الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مات بتوقف القلب

راتب شعبو

2021 / 1 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


إلى المنكوبين بموت أحبتهم

باتت المصادفات في سورية تنافس البديهيات المستقرة. المصادفة التي تجعل السوري المطلوب إلى فرع الأمن لشرب فنجان قهوة، أو لسؤال وجواب، يقضي خمسة عشر عاماً في السجن، أو ربما يقضي في السجن، تقابل البديهة التي تقول مثلاً "الأسد للأبد"، أو تلك التي تقول "أنا بعث وليمت أعداؤه"، على سبيل المثال وليس الحصر. هكذا تتقارب المصادفات مع البديهيات.
مثلاً الكائنات البشرية التي شوهدت في شوارع المدن السورية، يوماً ما، وهي تصيح بعبارات مناقضة للبديهيات المستقرة و"المقيمة ما أقام عسيب"، وصلت، بمصادفة تشبه البديهية، إلى منعزلات مجهولة تشكل مرحلة ما بعد السجون في سورية. المنعزل، على خلاف السجن، مجهول من حيث المكان ومن حيث عدد المنكوبين فيه، ومن حيث الجهة التي تتولى أمره. المنعزلات محلات ناجعة للدفاع عن البديهيات بما يفوق قدرة السجون، وهي مجهزة بكل ما يلزم وبكل السبل بما في ذلك صناعة المصادفات.
مثلاً في الأمكنة المعزولة المجهولة حيث يسجن (نقصد يعزل) السوريون الذين تظاهروا يوماً ما من عام 2011، أو الذين تعاطفوا بشيء ما مع المتظاهرين المطالبين بتغيير النظام السياسي في البلد (بلدهم)، أو الذين قالوا شيئاً غير محمود بحق النظام السياسي القائم والمتربع في هذا البلد (بلدهم)، أو الذين خطر لهم أن يقولوا بكل وقاحة "لا للقتل"، أو الذين تجرؤوا على القول "نريد وطناً لكل السوريين" ..الخ، يصدف أن نكتشف أن معظم هؤلاء يمتلكون قلوباً مريضة تتوقف فجأة بعد فترة من الحجز.
وقد يصدف أن يكون مصير هؤلاء العنيفين الأجلاف المتظاهرين أو المطالبين بوقف القتل، أشنع بما لا يقاس من مصير أولئك الداعشيين الوديعين الذين يصدف أن تنقلهم باصات مكيفة، وتحرسهم بنادق "صديقة"، ويقدم لهم الزاد الروحي والمادي بسخاء حتى يصلوا إلى مأمن، وكل ذلك محكوم لمصادفات لا راد لها.
كما يصدف أن يصاب الجلادون (وهو ليس إلا الاسم الشعبي للمحققين المسؤولين عن تقصي وفهم دوافع هذه الكائنات العجيبة التي اختارات الخروج إلى الشارع والصراخ بعبارات غير مقبولة وتناقض البديهيات السورية)، بصدمة إنسانية شديدة أمام ظاهرة توقف القلوب هذه، فترق نفوسهم، الرقيقة أصلاً، ويختارون إخفاء الأمر عن الأهالي خشية على مشاعرهم، وعلى قلوبهم بشكل خاص. ولذلك فإن الأهالي لا يحصلون على أي دليل يقودهم إلى مكان احتجاز سجينهم (نقصد معزولهم) أو حالته، هل هو حي أم ميت، حين يراجعون ويسألون، ويدفعون جناية أعمارهم ودم قلوبهم، ويبحثون عن ضوء ولو من ثقب أبرة. يصدف، من ضمن المصادفات الكثيرة، أن يجد جميع الأهالي أنفسهم على قدم المساواة أمام جدار أسود أصم ليس خلفه ضوء، وليس فيه فتحة ولو بحجم ثقب الأبرة.
يصدف أيضاً أن يكتشف أحد ما، أن الحقد الذي تكنه أجهزة المخابرات السورية على المتظاهرين المطالبين بالحرية هو حقد مشروع، لأن المتظاهرين سرقوا من أجهزة المخابرات شعارهم "حرية للأبد"، وطالما أن الحرية لا يمكن قسمتها بين الشعب وأجهزة المخابرات، لأن حرية طرف تعني تقييد الطرف الآخر، فهذا يعني أن المتظاهرين والأجهزة الأمنية يتنازعان على الشيء نفسه، وأن المتظاهرين أرادوا أن ينتزعوا من الأجهزة حريتها الأبدية. ومع ذلك واجهت الأجهزة "الحرة إلى الأبد"، مصادفة توقف القلوب بإنسانية عالية، واختارت أن تخفف عن الأهالي وقع المصيبة بأن لا تخبرهم عن حال سجينهم (معزولهم).
حتى أنه حين جاءت لحظة الحقيقة وصار لا بد مما ليس منه بد، أي إخبار الأهالي بقصص توقف القلب، ونظراً لخجل الأجهزة من عيون الأهالي، فقد وضعت بينها وبينهم ستاراً ناعماً اسمه دوائر النفوس.
المصادفة الأخيرة (حتى الآن، لأننا لا ندري في الحقيقة إذا كان هناك نهاية للمصادفات) أن الكائنات المتظاهرة التي وجدت نفسها في المنعزلات المجهولة، أبدت خاصية أكثر غرابة من توقف القلب المفاجئ، وهي أن توقف القلب كان يليه تبخر مادي لا يبقي من الشخص سوى اسمه. وربما هذا ما حدا بالأجهزة المثقلة بإنسانيتها، أن تختار دوائر النفوس كستار بينها وبين الأهالي، ذلك أن النفوس في دوائر النفوس ليست سوى أسماء، وحين لا يبقى من الشخص سوى اسمه، كما حصل مع كائنات توقف القلب المفاجئ، يكفي أن يتحرك القلم الأحمر ليصنع إشارة ضرب على صفحته النفوسية، وينتهي الأمر. النفوس، في المحصلة، هي أسماء عليها إشارة ضرب حمراء وأسماء أخرى تقبع في صفحاتها بانتظار الإشارة الحمراء. هذه هي دوائر النفوس ببساطة، وكان يمكن تسميتها دوائر الأسماء لولا جفاف التسمية، وعجزها عن الاقتصار على دائرة الإنسان، فللأشياء كلها أسماء ولكن النفوس خاصية بشرية فقط.
على الأهالي أن يعتادوا، مع انهمار المصادفات وتقاربها مع البديهيات، على التعامل مع الموت بطريقة الحذف الذهني. كان ثم اختفى. الاختفاء الأبدي لحبيبهم دون أثر، دون قبر يزورونه، ودون معرفة متى وكيف فارق الحياة، أي دون حقائق ثابتة يطمئنون إليها. اغسطس/اب 2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد