الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المُتخيّل الابداعي في قصيدة - حروف تصرخ في زنزانة البوح - للشاعر العراقي البابلي ساطع محمود المجيد.

غانم عمران المعموري

2021 / 1 / 15
الادب والفن


لم يكن الشعر ظرف طارىء في حياة الشاعر وإنما ذلك القوام الجمالي المتشكل من شخصيته منذ نعومة أظافره والمجتمعه مع مرجعياته الثقافية وصهرها في بوتقة واحدة عن طريق المُحرّك الرئيسي لذلك الوهّج المنبعث من ذاته وبالموهبة الّتي كانت الأساس في بلورة وصقل أفكاره ونسّجها بأسلوب فني بلاغي ومدى تفاعلها واندماج متخيله الشعري المتغلغل في شرايينه مع ما يُحيط به من ظروف نفسية واجتماعية خاصة وعامة نابعة من رحم المجتمع الّذي يعيش فيه فيشكل تلك الشرارة الأولى التي توقد وتشع صور شعرية متخذاً من ضمير المخاطب والمتضادات والانزياحات مُنطلقاً فنياً في بناء قصيدته الشعريه..
واكب الناص من خلال نصه ما سار عليه الشعراء التجديدين في قصائدهم النثرية حيث أن العتبة الأولى للنص جاءت بعنوان طويل أراد أن يعطي للقارىء المفتاح الأول الذي من خلاله يلّج إلى مكنون وماهية المبتغى أو دلالة واقعية حقيقية لها أثرها على القارىء أو ما يُريده ويضمره الشاعر حيث أنه يُمثل الواجهة الاعلامية المُشرقه للنص..
"... فقد وردت تعاريف كثيرة عن العنوان من قبل باحثين ومفكرين من الغرب ولكن لابد من وضع عنوان نابع من ثقافتنا العربية العريقة وأني أتفق مع ما قاله أدونيس " اذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي وإنما يجب أن يكون بآله من داخله ..." 1.
فأني أرى بأن العنوان هو الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل القصيدة وما تتضمنه من دلالات ومعاني واستعارات وانزياحات وتضادات..
" ... هذا يبدأ انطلاقاً من عنونة مقصودة تدفع بلا عنف نحو الادراك والتصور لخلق حالة إدهاشية تالية, مع أن القارىء ليس مبدعاً لنص شعري لكن ذائقته الجمالية فيما يقرأه تساهم بشكل فاعل في مزيد من انتاج أبداعٍ متواصلٍ كما في الرسائل الاعلامية المفهومة بلا تشويش من المتلقي ما يعني أنها أدّت غرضها بنجاح وبلا صعوبات وخلل وأثرت فعلياً بما جاءت به من أغراض نتيجة رجع الصدى أو ( التغذية المرتدة) كما يعرّفها علم الاتصال الجماهيري..." 2.

أراد الشاعر أن يُبين لنا من خلال ما يخفيه العنوان من مشاعرٍ وأحاسيس مكبوته ومتسترة خلف جدار لا يخترقه إلا من أراد هو أن يخترقه ويعرف ما وراءه وذلك بأسلوب انزياحي شعري حيث جعل للحروف حاسة نطق وصراخ وكذلك جعل للزنزانة مشاعر البوح..
فالانزياح إذن هو "اختراق مثالية اللغة، والتجرؤ عليها في الأداء الإبـداعي، بحيـث يفضي هذا الاختراق إلى انتهاك الصياغة التي عليها النسق المألوف والمثـالي، أو العـدول فمستوى اللغة الصوتي والدلالي عما عليه هذا النسق" 3.
واني أرى الانزياح : خروج الناص عن المعتاد والسائد والتخلي عن الأصل عن طريق التلاعب بالألفاظ واستخدام الكلمات المُغايرة كالتقديم والتأخير واستنطاق الأمكنة أو الحذف ضمن دائرة اللغة وجماليتها بأسلوب بلاغي دلاليّاً كالتّشبيه أو المجاز أو تركيبيّاً مرتبطاً بتركيب المفردات والجمل وقوانين اللغة..
وفي مطلع القصيدة نستطيع أن نُحدد هويّة المخاطب من خلال أسلوب النداء :
أيها السين, أيها المتشكل, أيها الباء, أيها الراعي,أيها الفجر, يا سيد الحروف,فأنه وردها بصفة العموم لا التخصيص إلا أن البُعد الخفي المُضمر من وراء النداء هو معنى خاص يُريد الناص اخفاءه بطريقة الاستعارات والمجازات والانزياحات وهذا من شأنه لفت انتباه المتلقي ليظل على علاقة وانسجام وتناغم مع النص الشعري ، إضافة إلى توهّج الرغبة والتشوق للإستمرار في متابعة الجمل دون ملل وتجدد لديه عنصر التتبع والنشاط ليظل ماثلا أمام النص، يعيه ويتأمله ويكون مستعدا ذهنياً ونفسياً لتلقي ما بعد النداء.
كما لجأ الكاتب إلى استخدام الحروف " السين, الباء, راء " للتورية وعدم الافصاح عما يجول في مُخيّتله بأسلوب التخفي وفتح باب التأويل أمام المتلقي للوصول من خلال الكلمات التي تأتي بعد الحرف للخروج بمفهوم مشترك مع باقي الجمل " أيها المتشكل من جرعات كأسي" نداء يرتبط بالمقطع الذي قبله :أيها السين, فإن هذا النداء يشير إلى شخصية ربما تكون شخصيته أو أنثى أو ذكر كما يُقال سين من الناس وهنا أنَّ الناص أراد بطريق الأسلوب الانزياحي أن يبين بأنَّ تلك الشخصية قد تبلورت وانصقلت نتيجة الآلام والتجارب والظروف الاجتماعية والنفسية الّتي نفذت إلى أعماقها كانت السبب في تكوينها كما في المتشكل من جرعات كأسي, وهكذا تدرجت الانزياحات الأسلوبية اللغوية ب" زرع الهوى, ويقرع الليل احتفائي, لن تغلق باب الحوادث, رعونة أشيائي, الفجر الجاثم على أحلامي, أشتري ليلي, فنزيف أحلامي, لغيمة تنحب, لا يطلق الباء غزاله الراكض, ازهر في بطاح دمي, أزرع في روحي, أغير على المدى بجياد الريح, جوعي لأشجار الحرف..
كانت تلك الانزياحات بإيقاعات موسيقية وصور بلاغية متناسقة ومنسجمة فيما بينها تُحدد جمالية الألفاظ وتساهم في بُنية قصيدة النثر وتمييزها عن النثر فقد استخدم الزرع الّذي يقترن دائماً مع الأرض ويرتبط بها أزاحه إلى الهوى ووصف الليل بيقرع وجعل للحوادث أبواب تفتح وتُغلق بخلاف السائد والمألوف كما أنه استنطق الأشياء ووصفها برعونه, ومثل الفجر بالجسد الثقيل الّذي يقترن بوصف الجاثم , وشبهه الليل كأنه شيء قابل للبيع والشراء, كما أنه لبْسَ الأحلام جسد انسان ينزف أو يُجرح, كما أنه أبدع بوصف المدى وانزياحه إلى الريح الّتي تجري وشبهها بالجياد وقد جعل للحروف أشجار يمكن أن تثمر أو تنمو أو تموت لإرتباط الشجرة ووصفها من قبل الأدباء بالحياة أو الدنيا أو عُمر الأنسان ..
أيها المتشكل من جرعات كأسي
أعطني من خمرك لحاء النشوة

أيها الفجر الجاثم على أحلامي المترهّلة
أشتري ليلي وشبابيك الانتظار
يا من تشكلت من الليل والريح وفولاذ السين
ازهر في بطاح دمي
أزرع في روحي زيتون العشق

انتقل الشاعر من النداء إلى فعل الأمر ولا شك في أن هذا التنوع والانتقال يؤثر في مُخيلة المتلقي ويغني النص بدلالاتٍ لغوية ويعطي ديناميكية وحركية ويساهم في التسريع وصولاً للذروة..
ابتدأت القصيدة من عنوانها الطويل حتى نهايتها بأسلوب بلاغي انزياحي وفق إيقاع موسيقي وبصورةٍ فنية تناغمت وانسجمت فيما بينها فهي كانت تعبير عن حياة كاملة كامنة انطلقت من تجربته الشاعرية وموهبته النابعة من الأحاسيس والمشاعر الّتي رافقته مُنذ انطلاق الرصاصة الأولى التي اخترقت قلبه فتشكل من دمه وأوجاعه وحبه فيض صادق ملأ بياض الورقة بأسطر حُفِرت بقلمِ ترجم صفاء قلبه وسريرته الصادقة وإليكم حروفه التي تصرخ في زنزانة بوحه:


حروف تصرخ في زنزانة البوح

أيها السين
أيها المتشكل من جرعات كأسي
أعطني من خمرك لحاء النشوة
وخذ مني زرع الهوى بحجم الريح
أيها الباء
سوف لن تنهدم شرفات المنى
ويقرع الليل احتفائي بصمتِ حرفك
سيدي
أيها الراعي لو عول قلبي
إلى أين يمتد راء الجدران
راء التاريخ لن تغلق باب الحوادث
مادام الحلم يحملني قصيدة يم
أغرف فيه بمن أهوى
أيها المتشكل من رعونة أشيائي
أيها الفجر الجاثم على أحلامي المترهّلة
أشتري ليلي وشبابيك الانتظار
فنزيف أحلامي
يغني على رصيف ضلوعي
( أغنية الوجع المهاجر بجوازِ قهر يجوب جسد البلاد)
يغني بلا وتر بلا قافية
فلماذا يودعني السين
لغيمة تنحب في براري الوهم
لماذا لا يطلق الباء غزاله الراكض
في ضيعات فؤادي
يا من تشكلت من الليل والريح وفولاذ السين
ازهر في بطاح دمي
أزرع في روحي زيتون العشق
أيها الطاعن في البعد
يا سيد الحروف وسفير السحر
ها أنذا سموت في ملكوتك
غجرياً لا زمان له
أهتف لليالي القمر
أغير على المدى بجياد الريح
سوف أنحني
ما دام جوعي لأشجار الحرف
تولاني ليلاً
يرتدي صمتاً مديداً
ولن أغادر قصراً يسقيني عبيده خمرة الحلم
لن أرحل عن قافلة غربتي
غجرياً
أسجد لليل البراري ...
أتمنى للشاعر المزيد من الاصدارات الجديد والتقدم .






المصادر
(1)أدونيس , الثابت والمتحول , بحث في الابداع والاتباع عند العرب, دار الساقي , بيروت لبنان, ط10, 2011 , ص77.
(2)- سعد الساعدي – نظرية التحليل والارتقاء – مدرسة النقد التجديدية -تنفيذ الانجاز طباعة وتصميم (المتن) العراق – بغداد -2020 ,ص 155.
(3)الانزياح في الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب، عباس رشيد الددة، ط١ ،دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، بغداد، ٢٠٠٩ ،ص١٥.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن