الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيل شعراء إسبانيا العظام وأزمة المنفى

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2021 / 1 / 14
الادب والفن


"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

د. خالد سالم

إذا كان هناك جيل شعري جمعه وفرقه المنفى في القرن العشرين فإن هذا ينطبق على السابعة والعشرين، الجيل الذي كان فدريكو غارثيا لوركا درته، إذ اضطر جل كتابه وفنانيه إلى الفرار خارج إسبانيا بعد سقوط الجمهورية وليدة صناديق الاقتراع هربًا من يد الفاشيست الذين انقلبوا على إرادة الشعب وأشعلوا حربًا أهلية لم تلتئم بعد جراحها الناتئة في النفس الإسبانية إلى اليوم رغم مرور أكثر من ثمانية عقود.
لم يعرف الأدب العالمي مثل هذا الحجم من الانكسار وشتات مبدعي جيل أدبي كامل، إذ لم يبق منه في الداخل سوى قلة عانوا غربة ونفيًا داخليًا، فشكل الطرفان ظاهرة أدبية فريدة، وظل أعضاؤه خارج البلاد إلى أن أذن لهم النظام القمعي الذي جثم على أنفاسها طوال أربعة عقود تحت إمرة الجنرال فرانكو، فعُكس هذا الوضع في نتاجهم الفني تاركًا بصماتها على أجيال أدبية تالية.
ولد هذا الجيل الشعري في تلك السنة، 1927، التي اقترن اسمه بها بمناسبة الاحتفال بالمئوية الثالثة لوفاة الشاعر القرطبي لويس دي غونغورا، وكان رد اعتبار له في أجواء غير مؤيده لشعره، رغم معارضة رموز الثقافة الإسبانية سنتئذ لهذه الاحتفالية، من بينهم الشاعران خوان رامون خيمينيث وأنطونيو ماتشادو والفيلسوف خوسيه أورتيغ إي غاسيت الذين كانوا موضع تهكم وسخرية من الشعراء الشباب الذين ولدوا تحت عباءة ذلك الشاعر الكلاسيكي، فجددوا الشعر الإسباني وأخرجوه من الأنين والبكاء على ماضٍ قريب لن يعود، ماضي سقوط آخر مستعمرات إسبانيا في كوبا والفلبين، في 1898، على يد الدولة الإستعمارية الفتية التي كانت قد بدأت تتحسس طريقها في الساحة الدولية.
في تلك الأجواء المثبطة وبعد ذلك الاحتفال بأربع سنوات تحول نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري فأيده شعراء الجيل الذين كان جميعهم في مقتبل العمر، وملأوا الساحة ابداعًا وسحبوا البساط من تحت أقدام الشعراء الشيوخ، أعضاء جيل الـ 98 السابق عليهم، جيل هزيمة إسبانيا وسقوط آخر مستعمرات إمبراطوريتها التي كانت لا تغيب عنها الشمس. أجج اليمين وخلفه الجيش الصراع مع النظام الجمهوري الوليد فأشعل بعض ضباطه الانقلاب على الشرعية، وعلى رأسهم الجنرال فرانكو، فاشتعلت الحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939م)، أبشع حرب أهلية في القرن العشرين، وانتهت بتغلب اليمين ما اضطر حوالي مليون ونصف إلى الخروج إلى المنفى، كان من بينهم عشرات الآلاف من المثقفين، ما شكل أكبر عملية نزوح لمثقفي بلد في تاريخ الحروب الإنسانية. وكان شباب الجيل الشعري الناشئ من مؤيدي اليسار ممثلاً في النظام الجمهوري الذي تمخضت عنه صناديق الاقتراع عام 1931، فاضطروا إلى الفرار إلى المنفى القسري لعشرات السنين.
توزع أبناء جيل الـ 27 الشعري، أو جيل الجمهورية، على جغرافيا العالم، إلا أن أميركا اللاتينية كان لها نصيب الأسد عددًا وجودةً من أعضاء هذا الجيل الذي تربع فوق سدته إلى اليوم فدريكو غارثيا لوركا وتحلق حول رمزيته الآخرون ما القى بظلال حاجبة عليهم. برز بينهم ودار في فلكهم كثير من المبدعين الذين نالوا صيتًا واسعًا في النصف الثاني من القرن الماضي، كان من بينهم المصور العالمي سلفادور دالي وخورخي غيان ودامصو ألونصو وبيثنتي أليكسندري...إلخ. وكان طبيعيًا أن تحظى أميركا اللاتينية بأكبر عدد من هؤلاء المبدعين، الذين اضطروا للفرار من إسبانيا، نظرًا لوجود عوامل مشتركة بين شعوبها والشعب الإسباني، وعلى رأسها اللغة والثقافة.
بيد أن إذا كان هناك ممثل لشتات الحرب الاهلية في الأدب الإسباني فإن الأندلسي رفائيل ألبرتي كان خير نموذج له طوال أربعة عقود، إذ كان أحد الحبات الثمينة في عِقد جيل الحرب الأهلية الإسبانية، جيل الـ 27، الذي طبق صيته آفاق عالم الشعر العالمي منذ أن انتهت الحرب الأهلية في نهاية ثلاثينات القرن العشرين حتى اليوم، وتربع على عرشه فدريكو غارثيا لوركا وحوله ثلة لا يقل بريقها عنه من مجايليه، لكن اغتياله أضفى عليه بريقًا نافذًا لم يخفت إلى اليةم. وكان رفائيل ألبرتي آخر عظام هذه الجيل وأطولهم عمرًا إذ توفي عام 1999، لكن دون أن يحقق حلمه بوضع قدميه في القرن الجديد.
تحتفل إسبانيا والأرجنتين في السنة الحالية بالذكرى العشرين الشاعر الأندلسي رفائيل ألبرتي أحد الشعراء العظام الذين جددوا الشعر الإٍسباني في القرن العشرين، وكلهم من إقليم الأندلس مثله، أنطونيو ماتشادو من إشبيلية، وفدريكو غارثيا لوركا من غرناطة، وخوان رامون خيمينيث من ويلبة، ثم ألبرتي من قادش التي بناها الفينيقيون. قائمة شعراء هذا الجيل طويلة، يبرز فيها كل من دامصو ألونصو وخيرادو دييغو وخورخي غيين وبيثنتي أليكسندري، حائز جائزة نوبل عام 1977، الذين غيروا مسار الشعر الإسباني المعاصر وطوروه قالباً وموضوعاً بطريقة مشابهة لما أضافه جيل الخمسينات للشعر العربي المعاصر.
ولد هذا الجيل في تلك السنة بمناسبة الاحتفال بالمئوية الثالثة لوفاة الشاعر القرطبي لويس دي غونغورا، فكان رد اعتبار له، رغم معارضة رموز الثقافة الإسبانية سنتئذ لهذه الإحتفالية، من بينهم الشاعران خوان رامون خيمنث وأنطونيو ماتشادو والفيلسوف خوسيه أورتيغا إي غاسيت الذين نالوا الكثير من التهكم والسخرية على أيدي الشعراء الشباب الذين يتحسسوا طريقهم ويبحثون عن مكان لهم في الساحة الشعرية العريضة فولدوا تحت عباءة ذلك الشاعر الكلاسيكي الذي ترك بصماته على شعر العصر الذهبي، القرن السادس عشر ونهض به ليطلق عليه العنقاء.
كما أسلفت كان رفائيل ألبرتي (1902-1999) أكبر نموذج لشتات الأدب الإسباني في القرن العشرين، ليمثل جيلاً بأكمله اكتوى بنار السياسة بسبب مواقفه السياسية والفكرية، إذ اضطر مع آلاف المثقفين الجمهوريين إلى اختيار طريق المنفى، هرباً من السجن أو الإعدام على يد زمرة الطاغية فرانكو الذي حكم إسبانيا طوال أربعة عقود بالنار والحديد، أمضاها الشاعر في منافِ مشؤومة على اتساع اليابسة، توزعت أساساً بين باريس تحت الاحتلال النازي، وكان قبلها محطة قصيرة في الجزائر المحتلة من فرنسا سنتئذ، ثم هرب إلى الأرجنتين حيث عاش ربع قرن، منها تسعة عشر سنة دون جواز سفر تحت حكم العسكر والشرطة، ما حمله على الرحيل إلى إيطاليا حيث عاش في وروما، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، موت الطاغية، ومنها عاد منها إلى إسبانيا في 1977، بصحبة زوجه الأولى القاصة ماريا تريسا دي ليون.
شهد ألبرتي حروب القرن العشرين وخطوبه كافة فتركت بصماتها غائرة في شخصيته ونتاجه الشعري الوفير الذي يربو على أربعين ديوانًا، إضافةً إلى المسرح والنثر من محاضرات ومقالات وسيرة ذاتية تقع في ثلاثة مجلدات تحت عنوان "الغابة الضائعة".
بيد أن ألبرتي كان أول من سار على درب الالتزام في شعره مع الجمهورية الوليدة في 1931، ضارباً بعرض الحائط نداءات أسرته وآخرين، وسرعان ما انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي الإسباني، في بداية الحرب الأهلية، رغم أصوله البرجوازية، ما أثار سخط الكثيرين، دون أن يدري أنه كان قد بدأ خطى الخروج من محليته إلى عالمية واسعة.
وقد جمعته صداقة متينة مع الشاعر الأسطورة غارثيا لوركا تركت بصمات جلية في شعر وحياة ألبرتي. وبما أنهما أندلسيان، كان غارثيا لوركا -كان يكبره بأربع سنوات- يناديه بابن العم، ويشجعه على مواصلة المسيرة في بداية حياته الشعرية، وكثيراً ما قال له:" أنت أندلسي، والأندلسيون يتمتعون بذاكرة قوية، وقوة الذاكرة من أدوات الشاعر الجيد، فلا تنس هذا".
وقد لا يعرف كثيرون أن الشاعر الغرناطي اغتيل، عن طريق الخطأ، نيابةً عن رفائيل ألبرتي الذي كتب قصيدة ملتهبة ضد الفاشيست بزعامة الجنرال فرانكو- نشرت في الصحافة اليسارية وبثتها إذاعة الجمهورية-، إذ ظنوا أنها لغارثيا لوركا، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وسط حالة التخبط وروح الانتقام العمياء في خضم الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، فأسفرت هذه القصيدة -حسب رواية رفائيل ألبرتي نفسه لي- عن إعدام الشاعر الغرناطي في الأيام الأولى من اشتعال الحرب التي أجهزت على الجمهورية الثانية في مهدها.
وفي مسقط رأسه، قرية سانتا ماريا الهادئة بغابتها الصنوبرية على شاطئ المحيط الأطلسي عاش طفولته وجزءاً من صباه حيث درس مع اليسوعيين في مدرسة سان لويس دي غونثاغا التي لا تزال قائمة، إلا أنه تعثر في دراسته إذ لم تكن تستهويه، وكان يفضل الرسم عليها، إلى جانب هربه مع الصبيان والذهاب إلى الحقول لمصارعة الثيران. فقد كان يريد أن يصبح مصارعاً، وهي الرغبة التي مثلها خير تمثيل في نتاجه الشعري لاحقاً وحملته على صداقة اثنين من العاملين في هذا المجال، وهما الشاعر ومربي الثيران فرناندو بيالون وأكبر مصارعي عصره إغناثيو سانشيث ميخياس الذي أشركه، مساعداً له، في مصارعة له في مدينة بونتبيدرا بغاليثيا عام 1927. ثم خصه ألبرتي بمرثية طويلة على أثر مصرعه في الحلبة قوية في بنائها وأنينه عليه. وبذلك أضيفت هواية المصارعة إلى الرسم ليكونا أهم هوايتين فاشلتين في حياته، وإن كان قد عاد إلى الرسم في منفاه بالأرجنتين.
تشكلت شخصية ألبرتي الفكرية في تلك الفترة في القرية، في الأندلس الفقير، فإلى جانب ما ذكرناه آنفاً، كانت التفرقة بين التلاميذ الأغنياء والفقراء في المدرسة اليسوعية سبباً في تمرده على الدين والكنيسة في وقت لاحق من حياته، وهو ما صبغ مسار حياته والكثير من أشعاره. وقد اعترف في سيرته الذاتية بأن تلك المدرسة علمته الكراهية، الكراهية الطبقية.
هذا بالإضافة إلى نشأته في إقليم الأندلس الفقير حيث كان شاهداً على انتفاضات الفلاحين اعتراضاً على البؤس الذي كانوا يعيشون فيه. لهذا لم يكن غريباً أن ينتمي الشاعر في مطلع شبابه إلى الحزب الشيوعي ويحتل مراكز متقدمة فيه، وقبلها شارك في المظاهرات ضد حكومة الديكتاتور بريمو دي ريبيرا في صباه المبكر، رغم أنه كان من أسرة ذات أصول برجوازية عملت في تجارة النبيذ.
ظل إقليم الأندلس بمعناه المحلي، الطفولة، والواسع، إسبانيا، بما في ذلك بحر القرية، إلى جانب التصوير عناصر حنين كامنة وفاعلة في شعر ألبرتي وفي حياته، خاصة في المنفى. ولهذا أوصى بحرق جثمانه ونثر رماده في مياه البحر الذي شهد طفولته وصباه. كل هذا تشكَل في صيغة البحث عن الذات لدى الشاعر، إلى جانب الحنين إلى الفترة الغضة من حياته، الطفولة، وإلى الماضي الضائع لأسرة كانت ميسورة ثم أدركها الفقر بسبب الخسارة التي لحقت بتجارتها من النبيذ. ثم تحول هذا البحث في أعماله التي كتبها في المنفى إلى البحث عن وطنه الضائع، إسبانيا.
إنه النموذج المثالي للمنفى في الشعر الإسباني المعاصر، في صباه وشبابه وشيخوخته. يذكر أن الشاب ألبرتي هاجر إلى مدريد مضطراً، في عام 1917، مع أسرته التي انتقلت إلى عاصمة البلاد لدواعي التجارة. وكان لذلك وقع سيئ في نفسه. وكانت تلك الهجرة من القرية الوديعة على شاطئ المحيط الأطلسي والحنين إليها، إلى جانب وفاة أبيه وراء تفجير قريحته الشعرية، وهو ما صوره في أول ديوان له، ووضع غابتها الصنوبرية وسط مياه شاطئ المحيط عنواناً لسيرته الذاتية "الغابة الضائعة". والغربة التي شعر بها في المدينة تذكرنا بأثر غربة شعراء عرب وموقفهم من المدينة مثل عبد الوهاب البياتي و أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح جاهينب، وآخرون.
برز الشاعر أيدولوجياً في الحرب الأهلية الإسبانية، فعندما بات واضحاً أن الحرب على وشك الاشتعال انضم إلى الحزب الشيوعي، بعد أن كانت تجمعه به علاقة تعاون فقط حتى تلك الفترة، وهو الانتماء الذي سبب له الكثير من المشكلات والعداء حتى من بعض أصدقائه الشعراء أعضاء جيل الـ 27. ثم شغل منصب أمين عام تحالف المثقفين المناهضين للفاشية الذي شارك في تأسيسه في بداية الحرب.
غير أن أهم ما أسسه كانت مجلات وفرق مسرحية وطبع كتب، كلها مكرسة لمساندة الجمهورية ضد الانقلابيين. ومن أبرز المطبوعات التي أصدرها وأدارها مع زوجه ماريا تريسا ليون واصدقاء له كانت مجلة "بدلة العمل الزرقاء"، وهي المجلة التي قربت الفن، الشعر، من الشعب، وكانت بمثابة أول التزام للمثقفين اليساريين مع الجمهورية.
وضمن نشاطه الواسع من أجل الجمهورية، نظم، في يوليو من عام 1937، المؤتمر الدولي الثاني للكتاب المناهضين للفاشية الذي عقد في كل من مدريد، تحت الحصار، وبلنسية وبرشلونة، وحضره رموز الثقافة الغربية مثل ستيفان إسبندر وأوكتابيو باث ونيكولاس غيين وأندريه مالارو وفيدوف وتولستوي. ولم يقتصر دوره على التنظيم في تلك الفترة إذ نشر قصائد كثيرة ضد الإنقلابيين ولمؤازرة قوات الجمهورية، فيها دعوة للشعب كي يهب ضد الفاشية، واقتياد فرقته المسرحية إلى الجبهة بانتظام. غير أن الحرب انتهت لصالح الفاشية وتشرد من تشرد من الإسبان.
كان التزام ألبرتي مع الجمهورية الثانية ومعه جيل الـ 27 نموذجاً فريداً في التزام مجموعة شعرية، وهو الموقف الذي شتت معظم أعضاء هذا الجيل إذ لم يكن أمامهم خيار أفضل من المنفى، ولهذا أطلق عليهم بعض الباحثين تسمية جيل الجمهورية. وفي هذا السياق قال ألبرتي:" لقد جمعتنا الحرب كلنا تقريبًا، فيما بعد، في تحالف المثقفين المناهضين للفاشية، ثم شتتنا المنفى".
جاء المنفى ليكرس الحنين في حياة ألبرتي، فقد انتزع من مرابض الصبا، قريته، ثم من وطنه كاملاً، ولهذا نجد أن الحنين يشكل عنصراً رئيساً في شعره. كان دائم البحث عن الماضي عن القرية وعن إسبانيا وعن الرسم، لهذا كان مساره الشعري بمثابة بحث عن الفراديس الضائعة. ويبرز في هذا السياق ثلاث محطات أو لحظات شعرية تمثل هذا الهوس: ديوانه الأول "بحّار في اليابسة" الذي يسعى فيه لاسترداد فردوس الطفولة، وديوان "عن الملائكة"، ذو القالب السريالي، الذي يمثل البحث عن الذات، البحث عن ماضٍ كان على وشك أن يضيع في خضمه، ثم المحطة الأخيرة وتشمل كل الأعمال التي كتبها في المنفى وفيها يبحث عن فردوس مستقبلي، لكنه معكوس في مرآة اللحظة الأولى، أي الطفولة.
وتمثل الذكريات والحنين محور نتاج رفائيل ألبرتي، الشعري والنثري، وهو حنين تعلوه مسحة من الحزن ترتب على سلسلة من الفشل والخسائر المتراكمة. ففي الطفولة هاجر من قريته ليخسر البحر وأول مغامرة عاطفية في حياته، حب الطفولة، والماضي المظلم لأسرته بعد أن فشلت في التجارة، وفشله في أن يصير مصارع ثيران، وهو الحلم الذي يراود "أي طفل أندلسي حقيقي" - حسب ألبرتي نفسه-، وفشله في الرسم، ليختمها بأكبر فشل وخسارة وهي هزيمة جماعته، هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية التي قذفت به إلى "الشاطئ الآخر" للمحيط الأطلسي، إلى المنفى.
ويمكن تلخيص مسيرة الحنين هذه في أشعار ألبرتي في ثلاثة رموز تمثل المحطات الثلاث في حياته: البحر ويرمز إلى الطفولة والمراهقة، والرسم ويرمز إلى المراهقة والشباب معاً، و"الشاطئ الآخر" ويرمز إلى المنفى. إنه الشاعر الذي عاش حيث لا يريد والذي كان في حالة بحث دائم، بحث عن ما فقده لتعويض احباطاته وانكساراته. ولهذا فإن الشعر لدى ألبرتي كان تبريراً وتحليلاً ذاتياً لشخصه.
غير أن التحدي، وهو رد فعل طبيعي أمام الاحباطات، حمله لاحقاً على البحث عن الضائع ومحاولة استرداده، بشكل أو بآخر، عبر الكلمة المكتوبة. فإذا كان في شبابه قد كتب "بحار في اليابسة" لمحاولة استرداد البحر والقرية، وفي 1927 ارتدى زي المصارعين ودخل حلبة المصارعة مع سانشيث ميخياس لاسترداد هوايته القديمة، وفي عام 1945 كتب ديوان "إلى الرسم" في محاولة لتعويض فشله في أول ميوله الإبداعية، فإنه في ديوانه "أغاني خوان باناديرو"، التهكمية الساخرة، حاول النيل من خصومه السياسيين الذين اجبروه على اختيار طريق المنفى. وفي المنفى لجأ إلى شاعريته ليسجل ذكرياته ووقائع وطنه المفقود وعناصره: البحر القادشي والحرب الأهلية ومتحف البرادو والعديد من الشعراء الأصدقاء، من بينهم غارثيا لوركا وخوان رامون خيمينيث وأنطونيو ماتشادو الذين استلهمهم شعرياً.
كانت مسرحية القبيحة أو حكاية الحب والعجائز، " El adefesio " هي أولى أعمال رفائيل ألبرتي الدرامية. وكانت من بواكير أعماله التي نظمها في بداية منفاه الإضطراري في الأرجنتين خصصيًا لنجمة المسرح مارغريتا شيرغو التي كانت تعيش معه في المنفى. وهناك مثلتها مع فرقتها في بيونوس أيرس في 8 يونيو عام 1944، ولم تمثل في إسبانيا إلا بعد عودة المؤلف من المنفى في نهاية السبعينات.
والمسرحية ذات مغزى في الغربة إذ تنتمي دراميتها إلى مسرح السخرية والاستهزاء، إلى عالم المحال والقبح، لتتضمن التزاماً مع التاريخ الاجتماعي للجنس، ما يكسبها أهمية حيوية. ويقول الناقد المسرحي الإسباني خوسيه مونيلون (2): "إنها صرخة ضد إسبانيا السوداء، المتخلفة، وضد عبادة القمع والموت، لينتقل بنا نحو طرح رمزي لبعض الرموز المحددة المناهضة للفاشية. ومن الجلي أن "القبيحة" لا يمكن أن تقتصر لتكون دراما ريفية لجنوبي إسبانيا بالطريقة نفسها التي تفيد في تصنيف مسرحية غارثيا لوركا La casa de Bernarda Alba "بيت برناردا ألبا" التي تلتقي معها في نقاط متشابهة".
ويستلهم الشاعر رفائيل ألبرتي تلك التقاليد المتخلفة في إسبانيا مطلع القرن العشرين، خاصة في الأقاليم الجنوبية الريفية، وإن كانت لم تتخلص تماماً من الكثير من هذه العادات والتقاليد في ما يطلق عليه "إسبانيا السوداء"، المشجية، خاصة في بعض المناطق مثل الأندلس وإكستريمادورا. وهي مسرحية مسارها خشن، ذات قوة شعرية مرعبة، تنقل جو الرعب من الوضع في إقليم الأندلس، مسقط رأس الشاعر، وهي أرض جثم على أنفاسها النظام الإقطاعي والخرافات البالية لقرون ولا يزال جاثماً على أنفاس سكانها، ما ولد العبودية والجور في الإقليم. وتلعب التابوهات، المحرمات، دوراً رئيساً في المسرحية، وعلى رأسها الجنس، وتحديداً ممارسته مع المحارم، أوغشيان المحارم.
هناك صراع قائم في المسرحية بين السجن والمنظر الطبيعي، بين الموت والحياة. فعلى سبيل المثال نجد أن ظهور الشحاذين ووجوههم مغطاة يحجب شهوانيتهم، وفي الوقت نفسه يدفع بعالمي إلى الانغلاق، إلى الخوف. ويلعب مكان بعينه دوراً ثابتاً ومحركاً في المسرحية، هو بيت إحدى الشخوص، والمشهد برمته مقشعِر وأندلسي موحٍ، منزل أبيض، خاص بأسرة برجوازية أندلسية، فيه شرفة كبيرة، يصعد إليها أشخاص المسرحية ليفزعوا الخفافيش. في أسفل المشهد قرية أندلسية، مشمسة، شامخة وسط الطبيعة. وفي نهاية المشهد، عن بعد، هناك قلعة رابضة، حصن، يفترض أن السيد دينو يدور حوله بحثاً عن فتيات. وباقي المشهد عبارة عن منزل كبير ومهم، فيه برج حيث تصعد إحداهن لتقرأ بعض الأشعار، تسمع من كل النوافذ، إلى أن تلقي بنفسها من أعلاه. كان المنزل مليئاً بالأشجار، أشجار الموز، حوله سور يطل على طريق، كانت تقوم فيه غورغو بطقس غسيل أقدام الشحاذين.
وعن أصل هذه الحكاية المسرحية يقول المؤلف في سيرته الذاتية: "في بلدة روتي، في الحي المرتفع، كانت تعيش هناك فتاة جميلة، معروفة في القرية وفي القرى المحيطة بها باسم "المحبوسة"، وكانت تُشاهد فقط في صحبة أحد، وجهها مغطى ببرقع، في قداس الفجر. طوال ليالٍ كثيرة كنت أصعد إلى شارعها وأذرعها من أعلى إلى أسفل خلال الساعات المقفرة، دون جدوى من الانتظار خلف شبابيك وشرفات منزلها التي لم تفتح إطلاقاً. حيكت حول هذا الفتاة أساطير وحكايات غريبة، جرت على كل لسان في القرية، فأضاف إليها كل واحد ما أراد من نسج خياله. كانت أمها وخالاتها اللاتي يقمن بحراستها يكنن الكراهية للرجال، وهؤلاء كانوا يحلمون بالفتاة ويرغبونها دون أدنى حياء. كما أنها ملأت حلمي، فتولد داخلي إحساس حزين، حب صامت، غم مقبض لانتزاعها من تلك الظلال السوداء التي تراقبها وهكذا تعذب جمالها، شبابها المسكين بين أربعة جدران. (3)"
وحبكة المسرحية، حسب ألبرتي، تقوم على حدث حقيقي، عاشه حقيقي في مراهقته في إقليم الأندلس. وهو الحدث الذي سمح لخيال الشاعر بالتفتق عن حبكة، من خلال أسطورة غورغوناس، بناء هذا الحكاية، التي تسير وسط كابوس الأحقاد والرغبات المكبوتة والأحلام المستحيلة، وهو ما يتكشف من خلال لغة أشخاص المسرحية ذات البعد الشعبي والإستعاري، وفي الوقت نفسه سوقي والمفخم، وقد سبقه في هذا اللون مسرحيون آخرون، كان أخرهم صديقه غارثيا لوركا، في "بيت برنادا ألبا"، وقبلهما بايي إنكلان، في "مسرحيات وحشية".
كان رفائيل ألبرتي من الشعراء الإسبان الذين تأثروا بالشعر العربي الأندلسي، ولهذا فإن اقتفاء أثر الحضور والتأثيرات العربية في أعماله لا يدخل في دنيا الخيال الشرقي، أوالسير وراء سراب تعريب أجوف لغرض في الذات العربية، فهذا الشاعر ينتمي إلى جيل شعري ولد على أثر الاحتفال بمئوية غونغورا الشاعر القرطبي المعروف بتأثره بالشعر العربي الأندلسي. إضافة إلى أن أعضاءه تعرفوا في تلك السنوات على روائع الشعر الأندلسي من خلال كتاب "أشعار عربية أندلسية" من إعداد وترجمة المستعرب الراحل إميليو غارثيا غوميث. كان هذا الكتاب، الذي نشر في مطلع عشرينات القرن الحالي، بداية معرفة ألبرتي ولوركا، وغيرهما من أقرانهما، بالشعر العربي.
كان ألبرتي من الشعراء القلائل الذين اعترفوا بتأثير الشعر العربي الأندلس على نتاجهم وأقر بفضل هذا الاكتشاف العظيم عليه وعلى جيله الشعري وتأثره بالشعر العربي من خلاله، القريب منه، فهو أندلسي المولد و العناصر المتوسطية تفوق الأوروبية في ثقافته حسب قوله. إلا أن غارثيا لوركا لم يعترف بذلك مما أثار حفيظة غارثيا غوميث، و هو أمر يمكن تفهمه إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه اغتيل في الأيام الأولى من الحرب الأهلية وهو في مطلع شبابه، مما لم يتح له فرصة الاعتراف أو نكران حقيقة ملموسة في نتاجه الأدبي درسها باحثون عرب وأجانب ونشروها في دراسات جادة نُشرت لاحقًا.
تجلى تأثره هذا في مواقف عدة من شعره، لعل أبرزها تمثل في مقارنة وضعه في المنفى بوضع الملك الشاعر المعتمد بن عباد عندما عاش منفيًا في المغرب بعد خلعه من عرش إشبيلية. وكان قد قال لي في أحد لقاءاتنا: "كان كتاب غارثيا غـوميث -أشعار عربية أندلسية- ذا أهمية كبيرة لنا جميعًا، وخاصة لي ولغارثيا لوركا، وإن كان لوركا لم يعترف بذلك، وهو ما أثار غضب غارثيا غوميث. إنني تحدثت كثيراً عن أهمية هذا العمل لجيلي، فقد كان اكتشافاً، تعرفنا من خلاله على الشعراء الأندلسيين معرفة حقة، بعد طول جهل بهم، فالمعلومات التي كانت متداولة عنهم حتى نشر هذا الكتاب كانت مستخفة وسطحية. بهذا الكتاب اكتشف غارثيا غوميث كنزًا كبيرًا."
وفي موضع آخر من ذلك الحور قال لي:" إننا أبناء إقليم الأندلس كنا نعلم بحقيقة وأهمية هؤلاء الشعراء العرب، ومعهم اليهود، فالشعر العربي وصل إلى قمته في الأندلس، والشعر العبري لم يحقق وجوداً و نجاحاً مثل الذي حققه تحت الحكم العربي في الأندلس. لقد تغيرت الحال الآن، فالشعر العربي أصبح معروفاً في إسبانيا أكثر من أي وقت مضى، بعد أن اكتشفنا أن عناصر وجذوراً مشتركةً تجمع بيننا... إنني أشعر بانتمائي إلى هذا التراث، وإعجابي جم بشعراء مثل المعتمد بن عباد وبن قزمان و المقدم".
وقد كرس ألبرتي إعجابه بالمعتمد بن عباد شعراً ونثراً، فاقتبس أبياتًا للملك الشاعر وكتب عدة قصائد عنه خلال سنوات منفاه في الأرجنتين، "إلا أنني لم أزعم مقارنة شعري بشعره، فهو شاعر عظيم، وكانت نهايته مأساوية حيث طردوه من إشبيلية و مات في منفاه في أغمات بالمغرب، و هناك كتب أشعاراً مثقلة بالحنين إلى الوطن، الأندلس، فكان يحاورالطيور المهاجرة في رحلتها من إفريقيا إلى الأندلس و يسألها عن ذويه وعن وطنه". وهو ما أكد عليه في إحدى رسائله إلى غارثيا غوميث- لا تزال في منزل هذا المستعرب ضمن مراسلاته الثقافية والدبلوماسية- في مرحلة متقدمة من حياته، في منفاه بروما، إذ شبه ألبرتي نفسه بهذه الشخصية الأندلسية.
كانت روما المحطة الأخيرة –منذ مطلع الستينات- في جغرافية منافيه قبل عودته إلى إسبانيا، في نهاية عام 1977 مع زوجه، الكاتبة ماريا تريسا ليون، بعد وفاة الجنرال فرانكو الذي حكم البلاد بالحديد والنار زهاء أربعة عقود. وفي هذه العاصمة الأوروبية تعرف إلى السياسي والأديب الفلسطيني المتعدد المواهب وائل زعيتر، ممثل منظمة التحرير في روما، ضمن حراك هذا الأخير واقترابه من مثقفي اليسار الأوروبي والمناصرين للقضايا الإنسانية.
كان وائل زعيتر (1934/1972)، من أسرة لها حضور في عالم الثقافة والترجمة. وكان زعيتر قد حمل على كتفيه هموم قضيته وشعبه، ملقيًا الضوء على مأساة شعبه وتاريخه وثقافته للايطاليين وللاوروبيين، خاصة أصدقائه من كبار الفنانين والادباء والمفكرين مثل الروائي ألبرتو مورافيا والكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه والمؤرخ مكسيم رودنسون والموسيقي برونو كاليي. وفي روما أسس وائل زعيتر مع أصدقائه من قوى إيطالية مختلفة لجنة للتضامن مع القضية الفلسطينية، وربطته علاقات وثيقة مع الحزبين الإشتراكي والشيوعي.
رفائيل ألبرتي، الذي اكتوى بنار الحرب والملاحقة والمنفي ، كان مقربًا من معظم مثقفي اليسار الأوروبي، ما سهل اللقاء مع الأديب والمترجم وائل زعيتر، فكان جسرًا له ولقضيته. بيد أن القضية الفلسطينية لم تكن القاسم المشترك الوحيد بينهما، إذ كان هناك جسر التراث الأندلسي الذي أثرى تلك العلاقة من خلال الشعر الأندلسي الذي جمع بينهما.
أذكر أن أول لقاء جمعني برفائيل ألبرتي في النصف الثاني من الثمانينات كان يئن وهو يحكي لي عن ذكرياته ولقاءاته الثقافية السياسية مع وائل زعيتر في روما. كان لا يزال يتذكر شغفه بالشعر الأندلسي وبتاريخ العرب في الأندلس. كان يحدثني عنه بألم وفجيعة اغياله. ففي شتاء عام 1972 اغتاله الموساد انتقامًا لعملية ميونخ الشهيرة قبلها بشهر، إذ قامت منظمة أيلول الأسود باحتجاز أعضاء الفريق الرياضي الإسرائيلي المشارك في دورة ميونخ للألعاب الأولمبية ردًا على ضرب إسرائيل لمواقع الفدائيين في لبنان واغتيال عسان كنفاني. وانتهت العملية بقتل بعض الأفراد من الجانبين.
تأثر رفائيل ألبرتي أيما تأثر لاغتيال صديقه الشاعر والسياسي الفلسطيني وسط روما. بكاه ورثاه في قصيدة دان فيها تلك العملية الإجرامية. وبطريقة قريبة من التقنية السينمائية صور للمتلقي شخصية وائل زعيتر، عشقه للشعر الأندلسي والشعر الحديث، مصورًا عذابات الشعب الفلسطيني الذي فرضت عليه الحروب على اتساع جغرافيته، ومعرجًا على رمزية شجرة الزيتون. وأشرك الشعب اليهودي في الألم، وهو ما يجب أن يُفهم ضمن موقف اليسار الأوروبي من اليهود وإن تحول إلى مناهض لإسرائيل بعد أن تكشف لهم وجهها الحقيقي ومع تحول اليهود إلى جلادين للشعب الفلسطيني. وقد خص وائل زعيتر بمرثية، كتبها فور اغتياله، أترك ترجمتها بين أيدي القراء رغم أنني لا أهاب ترجمة الشعر، لكنني جازفت:
إلى وائل زعيتر *
كنت عذبًا، رقيقًا،
مرهفًا، حاد الذكاء،عزيز المنال
يتضوع منك شئ خفي،
كنت كهمس الماء وحيدًا
عند المغيب.
تعرفت إليك متحدثًا عن شعر
شرق إسبانيا،
ملقيًا عليّ أجمل مقاطع الشعر القديم،
مقاطع شعر اليوم،
الجريحة لشعب مسلوب الوطن،
هائم، مجرد، جميل،
شعب في حروب قسرية
على عَرْض وطنه.
كنتَ محبًا للسلام، تحلم
باخاء عادل مع ذلك الشعب
المضطهد، الملاحق،
وفي احتضار دائم.
ذات صباح، في روما،
تصفحت صحيفة
ورأيت وجهًا معروفًا
مضرجًا في دمائه على الأرض.
بكيتك، مذعورًا،
وأدنت تلك الجريمة
المقترفة بأيدي من نفضوا
شجرة الزيتون، ومعها اغتالوا
حمامة السلام،
حرةً في سموها.

روما، أبريل 1977، ديوان " الضوء الخافت".

لم يقتصر نشاط ألبرتي على الشعر، إذ جمع بين فن الكلمة وفن الرؤية، فنظم الشعر وألف المسرح والسرد والسيرة الذاتية، ومارس الفنون التشكيلة كالرسم والحفر، و كان الرسم بدايته في عالم الفن التشكيلي، و لكن إلحاح الأسرة حمله على تركه، ونصحه الأصدقاء بالتفرغ للشعر. و قد خص التصوير بديوان "إلى الرسم"، الذي ترك أثراً قوياً على الشاعر عند معالجة الكلمة الشعرية، فكان أكثر ما ترك بصماته في نفسه و شعره. ومعروف عنه أنه كان يتمتع ببعد بصري قوي، واعترف بأن القصيدة التي لا يراها لا يكتبها. وأن الكلمة والرمز أمر واحد بالنسبة له.
و قد ظل ألبرتي مواظباً على المشاركة في التظاهرات الثقافية في الكثير من بلدان العالم، خاصة الناطقة باللغة الإسبانية، إلى أن اعتلت صحته في منتصف التسعينات فانزوى في منزله. كما بقي ملتزماً، متمسكاً بمواقفه السياسية، وكان قد نفى شائعات حول تراجعه قائلاً: " إنني لم أتخل عن مواقفي القديمة، فشعري يزخر بإشارات واضحة و إن كنت لا أشارك في الحياة السياسية بفعالية كما كنت في صباي. ودواويني التي أطلق عليها "شاعر في الشارع" أو "الشعر المدني" تنم عن التزام واضح، إلا ان هذا النوع من الأشعار يعود إلى تراث القرن الرابع عشر، فهي ذات طابع شعبي، تحمل رسائل ذات معنى، تشبه الأشعار الغنائية".
ولعل أبرز حدث في هذا الصدد كان تجديده لعضويته في تحالف اليسار المتحد في منتصف التسعينات. وهناك من قال إن هذه المواقف السياسية المعلنة كانت سبباً في عدم حصوله على جائزة نوبل، رغم أنه كان من المرشحين الخالدين. إلا أن الجوائز المحلية والعالمية التي في جعبته تطول قائمتها، من بينها جائزة ثيربانتيس للآداب، نوبل آداب اللغة الإسبانية، ويحمل الدكتوراه الفخرية من أكثر من جامعة أوربية وأميركية لاتينية، وكان آخرها من جامعة مدريد كومبلوتنسي في إطار فعاليات احتفالها بذكرى تأسيسها السبعمائة، ويومها أعرب مجدداً عن دهشته من منحه هذا العدد من الشهادات الجامعية على الرغم من فشله في الدراسة فلم يستطع إتمام دراسته الثانوية في صباه !. وفي السنوات الأخيرة رفض جائزة أمير أستورياس في فرعها للأداب، رغبةً منه في أن تمنح لآخر، وإن كان هذا الموقف قد فسره البعض على أنه رفض منه لجائزة تحمل صفة ولي عهد إسبانيا !.
وهناك مؤسسة شعرية كبيرة تحمل اسمه في مسقط رأسه تهتم بإبداع الشباب من إسبانيا و أميركا اللاتينية وتقدم جائزة سنوية في الشعر.
كما أسلفنا مارس ألبرتي الشعر والمسرح الذي بدأه بمسرحية "الرجل المقفر" عام 1931، مسرحية تعالج المسألة الأخلاقية بشكل سريالي. ثم كتب مسرحية"فرمين غالان" عن ثورة العمال في إقليم إستورياس عام 1934، وهي المسرحية التي يحول فيها المؤلف المسرح إلى قصة حية، إذ ينسج أحداث ذات بعد شعبي في مسرحية تعالج انتفاضة هذا الضابط من أجل الجمهورية.
ومع اشتعال الحرب الأهلية الإسبانية كتب ألبرتي عدة مسرحيات قصيرة ذات هدف سياسي للإثارة والدعاية السياسية لتمثل في جبهات القتال. ثم يلجأ إلى التاريخ مستفيداً منه ليعيد كتابة مسرحية "نومانثيا"، البلدة الإسبانية التي واجهت الظلم وآثرت الانتحار على الاستسلام في وقت كانت فيه مدريد تتعرض لحصار الانقلابيين. وقد ترجمت بعض أعماله إلى العربية، كان آخرها مسرحية "القبيحة" التي ستظهر خلال الأيام القليلة القادمة.
حري أن أشير هنا إلى أن صداقة جمعت بين رفائيل ألبرتي وعبد الوهاب البياتي طوال السنوات التي التقيا فيها في مدريد، وقد خصه البياتي بقصيدة طويلة. وقد جمعت بينهما أمسيات شعرية وملتقيات عربية إسبانية، من بينها لقاء في مدينة ألمونيكر –المنكب العربية- من أعمال غرناطة حيث افتتحا مركزًا يحمل اسم البياتي وتقاسما جائزة ابن الخطيب الشعرية.
وفي عام 1985 تقاسم جائزة غار ابن الخطيب، في الملتقى العربي الإسباني بمدينة المونيكر-المنكب العربية- مع عبد الوهاب البياتي، وكان الأخير قد خص ألبرتي بقصيدة مطولة مكثفة، وجمعت بينما صداقة إلى أن رحل ألبياتي عن مدريد مواصلا تيهه في المنفى ليرمي عصا الترحال عن هذه الدنيا في الشام إلى جوار محي الدين ابن عربي الذي كان يعشقه.
لم يقتصر نشاط ألبرتي على الشعر، إذ جمع بين فن الكلمة وفن الرؤية، فنظم الشعر وألف المسرح والسرد والسيرة الذاتية، ومارس الفنون التشكيلة كالرسم والحفر، و كان الرسم بدايته في عالم الفن التشكيلي، و لكن إلحاح الأسرة حمله على تركه، ونصحه الأصدقاء بالتفرغ للشعر. و قد خص التصوير بديوان "إلى الرسم"، الذي ترك أثراً قوياً على الشاعر عند معالجة الكلمة الشعرية، فكان أكثر ما ترك بصماته في نفسه و شعره. ومعروف عنه أنه كان يتمتع ببعد بصري قوي، واعترف بأن القصيدة التي لا يراها لا يكتبها. وأن الكلمة والرمز أمر واحد بالنسبة له.
و قد ظل ألبرتي مواظباً على المشاركة في التظاهرات الثقافية في الكثير من بلدان العالم، خاصة الناطقة باللغة الإسبانية، إلى أن اعتلت صحته في منتصف التسعينات فانزوى في منزله. كما بقي ملتزماً، متمسكاً بمواقفه السياسية، وكان قد نفى شائعات حول تراجعه قائلاً: " إنني لم أتخل عن مواقفي القديمة، فشعري يزخر بإشارات واضحة و إن كنت لا أشارك في الحياة السياسية بفعالية كما كنت في صباي. ودواويني التي أطلق عليها "شاعر في الشارع" أو "الشعر المدني" تنم عن التزام واضح، إلا ان هذا النوع من الأشعار يعود إلى تراث القرن الرابع عشر، فهي ذات طابع شعبي، تحمل رسائل ذات معنى، تشبه الأشعار الغنائية". ولعل أبرز حدث في هذا الصدد كان تجديده لعضويته في تحالف اليسار المتحد في منتصف التسعينات.
كما أسلفت مارس ألبرتي الشعر والمسرح الذي بدأه بمسرحية "الرجل المقفر" عام 1931، مسرحية تعالج المسألة الأخلاقية بشكل سريالي. ثم كتب مسرحية "فرمين غالان" عن ثورة العمال في إقليم إستورياس عام 1934، وهي المسرحية التي يحول فيها المؤلف المسرح إلى قصة حية، إذ ينسج أحداث ذات بعد شعبي في مسرحية تعالج انتفاضة هذا الضابط من أجل الجمهورية.
لا شك أن تجربة المنفى الطويلة تركت أثاراً إيجابية على ثقافة ألبرتي وعلى نتاجه الشعري. إلا أن قضاءه معظم سني المنفى في بلدان ناطقة بالإسبانية خفف عنه آلام الغربة وأتاح له المواصلة بلغته والتعرف على ثقافات هذه الشعوب بسهولة. لهذا فإن مشكلاته في هذا الصدد أقل بكثير من التي يلاقيها شاعر آخر يضطر إلى الخروج إلى المنفى في بلد يتحدث أهله لغة مختلفة عن لغته الأم. ورغم هذه القطيعة المادية مع إسبانيا كان الجانب الإيجابي لتجربة المنفي أكبر من سلبياته التي لا يستهان بها، خاصة وأنه ظل حوالي أربعة عقود في المنفى، أي استحالة العودة إلى الوطن، و هذه التجربة كانت مأساة في حد ذاتها، ومعروف أن أناساً انتحروا في المنفى لشدة الحنين للوطن، و لكن هذه لم تكن حالة ألبرتي فقد صمد وتغلب على الصعاب. و قد ترك أثراً واضحاً في نتاجه الشعري الذي نظمه طوال هذه السنوات.
سيظل رفائيل ألبرتي علامة بارزة في أكبر ظاهرة شتات لحقت بجيل كامل من الأدباء، جيل الجمهورة أو جيل ألـ 27، اضطروا جلهم إلى مغادرة بلدهم، إسبانيا، بعد هزيمة الشرعية التي دافعوا عنها، وبعد أن اغتيل نجم الجيل، فدريكو غارثيا لوركا، في بداية اشتعال الصراع الأهلي المسلح في الثامن عشر من أغسطس 1939، ما مثل نذير شؤم وما ينتظرهم في حالة هزيمة تحالف اليسار أمام الفاشست، وهو ما كان، فانفرط عقد جيل من المثقفين ملأوا الدنيا حضورًا بعيدًا عن الوطن. صار المنفى قرين الحديث في أي سياق عن جيل الـ 27، ورفائيل ألبرتي رمز هذا الشتات في اللاوعي الجمعي والشعري، ولا يضاهيه في الوجه الآخر لمأساة جيل سوى غارثيا لوركا الذي لا يزال يحتفظ بخيوط ألغاز كثيرة لتلك الحقبة الفريدة في تاريخ الأدب العالمي.
الهوامش:

(1) كتب رفائيل ألبرتي سيرته الذاتية في كتاب من عدة أجزاء تحت عنوان الغابة الضائعة، في إشارة إلى تلك الغابة من أشجار الصنوبر في قريته، وترجمتها الكاتبة والمترجمة العراقية باهرة عبد اللطيف الجبوري ونشرتها دار المأمون في بغداد في عام 1992، وحازت عنها جائزة، لكن الحصار الأميركي على العراق(1990-2003) اضطرها إلى اختيار المنفى في إسبانيا بعدها بعامين.
(2) Jose Monleon, Tiempo y teatro de Rafael Alberti, Primer Acto/Fundacion Rafael Alberti, 1990
والمؤلف كان أستاذ مسرح في المدرسة الملكية للفنون المسرحية في مدريد وكان من مؤسسي مشروع المعهد الدولي لمسرح البحر المتوسط وترك تراثًا مسرحيًا تقف عليه الآن ابنته أنخلا.
(3) رفائيل ألبرتي، الغابة الضائعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا