الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إنتحار الآلهة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
2021 / 1 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم
٣ - إنكماش الله
يعتقد فويرباخ بأن الله هو الفراغ الذي ينعكس فيه تاريخ الإنسانية، وهذا الفراغ قد يكون رمزا للعدمية قابلا لإحتواء الله والعالم وتاريخ البشرية. أما في التراث اليهودي فإن الله في البداية كان يحتل الكون بأسره، فقد كان كمالا وامتلاء مطلقا ولم يكن هناك مكان لشيء غير الله أو لأي شيء يحد من لا نهائيته المطلقة. ولكي يخلق الله أي شيء، مهما كان صغيرا، كان عليه أن يترك مكانا وفراغا أو عدما لهذا الشيء الذي سيخلقه. وهذه العملية تسمى צימצום - tzimtzúm - zimzum تزيمتزوم - بمعنى التقلص أوالإنقباض والإنكماش في ذاته. في نهاية الأمر .. أي أن الكينونة المطلقة تتقلص لكي تترك مكانا لكينونة جديدة نابعة منها. فالكينونة والعدم مرتبطان بصورة مطلقة، لا كينونة بدون عدم، ولا عدم بدون كينونة، هما شيء واحد ولا يوجد تناقض بينهما، ووجود الله او عدم وجوده لن يغير من الأمر شيئا (الله بكماله المطلق لا يحتاج إلى الوجود). وإذا كانت كل الأمور سواء، فلا داعي إذن.. لا للحياة ولا للموت. وهنا تتحول العدمية إلى فكرة أخرى مقابلة.. هي العبثية.
ذلك أن العدم ليس نقيضا للكينونة كما أن المستحيل ليس نقيضا للممكن وانما احد تجلياته، كذلك الموت ليس نقيضا الحياة وانما حدها الأقصى. نقيض الممكن هو الضروري، أما الحياة فانها لا تتحمل نقيضا لأنها تحتوي الكل ولا يمكن وجود أي شئ خارجها. فالموت ليس ظاهرة طرأت على الحياة فجأة وبدون سابق إنذار، الموت يلغم الحياة من الداخل وهو أحد بنود المعاهدة أو الإتفاق على الإستمرار في التنفس وممارسة حرفة العيش. ذلك أنه في نفس اللحظة التي تبتدئ فيها الحياة يبدا مشروع الموت. ورغم اختلاف فكرة العدم عن فكرة العبث فان هاتين المقولتين تلتقيان وتتقاطعان في هذه النقطة الواحدة المحددة، لحظة اختيار الموت الارادي واطلاق الرصاصة.
فالانسان في بعض لحظات الارهاق، وبعد يوم طويل من العمل المضني، لايسعه الا أن يفكر وهو ينزع حذاءه ليستلقي ويستريح للحظات من تعب النهار، بان هذه الحياة ليست سوى لعبة مضحكة تتخذ صورة تراجيدية فاجعة، وأن العالم مجرد كابوس مستمر ودائم التجدد. ويعاود التفكير وهو يتقلب على سريره أرقا : الحياة حقا رديئة ومزعجة ومملة ومضحكة وتافهة وقذرة، تفوح منها رائحة نتنة تبعث على الغثيان، غير أنه على ما يبدو لا يوجد في الكاتالوج أحسن من ذلك، بل لا يوجد أي شىء آخر. فالحياة هي البضاعة الوحيدة المتوفرة في السوق، والخيار محدود ولا امكانية للمساومة أو تخفيض الأسعار... ويأخذه النوم في النهاية، ويغرق لساعات طويلة في غياب لذيذ خارج الزمان والمكان، حتى يستيقظ في اليوم التالي على رنبن المنبه، فينهض ليغسل وجهه، ثم يشرب قهوته، ويرسل الأطفال الى معسكر التعليم أو التدريب على العمل، ويخرج الى الشارع ليركب الباص أو السيارة أو الدراجة حسب الامكانيات المتاحة، أو ينزل تحت الأرض ليأخذ المترو وهو ما يزال يفكر: ماذا أفعل هنا..؟! وفي داخل جمجمته عاصفة وزوبعة، تختلط الأفكار السوداء، وتتراكم الصوروالاختيارات، وتتراطم الامكانيات. ويبحث عن نقطة ثابثة يتشبث بها كي لا يفقد توازنه ويسقط في الفراغ، نقطة ثابثة مضيئة تريحه من السؤال القديم، من الفكرة الشيطانية المنغرزة في لحمه، والتي تحتل جسده ووعيه... في أية لحظة يمكن أن ينزلق ويسقط، في أية لحظة يمكن أن يثور ويرفض مواصلة اللعبة الهزلية أو ينزل الستار ويعلن نهاية المسرحية، ويقطع الخيط الرفيع الذي يربطه بالبيت والعائلة والاطفال والعمل والسياسة والمجتمع ... وقائمة الأثقال والأشغال الشاقة تبدو شديدة الطول وبلا نهاية. وقد يقرر فجأة أن يتوقف في هذه اللحظة بالذات، هنا في هذه المحطة بعينها، ويعلن نهاية الرحلة، وبدلا من أن يركب القطار ليصل الى عمله في الوقت المحدد كالعادة، فانه يقفز ويلقي بجسده على السكة الحديدية أمام القاطرة، أو يقفز من أعلى الجسر ليغرق في مياه النهر الباردة. وهنا بالظبط.. هنا ينهض الفيلسوف متثاقلا من كرسيه وهو ينفث دخان سيجارته أو غليونه، معلنا تجلي العبث وظهوره ساطعا كنور الشمس يضئ الموقف بكامله ويشرح أسبابه ومكوناته. وقد لا تساوي فكرة "العبث" أكثر من عدة سنتيمات في سوق الفلسفة، الا أنها ساهمت في انتاج العديد من الأعمال الفنية والأدبية الرئيسية طوال القرن الماضي، لذلك يجب الاحتفاظ بها ولو مؤقتا. فالنظر للانتحار من هذه الزاوية وتفسيره بواسطة هذا المفهوم المجرد، يوحي في النهاية بأن هذا الاحساس أو الوعي بعبثية الحياة وبعدم جدواها، هو ظاهرة عامة ومنتشرة على جميع المستويات، نظرا لانتشار ظاهرة الموت الاختياري وعموميتها. فحين نلقي نظرة على الاحصائيات المتعلقة بهذه الظاهرة، حيث ينتحر انسان كل 30 ثانية، أي أكثر من مليون شخص سنويا، بالاضافة الى عدة ملايين من المحاولات الانتحارية الفاشلة، نجد أن الأمر لا يتعلق بحالات خاصة مثل الفنانين والشعراء ذوي الحساسية المرهفة والـ"انا" المنتفخة الشديدة الحضور، ولا بالمراهقين أو العشاق الرومانتيكيين، ولا يتعلق الأمر بالعاطلين عن العمل الذين فقدوا الأمل في مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، أو المساجين اللذين يفتقدون الشمس والهواء. الأمر يتعلق بالانسان العادي، الشديد العادية ـ والذي يشمل كل هذه النماذج وغيرها ـ أي الانسان الذي لا يختلف عن الآخرين سوى بهذه الخطوة الاضافية التي يخطوها في الفراغ.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لمى مروان تا?مر حسين بن محفوظ بفتح محادثاته الخاصة ????
.. تركيا.. المعارضة في مواجهة انتخابية جديدة على رئاسة البلديات
.. بوتين: إذا زود الغرب أوكرانيا بمقاتلات إف-16 فستسقطها روسيا،
.. مليار وجبة طعام كانت تنتهي يومياً في سلات النفايات خلال عام
.. جورج خباز: لا خوف على الفنّ في منطقتنا اليوم، فالفنّ يولد من