الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسباب إنهيار القيم القائدة في المجتمعات الرائدة.

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من خلال دراسة التاريخ الأجتماعي للتحولات الإنسانية الكبرى وخصوصا تلك التي تؤسس لمشروع طويل الأمد أستنادا على رؤية أشبه ما تكون أستجابة للضرورة الوجودية والحتمية التاريخية التي يعيشها هذا المجتمع، نلاحظ دوما موت أي حركة فكرية وأخلاقية وإنسانية وتفقد عزمها الدافع عندما تتحول من صانع قوة في المجتمع إلى صراع قوى داخلها، فتنكفي داخليا من أسباب الأستجابة لشروطها المؤسسة لتناغم وتماري شروط المؤسسين وتناقضهم الطبيعي، وحتى في الأديان جميعا نجدها حاضرة وبقوة ولم تسلم من هذه القاعدة مطلقا، فبمجرد ظهور جيل قيادي مع المؤسس (النبي أو الرسول) تتوالد التناقضات وتتوالد النزاعات بينها (صراع النخب)، ويتحول الجهد الأساسي فيها من الدعوة للقيم العليا وفضائلها إلى الدعوة للقوة وأحكامها، عند هذه النقطة تفترق الحركة عن المجتمع ويذهب بها إلى أقرب مقبرة تأريخية ليولد بدلها أكثر من صور التعويض المشوه أو الناقصة أو المتطرفة أو ما يعرف بالزيف الصوري.
البعض يوعز هذا التحول إلى وجود فايروس أو الباعث الخفي أساسا داخل الفكرة وبيت طياتها، وأخرون يرون أن الطبع البشري المجبول على الخلاف والأختلاف يلعب دورا رئيسيا في شيوع هذه الظاهرة، فيما يرى الواقعيون الماديون منهم أن تطور الأفكار وخروجها من عباءة المولد الأول لا بد أن تتلاقح مع البيئة الأجتماعية التي هي أساسا محل تناقض والحاضن الطبيعي له، وبالتالي لا يمكن تصور أن تجري الأفكار من منبعها إلى أي مكان أخر ما لم تحمل أثرا مما جرت فيه، الأفكار مثل الأنهار تحمل ما تلقى أمامها من مؤثرات سواء أكانت صالحة أو غير ذلك، لأن المجرى الذي تجري فيه يوجب عليها أن تكون كذلك، ويؤسس الواقعيون الماديون على هذا المثل تفسيراتهم غير أني أتخيل الواقع الإنساني ليس دوما سيئا بهذه الدرجة وفيه من الإيجابيات ما كان يجب على الفكر أن يحملها معه ليزيد من رصيده، فلماذا دوما يحمل الشيء السالب والأختلاف الضار أكثر؟.
فيما يرى من تقدم ذكرهم أن الأمر الذي نتكلم عنه من سنخ الطبيعة البشرية ولا يخرج عنها وعن أشتراطاتها، أرى أن الأمر ليس في هذه البساطة وليست طبيعية بشكل كامل خارج صراع الإنسان ذاته من أجل الأنا البسيطة لديه، الأنا الملتصقة بوجوده والمتفرعة من إحساسه الذاتي أنه جزء مفترضا أن لا يكون مسيرا من الواقع، قد يكون ذلك بسبب تمرده الفطري على قوانين الوجود والتي أستشعر منها الغربة وأستشعر منها حق التجاوز، وولدت في داخله حالة التفوق المقارن مع الغير، فهو دوما يرى أنه أفضل ممن أستوعب الفكرة والأجدر بأن يبسط هذا الفهم على المجموع، دون أن يلاحظ في ذات الوقت أن هذه الإشكالية ليست فريدة مخصوصة له، بل هي نسق سلوكي شعوري وعقلي عند الجميع، وبالتالي عليه أن يستوعب هذا الميل الطبيعي ويحاول أن يجد المشتركات البينية مع الأخر، الفشل هذا هو من يقود إلى الخلاف والأختلاف، والتمسك بالحق الذاتي الشعوري النسبي هو من يؤسس للإختلاف المدمر للفكرة ومدمر لسيرورتها الطبيعية.
الفكر أو مجموعة المبادئ في ولادتها تمتلك أفق حر يجعلها أن تنتقل من عقل لعقل أخر بشرط أن يكون هناك ميل نسبي مشترك نحو أسس المبدأ أو أسس الفكر، فلة تشارك شخصان بفكرة واحدة قد يكون بينهما نسبة توافق عالية سرعان ما يجتمعان عليها، وسرعان ما يعملان لأجل نشرها بين من يتشاركون في التوافق هذا، الشخص مثلا (أ) لدية نسبة توافق بمقدار 70% مع المؤسس أو الداعي أو المنظر، حينما يتشارك أيضا مع الشخص (ب) والذي لديه نسبة 70% مع الشخص (أ) ويعملان سويا، فهذا لا يعني أن الشخص (ب) متوافق بنفس النسبة مع الداعي أو المؤسس، والحقيقة قد تكون نسبة التماثل أو المشاركة معه هي 49%، إذا الموضوعية في انظر لهذه العلاقة ترينا حقيقة أنه كلما تشارك الناس في نقطة التقاء بنسب متفاوتة ومختلفة كلما قل التماثل والمطابقة بينهم، بالتالي فالافتراق حتمي والأختلاف مؤكد يرجع في سببه لطبيعة الإنسان وتحكمات الأنا فيه وقواعد التأسيس ومقدماته الفكرية.
النقطة الأهم في ما أرى لكي يكون للفكر أو المبادئ المثالية كي تستمر وفق منهج الإنطلاق هو ضرورة الفصل بين الفكرة والشخصنة، فمهما كانت المبادئ نبيلة وذات روح ومنهج إنساني يسمو بها عندما تقترن بشخصنة ما سواء من ناحية إسقاط ما فيها على واقه وسيرورة الفكرة سوف تنحاز بشكل مؤكد نحو الحاضر الأقوى والمؤثر الأكبر، في الديانات مثلا كان تأثير الرسل والأنبياء والمصلحين مساويا بالقدر مع روح الفكرة ويسيران معا نحو الغائية التي أتت من أجلها الفكرة، ذلك لتطابق الموضوعين في التوجه والهدف وحتى في الماركسية مثلا في مراحل النشأة والتأسيس سارت وفق هذا القانون بالرغم من أنها تختلف عن الدين من ناحية أن الأولى كانت تجاربية تراكمية تتأثر في واقع سيرورتها مع الأفكار وشروك الواقع والتجربة البشرية، في حين أن الدين أقل تأثرا بالماحول وأمتلاكه رؤية تكاد تكون مكتملة إلا ما تحتاجه في الولادة من أثر التجربة.
هذا الفصل وخاصة بغياب المؤسس بساهم وبشكل أكيد في صيانة الفكرة من إسقاطا الشخصنة عليها وتأثرها بالقوة الفردية المتزعمة، لأن الوافد الجديد للزعامة والذي يقود الحركة لم يكن بأي حال من الأحوال نسخة طبق الأصل من المنشئ ولا يمكن أن يكون مهما كان متأثرا أو منحازا لها، وهنا تبدأ الفكرة بالنكوص نحو الخلف لتتقدم رؤية معدلة وذات مواصفات قد تبتعد قليلا أو كثيرا عن أصلها التأريخي، وبالتراكم ومع قوة الأنا المتشخصنة في فرض رؤيتها نكون قد بدأنا في مرحلة أخرى منها، لذا سنرى أثر شخصية القائد الجديد وطريقة قيادة تختلف ربما عن الأصل وإن كان طبيعيا أن تتطور الفكرة كلما زاد التعامل معها وتجسيدها واقعا، لكن بشرط واحد هو أن لا عودة للوراء، نعن التطور ممكن والتحديث واجب وأثر النتيجة مهم في رسم السيرورة والصيرورة لكن من روح الفكرة وليست من روح الفرد بمعزل عن حتمية التقدم للأمام أو التفوق على الفكرة ذاتها بالجديد المساير لروح التغيير المضطرد.
من هنا يمكننا أن نحكم لماذا نشهد مع كل ولادة فكرية أو مبدئية مرحلة إنتكاسة والسبب يعود في تقديري هو الميل البشري الطبيعي عند كل الأفراد، النخب القائدة والمجموع المتبع، الأول يريد أن تكون الفكرة خادمة لشخصه من خلال الإيحاء بأن الفكر برجاله لا بمبادئه، ومن الثانية هوس العقل الجمعي الذي يستقطب الحشد والتأييد لمركز القوة دون أن يحسب لحساب النتائج، وبالمجمل فعنصر القوة سواء أكانت مادية أو نوعية أعتبارية هي الأساس الفعلي لكل حركة تتراجع عن تقليد القيم والسير نحو هدفها كمفعلة بأستحقاقها على الواقع لا بأستحقاقات الفكر عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة