الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النزيف الاقتصادي ...واحتمال الكارثة في تونس

رضا لاغة

2021 / 1 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


لا نستطيع فهم طبيعة الأزمة الاقتصادية في تونس بمعزل عن الشروط السياسية المؤطرة لها. فتخلّف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وهيمنة شعور الخوف والقلق من حدوث كارثة ما يعود بنا إلى الصالون الفرنسي والبريطاني يظل أمرا ممكنا. وهي بداية هزة خطيرة في مسار الأحداث تجعل من تونس من دولة مفلسة الى دولة تدار سياستها الاقتصادية من صالونات الدول المانحة.
هذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على الدور المشبوه الذي مارسته السلطة الحاكمة مع حكومة المشيشي ومن ورائه ائتلاف جعلت الممارسة السياسية في أفقها الاستراتيجي غائبة ؛ بل ومهددة حتى في أفقها المتنوّر. لذلك سنحاول أن نستأنف التساؤل عن المعطيات الاقتصادية الحاسمة التي تمرّ بها البلاد التونسية والتي تكاد تنتقل إلى عتبة الافلاس.
ولكن قبل ذلك سنعالج النقاط التالية:
ــ الوضع الاقتصادي من خلال قانون المالية
ـــ الهروب إلى الأمام وإجراء تحوير وزاري
ـــ قلب تونس وفرصة التموقع الوطني كطرف محدد للحوار
أولا الوضع الاقتصادي من خلال قانون المالية 2021
يتكوّن القانون الكارثة من تقديم عام وأربعة أجزاء.
حاول القانون في التقديم العام أن يشير إلى التحديات التي يواجهها الاقتصاد التونسي بسبب انتشار جائحة فيروس كوفيد19 . وكلفة الإجراءات الخاصة المتعلقة بالعزل الصحي والحظر الشامل على الدورة الاقتصادية. فضلا على تراجع الطلب العالمي لبعض المنتجات التونسية والقطاعات الخدمية كالسياحة . وهي كلها مؤشرات تؤكد تراجع مرتقب لنسب النمو.
إن هذا المعطى على أهميته تغافل عن حقيقة موضوعية مفادها أن الأزمة الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد التونسي ليست جديدة. فمن الإجحاف ربطها بجائحة الكوفيد. صحيح أن الأزمة الصحية العالمية أثرت على أعتا الاقتصاديات العالمية غير أن التقييم الموضوعي يستدعي الإقرار بأن الأزمة هيكلية وأن المنوال الاقتصادي منذ 2011 بدأ يضيء مؤشرات الخطر والإصلاح الهيكلي حول التفكير في سبل جديدة لتعبئة موارد الدولة.
يؤكد مشروع القانون أن التفاعل مع هذه الظروف الصحية الاستثنائية ، استوجب اتخاذ جملة من الإجراءات ذات الطابع الاقتصادي والمالي لحماية النسيج الاقتصادي الوطني قصد الحفاظ على مواطن الشغل وضمان حد أدنى من الدخل للمؤسسات الصغرى والوسطى.
وهو معطى يتعارض مع المؤشرات الإحصائية التي تبيّن فقدان ما يزيد عن 160 ألف موطن شغل منذ أزمة الكوفيد ، فضلا على إغلاق واسع للمؤسسات الصغرى والوسطى.
أما عن التدابير ذات الطابع الاجتماعي فقد اكتفى القانون بجملة فضفاضة خالية من أي إحالة عن الجهات المستفيدة ونوعية الإجراءات المتخذة. إذ اكتفى بالقول:"أما الإجراءات ذات الطابع الاجتماعي فهي موجهة أساسا للفئات الاجتماعية الهشة والمعوزة والمحدودة الدخل وذات الاحتياجات الخصوصية".
وبعد هذا التقديم العام الذي ينقصه التماسك والخالي من أي مؤشرات موضوعية يخلص القانون بشكل اعتباطي إلى فرضية مفادها أن آفاق التنمية لسنة 2021 ستشهد قدرا من التعافي. وهو ما يبرر منح أولوية قصوى للقيام بإجراءات احتوائية لدعم النظم الصحية والحد من الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية. وفي محاولة لشرح و توضيح طبيعة هذه الأولويات يضبط القانون خمسة معايير:
ــ العودة التدريجية لنسق النمو والحفاظ على مواطن الشغل
ــ ضمان انطلاقة جديدة للاقتصاد الوطني واقتناص الفرص التي يطرحها الواقع ما بعد الكوفيد.
ــ إيقاف نزيف المالية العمومية عبر تحسين الموارد الذاتية للدولة
ــ إحكام التصرف في النفقات عبر إعادة هيكلة القطاع العمومي
ـــ استعادة النسق الطبيعي في القطاعات الإستراتيجية الداعمة لموارد الدولة.
والملاحظ أن هذه المعايير تتعارض مع حقائق دامغة تحدث في أرض الواقع من أهمها ليس هناك خطة للحفاظ على مواقع العمل، تفاقم نزيف المالية العمومية، غياب أي مؤشر لمراجعة هيكلية للقطاع العمومي. فضلا عن كون القانون يطرح فرضية استعادة نسق نمو آفاق التنمية لسنة 2021 كمعطى طبيعي وتلقائي ومن جهة أخرى يجعله نتيجة لجملة من المعايير التي تتناقض مع الواقع.
الجزء الأول: توازن ميزانية الدولة لسنة 2021
إن بلورة هذه الخطوة تستدعي إقامة توازن محيّن لميزانية الدولة لسنة 2020
وفي هذا الصدد يقدم القانون بعض المؤشرات لنمو الاقتصاد على المستوى العالمي.والغريب أن القانون يعرض توقّعا لإمكانية تسجيل العالم لنسبة نمو تقدر ب 4,4 سنة 2020 ونسبة 5,2 لسنة 2021.
والمتأمل في الجدول المصاحب يلاحظ أن الشريك الأوروبي لم يحقق نسب نمو تذكر لسنة 2019. ففي فرنسا مثلا 0,6 وألمانيا 1,3 وإيطاليا 1,5 بل إن أمريكا نفسها لم تتجاوز1,7 مقارنة بالصين في نفس السنة التي أحرزت نسبة نمو تقدر ب6,1 والهند 4,2 . هذا التباين العميق يزداد وضوحا في سنة 2020 بسبب الجائحة . فإذا كانت فرنسا قد تراجعت ب6 ناقص وألمانيا ب8,3 واسبانيا ب12,8 وايطاليا ب9,8 ، فإن الصين ظلت محافظة على نسبة نمو إيجابية تقدّر ب 1,9. إن هذه المعطيات الإحصائية تبرز بوضوح هشاشة البنية الهيكلية للشريك الأوروبي مقابل صلابة ومرونة اقتصاديات الصين والهند. وهو ما يطرح إستراتيجية تنويع الشركاء. ولأن القانون سجين ارث تاريخي، فهو يعتمد على هذه المؤشرات بشكل من التوظيف المخل ليحجب مشروعية أي طرح جديد للشركاء الاقتصاديين.
وحين يتطرق القانون لنسبة النمو على المستوى الوطني يقدّرها ب4 بالمائة لسنة 2021 دون أن يفردها بصلابة علمية. لذلك فهي مجرد تخمين غير منطقي وغير معزز بالحجج المقنعة. إذ وفق الجدول المصاحب تقدر نسبة النمو لسنة 2019 بواحد بالمائة لتتراجع سنة 2020 إلى 7,3 سلب ثم لتقفز سنة 2021 إلى 4 إيجاب.في حين أنه يعزى هذه التوقعات إلى تطور محدود في الصناعات المعملية والتي قدّرت ب5 بالمائة والصناعات غير المعملية ب10,7 والخدمات المسوّقة ب5,3 وفي ظل تراجع القطاع ألفلاحي ب2,6 .
وهي مؤشرات لا تبرر بأي حال من الأحوال كيفية حصول هذه القفزة من 7,3 سالب إلى 4 نمو ايجابي.
حوصلة لأداء حكومة المشيشي بعد 120 يوم عمل
مواكبة لهذه التحولات الاقتصادية يمكننا تحديد نتائج مهمة برزت أساسا في حكومة المشيشي المعتلّة و الفاسدة:
ـــ على صعيد ما هو صحي: من 4000 اصابة بالكوفيد و92 قضوا إلى ما يزيد عن 120 ألف إصابة و5000 قضوا. وهو مؤشر على أن دور الدولة تلاشى نهائيا في مواجهة الجائحة . إذ حتى في حال اتخاذ اجراءات وقائية تعجز عن ردع المخالفين. وهذا أخطر شكل لانحطاط كاريزما الدولة.
ومن الأمور التي يمكن أن نلاحظها في هذا السياق غياب التخطيط الاستراتيجي . وهذا غريب إذ في ظرف نعيش فيه تجديد الفكر السياسي والمواطني تتخلخل الدولة وتعجز عن أداء دورها التوجيهي القائم على التخطيط.
ـــ على صعيد الخدمات في المرفق العمومي: من المفترض أن يتّجه الوعي الإصلاحي للدولة نحو حوكمة مختلف مظاهر الخدمات الاجتماعية و إسناد الطبقات الهشّة بسبب الكوفيد من قبيل الإجراءات التي اتخذتها حكومة الوحدة الوطنية ( إرجاء سداد القروض ، منح للعائلات المعوزة...). بدلا من ذلك ماذا سجّلنا في حكومة المشيشي الفاسدة:
· إعفاء الفئات المرفهة بنسب مهمة من الأداء الضريبي على " كواد" و" اليخت"
· إعادة جدولة ديون النزل السياحية وتمتيعها بإعانات عينية مهمة.
· تمرير مبادرة لحل لجنة مكافحة الفساد التي بفضل تحرّياتها تم إيداع وزير البيئة في السجن.
· إقالة وزير الداخلية على خلفية أملاءات حزبية وخارجية بمجرد ما أن وضع يده على عشّ الدبابير.
· موت طفلة وشابة ومواشي في بالوعات الصرف الصحي دون محاسبة
· موت طبيب شاب جراح جراء سقوطه في مصعد المستشفى
· شرعنة التفاوض مع تنسيقيات تنتصب كنقيض للدولة وفي المقابل الاعتداء على أصحاب الشهائد العليا في القصبة وباردو بالغاز المسيل للدموع و تجمهر القيمين بالقصبة.
· التفطن إلى صفقات مشبوهة من الأرز المسرطن
· التفطن إلى صفقة النفايات الايطالية
· تعطّل مرفق القضاء لما يزيد عن شهر ونصف وإجراء تسوية في الخفاء بما يناقض مبدأ النفاذ للمعلومة وعلى نحو يضرب مبدأ العدالة الجبائية
· تعطل المرفق التربوي وتجاهل إضراب القيمين والادرايين الذي استمر أكثر من شهر.
· جنوح نحو التطبيع من قبل بعض البلديات وعدم اتخاذ أي إجراء قانوني ردعي في حقهم : الحل الفوري.
إن هذه النفحة من التسيّب في صيغتها الرديئة لحكومة المشيشي تؤكد أنه يمثّل خطرا حقيقيا على البلاد . فقد فرضته ظرفية وملابسات احتقان سياسي بين كتل الأحزاب فاختلطت الأوضاع وأنتجت ما نراه من تخبّط في إدارة الدولة.لذلك لا يجب أن نتغافل عن أسئلة الجذور بسبب متطلبات الأزمة لنقول أن كل تحوير وزاري أحادي وغير توافقي، هو بداية تدشين عهد الصالون الباريسي. ربما بعد هذا لن نكتب لأننا سنكون كأسلافنا في الجبال ذودا عن مناعة تونس.
ثانيا: الهروب إلى الأمام وإجراء تحوير وزاري
إن الشعوب لم تكف عن محاولة الوصول إلى هذا الهدف المقدس ( الحكم الديمقراطي). وهي تحقق في كل مكان وفي كل زمان خطوة ، مهما تكن صغيرة ، تقرّبها من هدفها. قد تتعثر المسيرة أو تتوقف أو حتى ترتد في مكان محدد أو زمان معين. ولكن الاتجاه العام لمسيرة الشعوب الديمقراطية في تقدم مستمر.
غير أن السؤال الذي يظل قائما : لماذا تتحول مشكلة الديمقراطية إلى أزمة حادة؟
هكذا يسأل دـ عصمت سيف الدولة ويجيب رينيه كابيتان:"إن مأساة الديمقراطية تكمن في أن الديمقراطية لم تستطع أن تحقق الديمقراطية".
ولأننا نؤمن أن الديمقراطية تعني قدرة الإنسان في الانتصار على مشكلاته (بأسلوب علمي)
وأن هذه المشكلات تنقسم إلى:
ــ مشكلات تطبيقية نختلف حول الحلول المناسبة لها
ــ مشكلات نظرية :تقوم على مبدأ التأصيل. أي محاولة تبيئة الخيار أو الحل أو القانون الديمقراطي وفق خصوصية المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لذلك يعتبر د ــ عصمت سيف الدولة الديمقراطية نظام حياة.
وبالتالي ليس هناك جدوى لدراسة تطور مفهوم الديمقراطية عبر العصور ، كحل جاهز، أو رهن مفهوم الديمقراطية في تقصي العلاقة التي تربطه بالدولة أو الحكومة ...
الطرف الأصيل في مشكلة الديمقراطية عند عصمت سيف الدولة هو الشعب. وهي مشكلة التخلف الديمقراطي . وهو ليس نتيجة أو انعكاس للتخلف الاقتصادي كما تزعم الماركسية وان كان يتأثر به.
إن المشكلات التي يثيرها التخلف الديمقراطي أهم من صياغة النظام الديمقراطي نصا ودستورا. المشكلة الفعلية: كيف تعي الشعوب حقوقها؟وكيف تمارسها؟
فحتى في المجتمعات الأكثر استبداد " لا يفتقد أحد الشكل الديمقراطي ، فحق التصويت عام والحكومات لا تتردد في دعوة الشعب للانتخاب ا والى الاستفتاء ".وإذا كان الشعب متخلف فلن يحسن اختيار من يمثله. وبنفس الدرجة فإن أساليب الممارسة الديمقراطية ليست دليلا على حسم مشكلة الديمقراطية.
من هذا المنطلق نعرف أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يضطلع به فرد. وفي حالتنا عندما يركن المشيشي لتحوير وزاري هو في النهاية يباشر إصلاح الإخفاقات التي مني بعض وزرائه. هنا تتأسس الأزمة بشكل مضاعف. لأن الأزمة تقتضي ترشيدا لحل متنور والتحوير هو تأكيد لسياسة متوالية.
في ظنّي أن استعمالها سيحمّل حركة النهضة حصريا مسؤولية ما يطرأ وطنيا من انحدار يقنن سياسيا حدوث الكارثة والتي نعني بها الحكم تحت وصاية الصالون الفرنسي.لذلك ليس غريبا أن تتفشّى رواية دعوة ماكرون للمشيشي وزارته الغامضة منذ أيام ولقائه مع أ ـ ف ـ مي . كجهة مانحة سال لعابها بشكل شره وغير مسبوق على تونس .
في هذا الإطار وداخل دائرة الوعي الذي نعاني فيها من كابوس احتمال الكارثة يصبح قلب تونس وليست حركة النهضة هو القادر على صياغة ملامح حل سياسي قائم على الحوار بين طرفين أساسيين هما : حركة الشعب والتيار الديمقراطي. وهو موضع العنصر الثالث من معالجتنا.
ثالثا:قلب تونس وفرصة التموقع الوطني كطرف محدد للحوار
قلنا في تحاليلنا السابقة أن انتصار السيد رئيس الجمهورية تزامن مع أمر يناقضه تماما.وهو شجب العمل الحزبي. من هنا قلنا أيضا أن السيد الرئيس وضع نفسه في مأزق رغم كونه كان مصيبا في مآخذه على أداء الأحزاب . اعتبارا من هذه الآونة بدأت بعض الأحزاب المساندة للرئيس أثناء الحملة الانتخابية في مراجعة حساباتها.وبدأت تفصح عن ذلك صراحة. وأضحى قواعدها يتحدثون بلهجة الحزب وليس بقيم الثورة . وقد لاحظنا ذلك عند ائتلاف الكرامة وحركة النهضة وباحتشام عند قلب تونس. ولحل التناقض بشكل صحيح شرعت مؤسسة الرئاسة في بناء تقنيات اتصال غير مألوفة مع المعسكر الحزبي.هنا يمكن أن نتحدث عن توازنات في صناعة القرار السياسي.
ولأن رئاسة الجمهورية تجسد الشرعية الانتخابية المكثفة ولكونها حاضنة لحقيقة تصحيح المسار الثوري فإن ظهورها سيعمّق التناقض مع كل المستفيدين من تعطيل المسار الديمقراطي سواء بشكل علني من قبل أحزاب تمثل رسكلة للنظام القديم أو بشكل خفي من خلال البيرقراطية الإدارية أو نفوذ الدولة العميقة. لذلك يتوجب على مؤسسة الرئاسة أن تتوقع الخلافات بينها والتحسب لها.ومن أوّل تكليف لرئيس الجمهورية للشخصية المقترحة لرئاسة الحكومة بعد إخفاق حكومة الحبيب الجملي من نيل أغلبية معززة من مجلس النواب، بدأ الفرز بين أحزاب تراهن على مكتسبات 13 أكتوبر وتعتبر رئيس الجمهورية رمزا لها وبين من اعتبرت أنه يمثل عبء نصبت نفسها فيه. وبالتالي حتمية مواجهته حتى وإن اقتضى ذلك التنسيق مع أحزاب تمثل الوجه النقيض للمسار الثوري.
لإنجاح هذه المبادرة التصحيحية للمسار كان لا بد لأحزاب متناقضة في مقارباتها أن تتفاهم فيما بينها وتنظم نفسها لإسقاط أي موانع أو عقبات لإتمام هذا المسار.
نحن هنا نتحدث عن حركة النهضة وحركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس.
كان من الممكن أن يقع إدماج حزب قلب تونس ضمن هذا الائتلاف. غير أن السياسة هنا ستملي اختياراتها بحفظ التوازنات القديمة القائمة. مما يجعل حركة النهضة أول مستفيد من هذا الدمج. فقدمت نفسها كمفاوض شرس لمبدأ التوافق.
إن تصفية حكومة السيد الياس الفخفاخ على يد حركة النهضة كان طريقة لنسج روابط تجارية ربحية وليس ديمقراطية في حيز السلطة التنفيذية( لم نسمع لها شجب لصفقة النفايات التي ادت إلى ايداع وزير في السجن وسمعنا في المقابل استياء ومساندة للسيد نبيل القروي).
واقع الأمر أن السبب في إسقاط حكومة الياس الفخفاخ، كانت طريقة في تحويل مراكز نفوذ الكتل على نحو يعيد لها الأسبقية في التدبير والتحكم على شاكلة كل الديمقراطيات الناشئة؛ فشرعت حركة النهضة في دق أجراس الحرب في أفق أخفقت فيه على استمالة رئيس الجمهورية للسير وفق نهجها وفقدانها للسلطة التنفيذية التي كانت على ملكيتها منذ بداية الانتقال الديمقراطي.
هنا ظهرت بوادر انقسام خطير يهدد الحياة السياسية.بعد هذا التاريخ لسقوط حكومة الفخفاخ بدأت مواجهة علنية مع رئاسة الجمهورية. أولا حول مرجعية النص الدستوري للاستقالة أو الإقالة. من هنا نرى كيف دفعت حركة النهضة دفعا إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي باستغلال العزلة السياسية التي مورست على قلب تونس والاحترازات التي نسبت لائتلاف الكرامة من قبل منظمة حشاد. إن تنسيق حركة النهضة مع هاتين الكتلتين يعطيها مشروعية القيادة لتبدو من جديد كمتحكم في مخرجات العملية السياسية.
إن هذه الأفعال التكتيكية التي أقامتها حركة النهضة تطمح إذن إلى إعادة وتهيئة مناخ جديد مبتغاه الأساسي تدعيم الصلة مع أحزاب تكون بمثابة فيالق عددية للظفر بالنصاب بما يمكنها من امتلاك زمام الأمور في تشكيل حكومة ضعيفة على مستوى القرار السياسي وبالتالي سهولة استمالتها.
الجدير بالذكر هنا أنه رغم المظهر البراق لحكومة الكفاءات المستقلة التي يترأسها السيد هشام المشيشي ، فانه لم يكن بوسعه أن يواجه المسارات الحزبية التجارية للائتلاف الحزبي الجديد الذي بدأ تدريجيا يستعيد المبادرة لتصبح فكرة الكفاءات المستقلة مجرد مرحلة تكتيكية لنيل الثقة. بل إن الائتلاف الجديد حاول أن يستغل الفجوة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. في هذه المدة بدأ سيناريو عزل السيد رئيس الجمهورية.فقد كان هذا الهدف التنظيم النسقي الأول لتنفيذ ما تم التخطيط له على نطاق ضيق من قبل راشد الغنوشي بوصفه رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب.
إن هذه الازدواجية تفرض دبلوماسية اختيار الحزب كظاهرة غير مسبوقة انتهى إليها برلمان نواب الشعب.لذلك نعتقد أن حكومة هشام المشيشي بدأت غير مأمونة باعتبارها أداة لإنهاء دور رئيس الجمهورية( وهي لن تقدر) ونقطة انطلاق لتأسيس الفصل بين السلطات.إن هذا المفهوم سيشكل لاحقا المنصة لمحاولة كسب معركة فزّاعة تغوّل الرئيس ونزوعه نحو خلق نظام رئاسوي.وفي خضم هذه المعركة التي نجح فيها الائتلاف الحاكم وضع فجوة بين السلطة التنفيذية ومؤسسة الرئاسة ، تم فرض عقد على الحكومة حول كيفية حل الخلافات الناشئة.
اعتبارا من هذه الآونة ظهرت بوادر تفكك الدولة بثلاث أذرع مفصلية:
ــ حكومة تفصح صراحة بكونها تحت إمرة ائتلاف كل الوقائع تثبت أنه يتربص بالمنجز الثوري.
ــ رئاسة مجلس النواب التي تعمل في تدبير المجلس بعقيدة رئيس حزب. مما أفسد الرسالة الرسمية لهذا المجلس.
ـــ رئاسة الجمهورية التي تملي قراراتها بمهمة مناصرة قيم الانتقال الديمقراطي.
من هنا تظهر رغبة الهيمنة التي تعتمل في مركز الضلع الأول والثاني ( رئيس الحكومة والائتلاف ) على الضلع الثالث ( رئيس الجمهورية). ولقد عبّرنا عن ذلك بسيناريو عزل رئيس الجمهورية.غير أن الأمر هنا لا يتعلق فقط برئيس الجمهورية بل يشمل أيضا الأحزاب التي تربط بينها وبين مؤسسة الرئاسة صلة تضامن وتعاون , ولكنها منقوصة. بمعنى أنه لا توجد إستراتيجية لتنظيم الصراع في إطار شامل رغم أن الحقيقة المؤكدة تبين أن الضلع الأول أي حكومة المشيشي بدأت فعليا في التداعي والانهيار.
من هنا ظهرت ما سأسميه المخالطة الانطوائية لرئيس الجمهورية. ورغبة في تدعيم سبل التوقّي من فرضيات العزل ينبغي إنشاء تعاون فعلي مع الكتلة الديمقراطية وكل من يحمل مضامين المشروع الوطني.
عندئذ تتأسس مرجعية ضامنة تنظم حماية المسار الديمقراطي وصياغة خطة إستراتيجية تصلح كأساس لخلق سلطة تنفيذية جديدة شعارها: مع المشروع الوطني .
إن تأسيس هذه السلطة الجديدة ستكون إشارة قوية لتفادي خطأ التوافق المغشوش إلى مناصرة المشروع الوطني كمرجع أساسي تدعمه المنظمات الوطنية والمجتمع المدني والأحزاب وبالتنسيق المباشر مع مجلس الأمن القومي تحت إشراف رئيس الجمهورية.
ومن بين أهم نتائج هذا الاصطدام بين السلطات الثلاث حصول وعي بالمعطيات التالية:
· إن التوازن الداخلي للكتل داخل مجلس النواب ( عدم قدرة طرف على إلغاء طرف وبالتالي حتمية الحوار)أنتج بدوره توازن خارجي:
ــ تآكل نسبي في قدرات السيد رئيس الجمهورية وتجرأ المشيشي العلني للدخول في تناظر سلطوي معه.
ـــ تآكل ثوري نضالي للاتحاد العام التونسي للشغل وبداية انكماش دور القائد ربما بسبب تورط قيادة الإتحاد في سيناريو المجلس الوطني والمؤتمر غير الانتخابي .وهو لئن كان معطى محسوب نيابيا إلا أنه ووجه بسخط لدى القاعدة العريضة للاتحاديين . وهو ما يفسر تقاعسهم في تلبية نداء القيادة للتجمهر سواء في باردو أو حتى قفصة وربما تأجيل الاضراب في صفاقس يدخل في هذا السياق أكثر مما يتعلق بالوضع الصحي للبلاد.
ــ حركة النهضة: تئن من ائتلاف حاكم تخشى لو أنها أعطت الضوء للمشيشي للقيام بتحوير واسع سيكون ذلك لا محالة نصرا ظرفيا تتلوه خسارة إستراتيجية: رئيس حكومة عاطل ، ائتلاف ينعت بالإرهاب والتشدد المعادي لمدنية الدولة وحزب أمين عامه في السجن. وعدم الإذن للمشيشي بإجراء تحوير واسع سيجعلها خارج الحكم وهو سلاح خطير يؤدي لتنامي مشاكلها الداخلية باعتبارها لا تعيش في سياق ما بعد 17 ديسمبر إلا في الحكم.
ــ كتلة ديمقراطية تكتسح المشهد الإعلامي وسلاحها الفتاك حكومة فاشلة بمكونات عنيفة تتناقض مع المنجز الديمقراطي وبسند من رئيس الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل.
كان سؤال النهضة الكبير: كيف يمكن تجاوز هذا الوضع بدون خسائر؟
لا ستتغرب أيها القارئ بثوابت ومتغيّرات اللحظة التاريخية أن الطرف القادر على أن يعيد انتاج نفسه سياسيا للمصلحة البلاد ليس النهضة و إنما قلب تونس.
أجل داخل دائرة هذه التوازنات الجديدة توجد فرصة لقلب تونس لترسيخ ملامح حالة حزبية. كيف ذلك؟
قدّمنا معا توصيف لهشاشة المشعد السياسي داخليا وخارجياز وفي علم الثورات حركة الفراشة قد تكون قادح للثورة رغم كون الفراشة لا وزن يذكر لها. حتى أن البعض يطلق على مشهدية حرق البوعزيزي لنفسه رحمه الله بمثابة حركة الفراشة . بالمنطق الماركسي يقول انقلز التراكمات الكمية تفرز نقلة نوعية وبتعبير هيغل عندما يستغرق الجدل في لحظة الغسق ( أوج مظاهره) ينتج الطفرة...ونيتشه أيضا يكتب عن شيء كهذا في العود الأبدي . ففي لحظة العشق الكلي للذات المتمردة تسكن الجماعة في طوقها...
إذن نحن نرى أن قلب تونس ، في هذا الظرف الوطني الدقيق، لو امتلك قراءة صحيحة للاحداث، يمكن أن يتحوّل إلى محور في العملية السياسية.
هنا يجب على قادته اعتماد أصول الممارسة السياسية الاستراتيجية لكي لا يكونوا كسابقيهم: تيار المحبة ، الوطني الحر، ...
يتعلّق الأمر كما ترون بحيثية نجملها كالتالي:
ــ لو افترضنا أن حركة النهضة قبلت بتحوير وزاري واسع للمشيشي وقبلت حرصا على رأب الصدع من ردة فعل كتلة الاصلاح ، بحكومة مستقلة ؛ فالمؤكد أنها ستكون محشوّة بغواصات النهضة. وهذا ما لا يقدر عليه قلب تونس. وهو في هذه الحالة يمنح النهضة جزئيا ما تريد دون أن يجني شيئا ودون أن يضطلع بمهمة تؤمن بقاءه في المستقبل
ــ لو افترضنا أن حركة النهضة ذهبت في حكومة سياسية ويبقى على رأسها المشيشي فإنها في هذه الحالة لن تخسر كتلة الاصلاح فقط بل ستعزز نفوذ الكتلة الديمقراطية التي ستكون الطرف الوحيد المستفيذ سياسيا للاستحقاق الانتخابي المقبل باعتبار صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن أن يتم حلحلتها الا بتوافق وطني . وهو معدوم في ظل عدم تشريك الكتلة الديمقراطية وعدم رضى رئيس الجمهورية وعدم رضى الاتحاد الذي سيقع حشره في الزاوية. وأخيرا وليس آخرا عدم استفادة قلب تونس. صحيح قد تظفر بوزراء ولكن بضريبة باهضة: حكومة مهددة بالسقوط في كل حين وآن وفي سقوطها نهاية للحزب.
نستطيع أن نلاحظ باستمرار كيف يتموقع قلب تونس في مكان محدد لمخرجات العملية السياسية. ومن الجدير هنا الوعي بضرورة الحوار. إلا أنه ظل مجرد فكرة مؤجلة. ماذا لو تحوّل إلى حقيقة ؟
طبعا نحتاج أن نعرف من الذي سيحوّلهإلى حقيقة؟
هنا أيضا توجد فرضيتين: في الأولى أن تقبل النهضة بنفسها الحوار وترفض التحوير . وهذا محتمل لأنها تعرف أن شرعنة الائتلاف السياسي كنظام حكم سيكون هشا.ولكن المهم هنا أن قلب تونس يظل بحسب هذه الفرضية مجرد تابع ومصيره رهين حركة النهضة. فهي من سيعمل على تسويقه في الحوار.
في الثانية، أن يبادر قلب تونس دورا سياسيا فيلتقي بمكونات الأحزاب والاتحاد لدعم المبادرة على أرضية سياسية واضحة تكون لها فيما بعد توافقات لمخرجات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
غني عن القول هنا أن قلب تونس سيتحوّل من حزب يرمز لشخص إلى حزب له مقاربة سياسية تؤهله لفك العزلة بإثبات وطنيته بمخرجات سياسية يكون طرفا مساهما ومشاركا فيها وتوافق الجميع أفضل من يقتات من رضى الشيخ الذي تغلغلت الانتقادات على أدائه فلم يفلح في صدّها عن نفسه فكيف له أن يذود عن غيره ( رئيس حزب قلب تونس)؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص