصفر عليه مجموعة صور، أعجبت بالصورة التي تحوي امرأة عارية ترقص تحت المطر..
قال مصطفى: مدينة مهجورة، فراغ أسود.
حين خرجنا كان البحر نقطة بداية والعالم الأسود متوار خلف الغيوم الحالكة..
اللقطة الأولى شوارع شتائية
اللقطة الثانية شوارع صحراوية
اللقطة الثالثة شوارع بدائية
قال أخوه: إنه طفل.
قال مصطفى: غرفته.
من مجموعة الأوراق، تناولت ورقة خريفية فوجدت على وجهها الأصفر: كانت صوتاً أبيض.
في ليلة شتائية استقبلنا تابوت فارغ القبر كله تراب أسود، العظام متناثرة على الأرض اللزجة. بحثت عن أشياء زرعتها في جسدها الأبيض. الظلام. شعرت بالخوف. القبور. لا أريد أن أموت..
بقعة في منتصف الطريق
حمامة
طفل
قال سليم: نفايات غيوم سوداء.
الشارع يكاد يكون خالياً. بعض الغرباء يضاجعونه مجاناً. في بقع متفرقة ترقد مصابيح حالمة..
_ : الباص.
الشارع مصاب بالجدري. السيارات تركض بسرعة خيالية. وصلنا الموقف. صعدنا الباص، كان مزدحماً بتماثيل بشرية تحب الثرثرة..
القسم الأول للنساء
القسم الثاني للرجال
قال رجل: لماذا تموت الرغبة؟
قالت امرأة: لم تمت.
قال سليم: للإعلان في الجرائد " مطلوب مدينة تجيد التحرك في عالم الأجساد ".
ضحك
شعرت بالدوار، بأشياء كثيرة مبهمة. نسيت كل شيء. كنت أود أن أحلق بعيداً، بعيداً..
قال جورج: مدينتكم صحراء.
قال جورج: قديماً.
قال جورج: وحديثاً.
قال جورج: زحفت عناكب سوداء حفرت في قاع المدينة " الغريب المجهول وجد في عربات الموتى ".
قلت: من؟!
قال جورج: كلنا غرباء.
1967
.........
.........
صمت..
قال جورج: الموت رحلة أبدية نحو السعادة.
صمت..
أيد مشلولة
فجر رمادي
قمر أسود
قال رجل: يا لكثافة الضباب، وعندما يتحد مع الظلام الزاحف كأفعى سوف تصبح المدينة متاهة.
قال رجل آخر: دائماً كانت هذه المدينة متاهة، ودائماً كان الناس وكأنهم أشباح داخل أشباح.
1968
خطواته الحجرية تصطدم بالأرض قوية قاسية. حقيبة دهرية تتأرجح في يده. إلى الوراء، إلى الأمام. حاولت أن أخلق شبهاً بينه وبين عفريت حكايات جدتي. كان طويلاً نحيفاً كعمود الكهرباء، وكان أسود مثله أيضاً. تقدمت منه، وقلت: صديق؟
كان وراء نظارته عالماً يرتعش. عيناه مساحة كبيرة من الحزن، وجسده ترتجف كحيوان مذبوح. قلت ثانية: صديق؟!
.........
.........
السؤال الأول: ....
انهمر حزنه كشلال، وقال:
تحولت إلى ورقة صفراء ذابلة ضاعت في جوانب الطرقات في ليلة شتائية.
السؤال الثاني: ....
انهمر حزنه كشلال، وقال:
في رحلتي الأولى فراغ أبيض
في رحلتي الثانية فراغ أحمر
في رحلتي الثالثة فراغ أصفر
في رحلتي الرابعة فراغ أزرق
في رحلتي الخامسة فراغ بنفسجي
في رحلتي السادسة فراغ رمادي
في رحلتي السابعة فراغ أسود
فراغ..
السؤال الثالث: ....
انهمر حزنه كشلال، وقال:
أهل مدينتي لا يتعبون أبداً، فهم ما زالوا يحملون مدينتهم منذ آلاف السنين خشية أن تنزلق قدمها وتضيع في أعماق..
أعماق خندق المدينة
أعماق خندق الحياة
أعماق خندق الأيام
الزمان موحش..
غابات وحشية تحلم بالمطر
أنت
سرير الموت أنت قمامة الزمن، حكايات النهاية
علامات غجرية
سرير الموت أنت تعانق التاريخ العجوز
ترقص الفالس على إيقاعات الدفء
سرير الموت أنت سرير الموت أنت
نموت .. نموت ..
الصقيع الوحشي يفترش الأجساد
نموت، نموت سرير الموت أنت
لسنا حجارة سرير الموت أنت
لسنا أياماً سرير الموت أنت
نموت.. نموت..
قال مصطفى: إنه لا يكلم أحداً.
قلت: والجسد المجهول؟
قال: ....
ومشى في الشارع اللانهائي..
راديو في الشارع: أنا يا عصفورة الشجن
مثل عينيك بلا وطن
توقفت
تحول المستطيل إلى مربع إلى دائرة إلى نقطة
قال سليم: الصفر عظيم.
قال مصطفى: كان القمر طفلاً يركض في السماء.
قال: إنه يبحث عن سماء بيضاء.
إنه يبحث عن امرأة.
كأس نبيذ أبيض مز.
_ : أنت زرت العالم السفلي؟
_ : أجل.
_ : لماذا؟
_ : أبحث عن امرأتي.
_ : هل تستحق المرأة كل ذلك العذاب؟
_ : المرأة هي الحياة.
_ : المرأة خلقت للمتعة.
وابتسم مكشراً عن مغارة بحر أبيض، احترقت في حوانيت حكايات السندباد، ثم أبتلعه صمت أبدي..
الدخان يرسم نساء عاريات يرقصن بخشونة
مد رأسه من النافذة، الأرض جرداء والليل يخيم على الأجساد المتعبة..
قال سليم: الليل ضخم جداً.
قال آخر: الليل ابتلع الموت.
قالت ثالثة: الحجارة ابتلعت الموت.
قال رابع: غداً، غداً.
قال خامس: مستحيل.
_ : سنرى.
السيارة تركض على طريق رملي. التهم الشمس. غرق في وجه الصمت البارد، وعندما عانق مرفأ أحلامه رقصت أشباح حكايات منسية وتحطم الغد على ظهيرة يوم حار..
قال سعيد: أنت تذكر، أليس كذلك؟
قال سليم: الصفر عظيم.
1969
قاعدة ثابتة وضعها غريب مجهول " الغد يتحطم دائماً " ..
_ : يا .. يا .. يا ..
رأيته مرة أخرى. شعرت بالارتياح مثل ذلك الذي يتملكني أيام الآحاد..
قال: ..
قديماً، هتف الناس: سقط من القمة، مات.
قال رجل: لا، إنه يموت.
ضحك الناس..
قال جورج: سأسافر غداً.
وصلنا بوابة الشوارع الصحراوية..
قلت: أنت حزين دائماً؟!
الناس كأعواد المشانق. تقيأت نفسي..
قال سعيد: آلة أثرية.
دخلنا بقعة مهجورة. الصحراء كالبحر. تناول فأساً وأخذ يحفر جسد الصحراء، الرمال تتحول إلى عصافير. أصبحت النهاية كتلة تنتظر فأسه. السماء حزينة. الغيوم ترتدي ثوب حداد دهري. كل شيء قبضة لا مرئية. رائحة أجساد. رائحة رمال. الشمس، أحبها، أكرهها. خطوات. فجر. رأسي يدور. أوهام. أوهام. أوهام. سأقتلك. سترى. غداً. غداً..
حفرة استقبال الموتى:
طول الحفرة حقل من الحجارة
عرض الحفرة حقل من الأشواك
ارتفاع الحفرة حقل من الرماد
ابتسم بأسى ..
حزيناً، الحزن كله، صرخ: ال .. ال ..
كان صراخه مخيفاً. ابتعدت. وابتلعته شوارع الصحراء..
....
....
إعلان هام: مطلوب صاحب هذه الصورة حياً أو ميتاً
هناك جائزة كبرى
....
....
اللعنة ..
اللعنة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج