الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناقض في قرارات المحكمة الادارية العليا واثره على مبدأ الامن القضائي

احمد طلال عبد الحميد
باحث قانوني

(Ahmed Talal Albadri)

2021 / 1 / 12
دراسات وابحاث قانونية


لكي يكون الطعن القضائي ناجعاً وفعالاً، لابد أن يوكل إلى جهة قضائية محل ثقة لدى الطاعن، وهذه الثقة ما تعرف بمصطلح (الامن القضائي)، فالأمن القضائي هو الذي يمثل الثقة في المؤسسة القضائية والاطمئنان إلى ما ينتج عنها وهي تقوم بمهامها التقليدية المتمثلة بتطبيق القانون على ما يعرض عليها من قضايا من خلال تحقيق ضمانات جودة ادائها وجودة الاحكام الصادرة عنها، اذ يرتبط المفهوم اللاتيني للأمن القضائي بوظيفة المحاكم العليا، فالجودة في مجال الأداء القضائي تعني : محاكمة عادلة، عدالة أقل تكلفة، حياد تام للقاضي، سهولة الوصول إلى المعلومة القضائية، وتعني أيضاً التقييم الذاتي للعدالة لوضع المخططات والمشاريع المستقبلية ، فالاصلاح التشريعي لقوانين القضاء الإداري وتحديد القانون الذي ينظم عمل المحاكم الإدارية العليا يوفر عدالة ناجزة سريعة وغير معقدة، وتؤمن وصول صاحب الحق لحقه بأبسط وايسر الطرق، ومن المواضيع المهمة التي التي ينعكس اثرها على الامن القضائي مسألة توحيد المبادىء القضائية لمجلس الدولة وخصوصاً المحكمة الادارية العليا ، حيث سبق القول ونعيده ان الامن القضائي موكول للمحاكم العليا ويتجلى ذلك في جودة الاحكام وسهولة الولوج للقضاء واستقرار الاجتهاد القضائي، والغاية من ذلك ترسيخ الثقة بالمؤسسة القضائية لان اعظم مفسر للقانون يفترض ان يكون قاضي المحاكم العليا، اذ على عاتقه يقع عبء اطمئنان المتقاضي لاجتهاده، وهذا يقتضي وضع آلية لاطلاع الجمهور على كل تغيير يطرأ على هذا الاجتهاد كما هو معمول في القضاء المقارن.
وعلى صعيد مجلس الدولة في العراق : نلاحظ ان قانون المجلس لم ينص على انشاء هيئة قضائية تضطلع بمهام توحيد الاحكام القضائية ومنع تناقض احكام المحكمة الإدارية العليا، في حين ان قانون مجلس الدولة المصري نص على تشكيل دائرة توحيد المبادئ ، ومهمة هذه الدائرة توحيد الاحكام الصادرة من دوائر المحكمة الإدارية العليا، اذ تتولى هذه الدائرة بحكم ما أوتيَ اعضائها من خبرة في العمل القضائي وحكمة تدبر الأمر من اقرار وضبط اي تعديل أو تغيير في هذه المبادئ ومواكبة التطور الحاصل في الحياة الإدارية وهو ما يحقق الاستقرار النسبي للمبادئ التي تقررها المحكمة الإدارية العليا، من محاكم مجلس الدولة، وهي تمثل القمة في تدرج محاكم مجلس الدولة وكلمتها هي الفيصل في النزاع المعروض عليها بلا معقب لقضائها.
أما المحكمة الإدارية العليا في العراق فهي لا تتألف من هيئات قضائية متعددة كما هو الحال في المحكمة الإدارية العليا المصرية التي تصل إلى عشر دوائر قضائية كل دائرة تختص بنظر جانب معين من الطعون، بل تتألف من هيئة واحدة تنعقد برئاسة رئيس المجلس اومن يخوله من المستشارين وعضوية (6) ستة مستشارين و(4) اربعة مستشارين مساعدين يسميهم رئيس المجلس وهذ مانصت عليه المادة (2/رابعاً/أ) من قانون مجلس الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل ، ان تشكيلة المحكمة الإدارية العليا من هيئة واحدة يفترض ان تعزز توحيد الاحكام والمبادئ القضائية لهذه المحكمة لأنها صادرة من هيئة واحدة تمثل اجتهاد ورأي واحد، ومع ذلك يمكن أن نؤشر بعض حالات التناقض في احكام صادرة من ذات المحكمة الإدارية العليا، وهذا يعد أمراً خطيراً أن تتناقض قرارات اعلى محكمة إدارية تمارس اختصاص محكمة التمييز ولا معقب لقراراتها حيث يكون القرار الصادر من المحكمة الإدارية العليا باتاً ولا يقبل الطعن عن طريق تصحيح القرار التمييزي، وهذا ما قررته ذات المحكمة في قرارها المرقم (143/إداري/تمييز/2013) في 19/12/2013، اذ ان ذلك من شأنه ان يهز الثقة بجودة الاحكام القضائية ويعد انتهاكاً للأمن القضائي ومن هذه الاحكام على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي :
سبق وأن أصدرت المحكمة الإدارية العليا قرارها المرقم (264/قضاء موظفين/ تمييز/2013) في 4/8/2013 نقضت بموجبه قرار محكمة قضاء الموظفين المرقم (910/م/2012) في 3/4/2013 والذي قضى بإلغاء الأمر المرقم (6879) في 9/7/2012 الصادر عن المميز عليه رئيس جهاز المخابرات الوطني(اضافة لوظيفته) بتنزيل درجة المميز عليه من الدرجة الثالثة/المرحلة الأولى إلى الدرجة الرابعة/المرحلة السادسة مسببة قرارها بأن المميز عليه حصل على ترفيع لأكثر من درجة في وقت واحد ولأكثر من مرة وهذا يخالف مبدأ التدرج في الترفيع ويعد خطأ جسيماً لا يصلح اساساً للحق، ولكون القرار المطعون فيه صحيح لأنه صحح اوضاع قانونية بنيت على قرارات إدارية غير مشروعة بلغ العيب فيها حداً جسيماً يجردها من صفة القرار الذي يقبل بوجوده بمرور الزمان ، وأيضاً جاء في قرار المحكمة الإدارية العليا المرقم (730/قضاء موظفين/تمييز/ 2013) بنقض قرار محكمة قضاء الموظفين بالعدد (585/م/2011) في 24/10/2013 الذي الغى قرار المميز وزير التربية المتعلق بتصحيح تسكين المميز عليه، وقد سببت المحكمة الإدارية العليا قرار النقض بأن تسكين المميز عليه غير صحيح لأنه نال ترفيعاً لأكثر من درجة واحدة في وقت واحد مما يخالف مبدأ التدرج في الترفيع ، كما ذهبت في قرارها المرقم (485/قضاء موظفين/تمييز/2013) في 14/8/2014 إلى عدم جواز ترفيع الموظف لأكثر من درجة وظيفية واحدة، وان طلب المدعي (المميز) ترفيعه لأكثر من درجة واحدة وقبل اكمال المدة المقررة للترفيع خلافاً لأحكام القانون مما يستوجب رد دعواه .
إلاّ إن المحكمة الإدارية العليا ناقضت الاتجاه الذي سارت عليه في احكامها المشار اليها في أعلاه في قضية تتلخص وقائعها بأن رئيس مجلس النواب اعاد تسكين مجموعة من الموظفين وبضمنهم المدعي بتخفيض وتنزيل درجته واعادة تسكينه مجدداً لعدم وجود سند له من القانون، وأن الغرض من اصدار قرار اعادة التسكين المطعون فيه لغرض تصحيح مخالفات إدارية في التعيينات، وتلافياً لهذا الخطأ صدر الأمر النيابي، وقد جاء بناءً على تأكيد هيئة النزاهة ، فأصدرت المحكمة الإدارية العليا قرارها المرقم (1245/قضاء موظفين/تمييز/2014) في 15/1/ 2015 الذي اعتبرت فيه قرار اعادة التسكين بالدرجة الأدنى غير صحيح ويتعين الغاءه كون الموظف قد اكتسب حقاً لا يجوز المساس به وان القرار الإداري المعيب بعيب بسيط يتحصن من الإلغاء بمضي المدة حيث جاء في حيثيات قرارها(..أن يكون القرار محل التصحيح معيباً بعيب غير جسيم لا يترتب على وجوده انعدام القرار الإداري، فإن هذا القرار يعامل معاملة القرار الصحيح ويتحصن من الطعن بعد فوات مدده، ويكسب الموظف بمقتضاه حقاً لا يجوز المساس فيه، ويكون قرار الإدارة الصادر بتصحيحه غير صحيح ويتعين على المحكمة إلغاءه...).
إن المحكمة الإدارية العليا وخلال مدة وجيزة لم تتجاوز السنة اعتبرت منح درجات إضافية خطأ جسيماً، ثم عادت وناقضت هذا الاتجاه واعتبرت منح الدرجات الوظيفية الاضافية خطأ بسيط، وان قرار منحها يتحصن من الطعن بفوات مدده، ويكتسب الموظف بموجبه حقاً لا يجوز المساس به، والحقيقة ان هذا التناقض في الاحكام غير مقبول ولا سيما انه صادر من محكمة عليا تقف على هرم القضاء الإداري، وان خطأ الإدارة في تحديد الدرجة الوظيفية وما يترتب عليها من راتب ومخصصات ليس بالخطأ البسيط لأنه يكلف الخزينة أعباءً، ويشكل مصدر لإثراء الموظف على حساب الخزينة اثراءً غير مشروع، اذ ان الخطأ في تحديد درجات الموظفين وارد بسبب كثرة التعديلات التي طرأت على قوانين الوظيفة العامة في العراق وهو بمثابة الخطأ المادي الواجب التصحيح في كل وقت وهذا هو رأي استاذنا الفاضل د.غازي فيصل مهدي.
ولابد من الاشارة إلى العلاقة الوثيقة بين الاجتهاد القضائي والأمن القضائي، فالاجتهاد القضائي قوة ذاتية خلاقة لقاعدة قانونية حاملاً لقواعد لها قيمة معنوية وقانونية وبالتالي فأن الاجتهاد يحتاج للدقة والوضوح والتوقعية والاستقرار وإلا مس مبدأ الامن القانوني والأمن القضائي، لذا يتعين ان يصدر هذا الاجتهاد من هيئة قضائية عليا، تدرك خطورة العلاقة الطردية بين الاجتهاد القضائي والامن القضائي، اذ كلما أتسع نطاق الاجتهاد القضائي تزداد الحاجة لكفالة توفير الأمن القضائي ، فما ذهبت اليه المحكمة الإدارية العليا في قرارها الأخير لا يعد تبدلاً أو تغييراً في الاجتهاد وإنما يعد تناقض بالأحكام ، فالقاضي مقيد في استلهام العدالة وحر في خلق الطريقة الي يتوصل بواسطتها إلى العدالة ، كما إن الاجتهاد القضائي في مجال القانون الإداري يتأثر بعوامل مختلفة كالنصوص التشريعية وتطور النشاط الإداري والسير المنتظم والمستمر للمرفق العام وعوامل ثقافية وبيئية وتاريخية، كما ان لأثر التنظيم دور كبير في اجتهاد القاضي الإداري، فتنظيم القضاء الإداري في فرنسا تنظيم واسع يضم عدد كبير من المحاكم الإدارية والهيئات القضائية ومحاكم الاستئناف ومجلس الدولة وتضم عدد كبير من فئات القضاة والمستشارين المساعدين والنواب والمفوضين الذين تمرسوا على الاجتهاد القضائي في حين ان تنظيم القضاء الإداري العراقي يتكون من ثلاث محاكم فقط (محكمة قضاء الموظفين، ومحكمة القضاء الإداري، والمحكمة الإدارية العليا)، بالتالي فإن فرص الاجتهاد ليست بمستواها في فرنسا ومصر، إضافة لذلك ان بعض العاملين في محاكم مجلس الدولة ليست لديهم التخصص في القانون الإداري ، ولذلك نجد ان الاصلاح التشريعي للبناء المؤسسي للقضاء الإداري في العراق ضروري جداً لتنسيق الهياكل القضائية على المستوى الاتحادي والاقليمي، فالقضاء في الدول الاتحادية يقوم على مبدأ الثنائية في التنظيم القضائي الذي يقتضي خضوع الاحكام والقرارات الصادرة من المحاكم الاقليمية للمراجعة والطعن أمام محاكم المستوى الفيدرالي وهذا الموضوع لم ينظم حتى اليوم سواء على فيما يتعلق بالقضاء العادي أو فيما يتعلق بالقضاء الإداري، فالسلطة القضائية في اقليم كوردستان مستقلة ، ولا تخضع قرارات القضاء الاقليمي لمراجعة واشراف القضاء الاتحادي مع وجود اختلاف في التشكيلات القضائية الإقليمية عن نظيرتها الاتحادية وسبب الاستقلال يرجع إلى نصوص الدستور العراقي الذي سمح للأقاليم بممارسة سلطة قضائية مستقلة عن القضاء الاتحادي خلافاً لمبادئ الاتحاد الفيدرالي الذي يقوم على مبدأ ثنائية السلطة القضائية، اذ نصت المادة (121/اولا) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على ان (لسلطات الاقاليم، الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفقاً لأحكام الدستور، باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية)، كذلك نصت المادة(117/اولا) منه على ان (يقر هذا الدستور عند نفاذه، اقليم كردستان وسلطاته القائمة، اقليماً اتحادياً) ، بما في ذلك القضاء الإداري في الإقليم إذ لا زال مرتبطاً بوزير عدل الاقليم ولديه محاكم إدارية في مراكز محافظات الإقليم إضافة لهيئة إنضباط الاقليم التي تكون قراراتها باتّة، اما الهيئة العامة في مجلس شورى اقليم كوردستان فتمارس اختصاصات محكمة التمييز المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية وهذا ماقررته المواد (2) و(12) و(19) و(21) من قانون مجلس الشورى لإقليم كردستان العراق رقم (25) لسنة 2008 د.احمد طلال البدري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟


.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط




.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا