الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانقلاب المبارك

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 1 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


إياك أن تصدق أن الضباط الأحرار كانوا يجتمعون سراً حول مائدة مستديرة داخل غرفة معتمة ويخططون لثورة تقلب نظام الحكم الملكي إلى جمهورية اشتراكية. بروباجاندا. كل ما في الأمر تمرد، "حركة مباركة"، شكل من أشكال الاحتجاج متعدد الوسائل. كان المجتمع المصري كله آنذاك على صفيح ساخن، ملتهب. جل الأحزاب السياسية، الحركات السلمية والعنيفة، النقابات والاتحادات المهنية، حتى الطوائف الدينية كانت جميعاً تتلظى وتنتفض من فوق هذا الصفيح الساخن، لدرجة أحرقت معها القاهرة كلها في يناير 1952، قبل بضعة أشهر فقط من انطلاق الحركة المباركة. مثل غيرهم، كان الضباط المصريون في الجيش الملكي يشتكون الغبن، واحتجوا مثلما احتج الآخرون، وتمردوا. وكل تمرد بوسائله، وكان السلاح وسيلة الضباط الأساسية. وهكذا فعلوا، حملوا أسلحتهم وانطلقوا.

الأقرب إلى الصدق أن "حركتهم المباركة" تلك ما كانت تنشد أكثر من تقويم لشكوى مهنية، مثل تخطيهم في الترقيات لحساب الضباط من أصول ألبانية وتركية وأجنبية، أو طلباً لزيادة رواتبهم ومعاشاتهم، أو على أقصى تقدير إعطائهم العرفان والتقدير الواجب أسوة بالنخبة العسكرية ذات الأصول الأجنبية. مجرد مظالم مهنية. والأقرب إلى الصواب كذلك أن النفسية والعقلية العسكرية الاحترافية يتم تنشئتها عادة بعيداً عن خطوط التماس المباشر مع جموع الشعب ومشاكله وهمومه وقضاياه. لذلك، كانت العقلية العسكرية الاحترافية ولا تزال قاصرة عن بلورة تصور جامع ومتماسك ومعقول عن هموم وقضايا مجتمعها، حتى وهي تعيش في قلبه. هذه مهمة الساسة المدنيين، والضباط المحترفين المنضبطين ليسوا كذلك.

حتى هذه النقطة، نحن في قلب انقلاب عسكري بمعنى الكلمة ولا وجود على الإطلاق لفكرة الثورة، أو إلغاء الملكية وإقامة الجمهورية الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية أو الكرامة أو التحرر أو أي شيء من هذا القبيل. كل ذلك دعاية، أضيفت تالياً وتدريجياً وببطء لخلق صورة وتجميلها. في الواقع، تحرك الضباط حاملين أسلحتهم، قاصدين مفاصل ومراكز السلطة المركزية، وليس في مخيلتهم أكثر من الاحتجاج وجبر الغبن الواقع بحقهم. لم يدر بخلدهم إطلاقاً أن يطيحوا بالملك، وما من مستندات موثوقة بتاريخ سابق على 23 يوليو 1952 تثبت أنهم كانوا قد تباحثوا أو تداولوا في مثل هذه الأمور من قبل. كل المستندات ظهرت فيما بعد، بتواريخ متأخرة. حتى بعد نجاح الحركة المباركة، لم يطالبوا بإسقاط الملك؛ وحتى حين أجبروه على المغادرة، نصبوا مكانه وريثه الشرعي، ابنه، ملكاً عليهم. هذا، يقيناً، يؤكد أن فكرة الجمهورية أو الاشتراكية أو الثورة أو غيرها من شعارات ومبادئ ثورة يوليو لم تخطر لا على بال الضباط الأحرار ولا على بال أي أحزاب أو مراكز قوى أخرى في مصر خلال تلك المرحلة المبكرة. كل ذلك تشكل تدريجياً وببطء، بمرور الزمن وتفاعل الأحداث والمعطيات المحلية والاقليمية والدولية.

هكذا، من دون خطة مسبقة، وجد الضباط الأحرار أنفسهم وجهاً لوجه أمام حكم دولة، دولة كبيرة ومهمة ومؤثرة، عربياً وإقليمياً ودولياً. مأزق. ماذا أنتم فاعلون، حتماً تساءل الضباط فيما بينهم في ذهول. الانقلاب العسكري يستطيع أن يوصلك بسهولة إلى سدة الحكم، لكنه لا يستطيع وحده أن يبقيك فيها أكثر من ربما بضعة أسابيع أو أشهر. صحيح أن أغلب أنظمة الحكم عبر التاريخ قد وصلت إلى السلطة ووطدت حكمها وسيطرتها عبر وسائل القوة، لكنها لا تستطيع أن تعمر طويلاً باستعمال القوة الخام فقط، بل يتعين عليها إعادة تصنيع القوة وتعبئتها وتغليفها في منتجات أخرى متنوعة وعلى درجة من الجاذبية والتماهي مع الذوق العام حتى تؤمن لنفسها درجة معقولة من القبول والرضا العام ومن ثم عدم التمرد ضد حكمها. نحن أمام ما يمكن أن نسميها "مسألة الشرعية". في تثبيت الشرعية، تلعب القوة الغاشمة عنصراً بالغ الأهمية في مراحل النشأة الأولى على الأقل، مع ذلك لا توجد ولا يمكن أن توجد شرعية تعتمد فقط على القوة الغاشمة. حينئذ، ستتمكن قوة أخرى أشد غشماً من طرد النظام الجديد من الحكم بنفس سرعة وصوله إليه وتبدأ لعبة الانقلابات، انقلاب ضد انقلاب. لكن الشرعية، من نوع أو آخر، هي وحدها القادرة على أن تضع نهاية لهذه اللعبة الجهنمية. وكلما اتسعت رقعة الشرعية وتنوعت روافدها كلما تمكن نظام الحكم من توطيد أركانه أعمق في مجتمعه، بسهولة أكثر وثمن أقل.

وماذا تعني الشرعية؟

ببساطة شديدة جداً، معنى الشرعية يكمن في الإجابة على السؤال التالي: "لماذا تحكمنا؟"
إما أن تكون:
- ابن الملك الشرعي وولي عهده الشرعي، ومن ثم قد ورثت منه الحكم وفقاً للأصول المرعية في هذا الشأن؛ أو
- الرئيس المنتخب في انتخابات حرة ونزيهة، ومن ثم انتقلت إليك السلطة والحكم من الرئيس السابق المنتهية ولايته؛ أو
- نائب الزعيم والقائد، خليفته الشرعي والوحيد بناء على تعيين وتذكية شخصية منه قبل وفاته، ومن ثم آلت إليك السلطة والحكم.

إذا لم يكن أي مما سبق، لماذا تحكمناً إذن، ولماذا تنتظر منا أن نطيعك، مع العلم أن ادعاء امتلاك القوة وحدها لا يكفي.

عند هذه النقطة، إما أن يتحول الانقلاب العسكري إلى ثورة شعبية، أو يصبح الأمر مسألة وقت حتى يدبر انقلاب جديد لإزاحة الأول عن سدة الحكم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - زنا محارم
هانى شاكر ( 2021 / 1 / 15 - 21:05 )

زنا محارم
____

الشرعية ( او بالاحرى اللا شرعية ) كانت نتاج التقاء العسكرية الريفية مع محمد حسنين هيكل

هذا المسخ الحرام لابد ان يعيش لمائة سنة او اكثر حتى يتم تدمير مصر كليا و نهائيا

التاريخ لا يعيد نفسه تماما لكن يشبه بعضه البعض كثيرا ... و مصر لم تتعلم الدرس ... انظر خلفك لتاريخ طوله 5000 سنة


تحليلك و كتاباتك رائعة استاذنا

...


2 - ماذا عن
Muwaffak Haddadin ( 2021 / 1 / 15 - 22:03 )
السيد آلشهاوي المحترم
بعد التحية
ماذا عن إذلال الجيش ومحاصرة عبد الناصر ورفاقه في الفلوجة إبان الحرب سنة ١-;-٩-;-٤-;-٨-;-
وماذا عن التدخل الامريكي والتحضير والمساندة لإنقلاب العسكر سنة ١-;-٩-;-٥-;-٢-;-
لعل مقالتك هذه أقرب آلى الخيال المنطقي ما لم تأت بمصادر تثبت وجهة نظرك
موفق حدادين


3 - من نصبهم ليثأروا للهزيمة؟
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي ( 2021 / 1 / 16 - 10:36 )
عزيزي موفق حدادين،
شكراً لمرورك وتعليقك الكريم. قولك صحيح، لكن السؤال: من نصب عبد الناصر ورفاقه للثأر لهزيمة 48 واسترداد كرامة الجيش المصري؟ هم من نصبوا أنفسهم، وبالقوة. لم يكونوا قبل ذلك في موقع الحكام الشرعيين الذين يجب أن يتحملوا المسؤولية، لأنهم كانوا أصحاب القرار. كذلك، لم ينصبهم الشعب المصري لكي يثأروا نيابة عنه
كذلك، هل لو كان صغار القادة في الجيش بعد هزيمة 67 قاموا بانقلاب ضد عبد الناصر نفسه وأزاحوه بالقوة عن الحكم ثأراً لهزيمة مذلة، هل كنت ستسمي ذلك أيضاً -ثورة-؟.
تحياتي،
عبد المجيد الشهاوي


4 - شكرا
على سالم ( 2021 / 1 / 16 - 16:28 )
الشكر لهذه التحليلات المنطقيه الهامه , مصر اكيد جريحه ومنتهكه الكرامه وتعانى وتتألم فى صمت من الذى اصابها من كوارث على يد عصابه الضباط الاحرار الكارثيه , هذه العصابه المأفونه الجاهله الفاسده دمرت مصر تماما وخربتها تماما , مصر قبل انقلاب يوليو البشع كانت من احسن الدول العربيه اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا , اصبحت مصر الان فى ذيل الدول العربيه من حيث الفقر المدقع والتردى والفساد والدمار المروع والذل والهوان , اصبحت فقيره وشحاته وعاجزه ومتسوله وجعانه ذليله , المصرى الان يعمل فى دوله صغيره مثل الاردن وله كفيل يحقره ويشتمه ويعايره بمصريته ويحدث كثيرا ان يضربه بل ويرحله الى بلده , كل الدول العربيه النفطيه لاتحترم العماله المصريه ويعاملوهم بمنتهى الانحطاط والاذلال والاحتقار , موال ضرب العماله المصريه فى دول الخليج اصبح شئ عادى الان خصوصا فى الكويت , لايخلوا شهر ويتلقى عامل مصرى علقه ساخنه ويتم طرده وترحيله , عصابه اللواءات المجرمه المريضه الساديه دمرت مصر

اخر الافلام

.. بايدن يوقع حزم المساعدات الخارجية.. فهل ستمثل دفعة سياسية له


.. شهيد برصاص الاحتلال الإسرائيلي بعد اقتحامها مدينة رام الله ف




.. بايدن يسخر من ترمب ومن -صبغ شعره- خلال حفل انتخابي


.. أب يبكي بحرقة في وداع طفلته التي قتلها القصف الإسرائيلي




.. -الأسوأ في العالم-.. مرض مهاجم أتليتيكو مدريد ألفارو موراتا