الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد وتحليل في كتاب-هولندا لا تمطر رطباً- للكاتب علاء الجابر

علي عبد الجبار شمري
كاتــبٌ حُـــر

(Ali Shammari)

2021 / 1 / 14
الادب والفن


إنّ للنقد في أدبنا العربي تاريخٌ حافلٌ بالمواقفِ، وعمقٌ ضاربٌ في الجذورِ، وقد عرفه العرب كنوعٍ من أنواع التقييــم لنتاجهم، ووسيلة للتنافس على السؤدد والرفعة، وهو بلا شك فيه من تقويم للأخطاء، وتحسينٌ للأداء ما لا ينكره عقل. فقد يُخدع المرء بما يقرأ أو يسمع للوهلة الأولى لكن نفاذ البصيرة التي يتمتع بها النقاد تشكل الدرع الواقي وخط الدفاع الأول في الأدب ولعلَّ من أشهر حوادث النقد الأدبي تلك الحادثة التي حُكم فيها النابغة الذبياني في قصيدة حسان بن ثابت التي يقول فــي مطلعها:
لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن بالضحى .......... وأسيافُنـــا يقطرن من نجدةٍ دمــــا
فنجد أن النابغة لـم يغتر بما أوحاه البيت من متانة وجزالة في التعبير، وإنما أشار لحسان بأن لا معنى للمعان الجفـنات بالضـحى، والبلاغـة تقتضي أن تلمعَ بالدجى، وكذا رأى أن جمعهُ للجفناتِ على وزن القلة لم يكن موفقاً، وارتأى النابغة أيضـاً أنّ الفعـلَ يجرينّ أبلغ من يقطرن لما فيه من فخرٍ بالقوة والبأس، وذكر في نقده أشياء أخرى لكني أكتفي بما ذكرت. وقد أوردت هذا المثال لأُبين أن العبرة في المضامين لا في العناوين، وأن المنهج النقدي الذي كان عليه العرب الأوائـل، وهو منـهج الاحتكام للدليل الأبين والحجة الأبلغ. ومما سبق وأثبتهُ في مفهوم النقد سأنطلق في تحليلي لراوية " هولندا لا تمطر رطباً" لعلاء الجابر. إن أول ما شدني لهذا الكتاب هو عنوانه، العنوان الذي يمزجُ بين تلك البلاد الباردة، والرطب في أوطاننا الحارة، الرطب الذي لا يستوي رطباً إلا بلهيب تموز وأب الذي يحرقُ معه تلك الوجوه الكالحة التي أخذت سمارها من حرارة تلك الشمس اللاهبة. شرعت بقراءته محملاً بالتوقعات بأن أجد الكثير من المواضيع عن الغربة والاغتراب، عن أزمة الهوية، عن أزمة اللجوء وعللها وما قادت إليه وغيرها الكثير مما ابتلينا به كأمة عربية اختصها التاريخ بالمصائب المتلاحقة، وفي الحقيقة توقعت الكثير، لكني لم أجد سوى مواضيع مبعثرة بين دفتي الكتاب الذي سمي "رواية"، وفي هذه التسمية جدلٌ قائم لليوم بين أصحاب الاختصاص؛ لأن الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية لحياة الكاتب مروية بضمير المتكلم. فالبعض يذهب إلى إلحاق هكذا نوع من الأعمال بالرواية لما تحمله من إحداث مطولة ومتوازية تتداخل وتشتبك مثلها مثل إي رواية مستوحاة من الخيال، غير أنها تروي سيرة الكاتب نفسه، ويرى آخرون أن في هذا الإلحاق غبن لفن السيرة الذاتية والتراجم الذي له قراؤه والمهتمين به، وأنا أميل للرأي الثاني القائل بعدم الخلط، لأسباب لا يتسع المكان لذكرها هنا.

كما سبق وذكرنا فالكتاب يروي مراحل من حياة الكاتب بطريقة استرجاع الماضي "الفلاش باك"، ولم يتضمن الكتاب أي رمزية مُبطنة أو معلنة لا في الشخوص ولا في الأسماء والأحداث، فقد ذكر الكاتب اسمه الصريح في الرواية، وكذلك ذكر أسماء أقربائه والمدن التي عاش بها وعمله على حقيقتها. تميزت لغة الكتاب بالسهولة والوضوح، وهو كسائر ما اصطلح على تسميته " الرواية الحديثة" يستخدم لغة ضاقت بقواعد اللغة العربية، فوضعتها جانباً وسارت بدون تقييد أو ضابط، ممزوجة بالعامية الدارجة تارة وبحذلكات المؤلف اللغوية تارة أخرى. ورغم ذلك ففي الكتاب بعض المواضيع التي لو اشتغل الكاتب عليها وطورها أكثر لكانت رفعت من شأن الكتاب أكثر وبثت فيه من الفائدة الشيء الكثير. ولن يثنيني عن قول رأيي في الكتاب ما حمله على ظهره من شهادة للكاتب الكبير علاء الأسواني، ورغم تقديري لقلمِ هذا الأخير ومواقفه المبدئية، وكذلك اعتزازي بكتاباته الدرامية؛ إلا أني أدرك أننا نعيش في زمن المجاملة والعلاقات التي هيمنت على كل مفاصل الحياة، فلا تجد لنفسك انفكاك منها حتى في الأدب.
ملخص الكتاب مع بعض التحليل والتدقيق
تبدأ "الرواية" أحداثها في هولندا وبالتحديد في إحدى أبنية البلدية الخاصة بمنح الجنسية، ونجد الكاتب هنا يتصفح الوجوه ويحاور نفسه عن ما إذا كان قد أصبح هولندياً بتلك الوثيقة! فيعقد تلك المقارنة التي هي بلا شك تحمل في معانيها الكثير، "هل أنتمي بجسدي الضئيل إلى هؤلاء...... بأي شيءٍ أشبههم؟" نعــم! هي تلك الإنسانية التي آمنت بها مملكة الأراضي المنخفضة، والتي جعلتها تستقبل جموع من لفظتهم بلدانهم لنضالهم القومي أو الوطني، أو الديني، أو من أجل حرية لم ينعموا بها في أوطانهم، فجاءوا ينشدونها في تلك البلاد الباردة.
ينتقل الكاتب بعدها بذكرياته إلى شارع " محمد علي" في "مومباي" لينقل لنا شيء من تناقض الحياة وقسوتها، فالشارع الذي يُخيل إليك أنه يحتوي على نصف احتياطي العالم من الذهب، يقودك إلى مشهد تراجيدي عند آخره، مشهد لفتيات في عمر الورود، لم يترك لهن العوز سوى بيع أجسادهن بأرخص الأثمان، مقابل نومة على سرير، أو طبق من طعام يسد رمق جوعهنَّ...! ولا أنكر هنا أنني تفاعلت وتأثرت جداً وأنا أقرأ تلك السطور لأنها داعبت إنسانيتي، وذكرتني بمومس السياب العمياء وتلك الكلمات الغائرة في العمق والمعنى في وصف ذات الحال...
ومن الذي جعل النساءْ
دون الرجال، فلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟
الله — عز وجل — شاء
ألَّا يَكُنَّ سوى بغايا أو حواضن أو إماء
أو خادماتٍ يستبيح عفافهن المترفونْ
أو سائلاتً يشتهيهن الرجال المحسنون!

يرجع بنا الكاتب إلى هولندا متأملاً في شوارعها وأبنيتها وسكانها، فيعطينا بعض المعلومات عن طبيعتها الديموغرافية، ويحدثنا عمن يعرف من سكانها، لينهي تلك المشاهد بمشهد سقوطه المدوي عند محطة القطار، ونقله للمستشفى، حيث فارق الحياة لمدة 20 دقيقة ليكون فيها روحاً معلقة في أرجاء الغرفة، روحٌ ترى وتشاهد كل شيء، دون أن يلتفت أو يحس بوجودها أحد. تشكل هذه الفقرة مادة دسمة للكتابة هنا، فينتهزها الكاتب ويحرك بها أحداث كتابه من خلال زيارة الأطباء وإضفاء طابع الميتافيزيقيا على تلك الرحلة، رحلة العشرين دقيقة، ليعطينا نوع من الأثارة أظن أن الكتاب كان بحاجة إليها لكسر الجمود الذي تسلل إليه. يرقد كاتبنا أربعة أشهر في المستشفى، ويلتقي خلال هذه الفترة” مليكة"، تلك الشخصية التي وددتُ لو أفرد لها الكاتب رواية بذاتها، فقد قالت برغم بكمها الكثير عن حال تلك المرأة العربية المستضعفة التي تُستغل من أقرب المقربين، وتُعاملُ كسلعة في بلدٍ يؤمِّن الحرية كالهواء لأفراده، لينتهي بها المطاف مُعنفة ومضطربة نفسية في إحدى المصاح العقلية. كذلك مشهد ذلك الكيني وزوجته التي استدرت عطف الأطباء والمعالجين، بما رأوه من بقايا أعضائها التناسلية التي طالها مشرط الختان، فجعل منها قطعة فرانكشتانية مثيرة للرعب، لتمنح على أساس ذلك اللجوء والإقامة، ومن ثم وبعد سنوات تختار تلك الكينية لابنتها ذات المصير الذي رُميت إليه في طفولتها، فتسافر بها إلى كينيا لختانها، لقد كان مشهداً من المشاهد المستفزة والمثيرة للقرف والاشمئزاز بالفعل.! لا لما احتواه من تصوير للجسد المشوه، بل لما أسفر عنه من فكرٍ مشوه ومنطق أعوج، هو بالفعل حال بعض من يعيشون في أوروبا ويتصرفون بأخلاقيات مزدوجة..!

يلتقي الكاتب فيما بعد "بكارمن" التي وإن لم يصرح علناً بإعجابه أو ربما حبه لها، إلا أن ذلك كان ظاهراً جلياً في تصرفاته معها، أو على الأقل حتى اكتشف فيما بعد أنها بائعة هوى، لتنقطع تلك العلاقة بمشهد درامي محزن تختفي به "كارمن" إلى الأبد.
ينتقل الكاتب بنا إلى طفولته في البصرة ثم شبابه في الكويت، ونتعرف في تلك الرحلة على عمته نورا ذات الشخصية المتسلطة والتي أهدى لها هذه "الرواية" كذلك على والده، والملاية، ومن ثم الكويت بجغرافيتها ومناطقها. نتعرف أيضاً في تلك الفصول على حُب الشباب "هند" وتلك المغامرة مع أخوها خالد، ثم "سارة" ومحاولاتها التي لا تنتهي لجره للفراش. وبما أننا وصلنا لعند" سارة" فلربما هي أفضل فرصة لعرض ما أراه في الجانب " الإيروتيكي " من الكتاب. فلا أعرف إن كان تناول الكاتب لموضوع الجنس بهذه الطريقة التي صورته قديساً، أكان خوفاً من زوجته.؟ أم لقداسةٍ فيه...؟ أم لشذوذٍ عن الطبيعة، أراد به شيئاً لم أفهمه..؟ فنرى"مليكة" تنام عارية في فراشه فلا يحركُ ساكناً ويتهرب منها، ونرى "كارمن" تتوسله فلا يرف له جفن، وهو الشغوف بها حد الثمالة، ونرى "سارة" بقميص الثوب الأحمر تداعب غرائزه وهو مشمئـزٌ نافرٌ منها! لا أعرف حقيقة أكانت تلك قداسة وورع فيه بالفعل؟ أم أنها مثالية زائدة، أو لربما كثرة كتابته في مسرح الطفل، أكسبه براءة الأطفال ووداعتهم! لكن في كل الأحوال فتلك المشاهد لم تقنعـني البتـة..! فكتاب الجابر ليس أقدس من القرآن، ولا الجابر نفسه أحرص على نفسه وأضبطُ لها من النبي يوسف الذي صوره القرآن بقوله " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ-------- وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ-------- بُرْهَانَ رَبِّهِ" وفي كلمة البرهان في الآية تفاسير كثيرة، ولكن ما يعنينا أن يوسفَ وهو النبي، قد هــمَّ بتلك المرأة وتحرك فيه شيءٌ تجاهها، لأنه إنسان وأن رفض عقله الفعل؛ فلغرائزه ردة فعل وتأثير أيضاً، أما قديسنا الجابر فلم أجد له في تلك المشاهد طعم أو لون أو رائحة إلا التباهي بعفته التي ما أنفكت تذكرني ببعض مشاهد أفلام السبكي "الكوميدية" الهابطة حين يُظهر المرأة وهي تتزلف الرجل للمتعة والجنس، وهو يدير ظهره لها ليردفها بشتيمة أو ببصقة تبين قرفه واختناقه منها ومن ملاحقاتها ومحاولاتها المتكررة معه..!

لم يذكر الكاتب أيّ تواريخ، ولم يُلزم نفسه بأي انتماء سواء لأرض أو لشعب أو لوطن، والمتابع لشأن تلك المنطقة العربية القادم منها الكاتب، يجد تفسيراً لكل مجريات الأحداث، حتى وإن أخفى كاتبها التواريخ. الكاتب من مواليد البصرة وعاش طفولته فيها ومن الذين انتقلوا للعيش في دولة الكويت نتيجة للقرب الجغرافي والترابط بين تلك المناطق وكذلك بسبب الاضطرابات التي واكبت وضع العراق والتقلبات السياسية للسلطة فيه. نشأ في الكويت، ومثل كل الذين عانوا من أزمة اجتياح العراق للكويت في التسعينيات، عانى الكاتب كذلك من هذا الحدث، والذي اضطره أن يغادر الكويت ليلجاُ إلى هولندا ويقيم فيها ردحاً من الزمن.
بالمجمل نستطيع القول أن الكتاب ضمَّ نفحات أو قُـل ومضات من حياة الكاتب، استرجع فيها ذكريات الطفولة والشباب وهو في الغربة، الغربة التي لا فعل لها سوى تهييج داء النوستالجيا البغيض، لتضعنا على تلك الأرجوحة المترنحة بين وطنٍ سلبنا الوطن وبين وطنٍ منحنا وطن فلم نجد عنده الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي