الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأساة ( حربونة ) … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 16
الادب والفن


فتاة مسكينه بنصف عقل ، ونصف جنون .. لم يكن احد يعرف لها اسماً محدداً ، والكل كان يناديها باسم غريب لا معنى له .. مجرد حروف مبعثرة خالية من اي قيمة ، لكنها معروفة بهذا الاسم على اي حال ( حربونة ) .. ربما على سبيل التندر او الاحتقار او قد يكون هذا هو اسمها الحقيقي ، فاهلها كلهم متخلفون ، وبانصاف عقول .. قد يعتبرون هذا اللملوم من الحروف اسماً … !
لا يمكن اعتبارها من فصيلة السويين ، والعقلاء ، ولا يمكن اعتبارها من النصف الثاني من البشر من مجانين ، ومسلوبي العقول نهائياً .. مسالمة ، وغير مؤذية اشبه بالخرساء ، وعندما تلفظ كليمات قليلة بصعوبة واضحة يخرج من فمها لعاب يغطي كل فمها ، ويفيض على صدرها .. تبذل جهداً كي تتجنب عفاريت الحي المؤذين من صبيان ، واطفال !
تعيش مع اسرتها التي تكالب عليها الزمن والجوع والعوق .. لا اعرف اذا كانوا أمها ، وابوها أحياء .. اخوانها منهم من هو ضرير ، ومنهم من هو متخلف ، ومنهم من هو منطوي على نفسه لا تفهم منه شيئاً ، وهكذا .. يبدو انه مرض وراثي قد هجم على هذه الاسرة المسكينة ، وفتك بها فذّرها بين مجنون ، ومهبول ، ومعوق .. يعيشون على الصدقة ، ولا يعرف لهم مصدر رزق يمدهم بسبل الحياة الضرورية ، الا هذا المصدر الذي يتراوح بين من يعطيهم نقدا ، وبين من يجود بما يفيض من مائدته الشحيحة من طعام تعافه النفس ، وأسمال بالية تفيض عن حاجتة ، فالناس في ذلك الزمان كان جُلهم من الفقراء ، والمعوزين … !
لا يحاسبها احد من اهل الحي على تصرفاتها ، ولا احد يبالي بها اين تذهب ، ومن اين تأتي .. تهيم على وجهها كل يوم كالمترنح .. تاركةً قدميها للطريق تقودانها من شارع لشارع ، ومن زقاق لآخر ، كانت الاوحال ، والقاذورات تملأ تلك الطرقات عندما كانت تخوض فيها بحثاً عن سبيل لا تعرف له من طريق ، وكأنها تخوض في المجهول .. وتسرح كما تسرح الهوام .. تذهب حيث يوحي لها نصف عقلها السليم او المعطوب ، لا فرق .. لا تعرف شيئاً عما يحيط بها من بشر ، ولا تفهم من الدنيا شيئاً .. وتغدو في الوقت الذي تقودها به خطواتها بارادتها ام بدونها .. وهكذا تستمر حياتها ان جاز لنا اعتبارها حياة ! غريبة .. لا يمكن لاحد ان يفهم سر هذا الحرص ، والتمسك الغريب عند الانسان في ان يعيش حياةً لا تستحق أصلاً ان تُعاش !
ومن سخريات القدر النادرة ان يأتي يوم يُصدم فيه اهل الحي صدمة شديدة عندما يشاهدون حربونة ، وقد اصبحت حامل .. لم يصدق الناس ما يرونه من انتفاخ واضح في بطنها ، وتغييراً فسيولوجياً قد طرأ عليها كأية امرأة أُخرى .. يجتمع أخيار الحي ، والدهشة ، والصدمة تكاد تُلحقهم بحربونة ، وأهلها .. هل يعقل ان انساناً في رأسه ذرة من عقل تغريه حربونة ، فيعمل معها هذا العمل الدنئ ، ويزرع بذرته الشيطانية في احشائها ، ويغرز هذا الألم في لحم هذه المسكينة ؟ يتسربل الجو بالقتامة ، ويهدد من يهدد ، ويزبد من يزبد على من عمل هذا العمل ، وأعتدى على شرف الحي ، باعتدائه على شرف حربونة .. فهم يعتبرونها منهم وبهم ! وتتلوى الألسنة هامسةً .. منها الساخر ، ومنها المتألم بصدق ، ومنها من يكتم فيضان غضبه ، ويتوعد بالانتقام من الوغد المجهول !
زاد التعاطف معها من رقيقي القلوب خاصة من نساء الحي ، فابدوا الاستعداد لحمايتها ، ومساعدتها حتى يأتي ذلك اليوم الحتمي ، وتلد به .. اما هي فقد بدأت تراقب بطنها ، وهي تنمو ببطء .. تحدق فيها متفحصةً .. تتحسسها ، ولا تفهم من هذا التغيير الذي يجرى لها شيئاً ، ولا تدري ماذا تفعل .. باتت تقضي جُل وقتها في النوم ، والخمول ، والكسل عكس عادتها .. !
وفي الهزيع الأخير من ذات ليلة ، أحست به ، وهو يلكز جدار بطنها من الداخل .. تستيقظ ، وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة الفارقة في حياة أية امرأة .. كادت ان تفقد النصف العاقل المتبقي لها ، تضحك لهذه الحركة .. يرقص الفرح في قلبها الواهن الطيب طرباً .. كأنها بدءت تفهم شيئاً ، وعندما تهدء الحركة في أحشائها ، وتستكين .. تصرخ بفزع ، ثم تبكي بحرقة ، وتستمر في البكاء ، وكأنها ترثي نفسها او تريد ارسال صوتها له كي يرجع ، ويمارس حركته العفوية ليسعد هذا الكائن المرتبط به برباط المشيمة الدموي .. ربما تتصور انه مات ، وتبقى تنتظر ، وهي تبكي احيانا ، وتضحك احياناً اخرى عندما تداعب ذكرى حركته خيالها الذي لم يمسه العطب .. حتى تعود الحركة او تتعب ، وتمل .. مرتطمةً بالواقع المرير .. فتنام رغماً عنها ، ولا احد يدري ماذا يدور في عقلها ، وتفكيرها في تلك اللحظات النادرة من حياتها اذا كانت تملك شيئاً من الاثنين .. احياناً يُخيل لنصف عقلها السليم انها تسمع صوت انفاسه تتكرر بانتظام ، وهو متكور بداخلها .. فتضحك كأنها تبكي … !
ويستمر هذا الجنين الضحية في النمو خليةً بعد خلية ، وعصباً بعد عصب كأي انسان آخر .. متخطيا الفوارق بينه ، وبين بقية البشر ، وكأنه يصرخ مطالبا بحقه هذه المرة من الخالق ، ومن البشر باحتسابه انساناً أُسوةً ببقية البشر ! وتندفع الأحداث مترهلة لا معنى لها .. وتتزحزح الشهور ببطء كأنها جبال عنيدة ، ويأتي اليوم المنتظر ، والذي لابد منه …
ذات فجر تحين تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة ، والموت .. اللحظة التي تجئ بها تلك الهبة السخية التي جاد بها الزمان .. بقايا النجوم الضالة ، والباهتة من ذلك الفجر تُحدِّق في كوخ حربونة ببلاهة ودهشة وترقب .. كان ألماً يُذيب الحجر ، يغمر جسدها كالمد الثائر في موجات متعاقبة تتكسر على شواطئ العدم لتعقبها أُخرى .. ينتفض جسدها الهزيل انتفاضة المحتضر .. صراخها يجعل كل ذرة من الكون تتلوى ألماً .. أي ألم وأي ظلم هذا الذي يفيض به هذا الكون ؟! يبدو أن اليوم المؤمل أن يستقيم فيه ميزان العدالة .. لن يأتي أبداً … !
يُسرع الناس لاستدعاء ( الجدة ) التي ولّدت كل ابناء الحي تقريبا .. تأتي مسرعةً وهي تحمل جسدها العجوز ، والثقيل بصعوبة ، وتباشر عملها المضني ، وبعد جهد جهيد .. تسحبه من رحم حربونه النازف المتهالك .. لحم وردي تغطيه سوائل لزجة فيه سخونة الحياة .. تتلقف يدي الجدة قطعة اللحم الطرية هذه مثل هبة سخية جاد بها الزمان والمكان .. تقطع حبل المشيمة ، وتحررهما معا من ذلك الرباط الدموي .. تضربه على ظهره فينتفض صارخا .. محتجاً !
لم تستطع الجدة بامكانياتها البدائية من ايقاف النزيف في جسدٍ ضعيف لا يمتلك من مقومات القوة لمواجهة هكذا دور غير متوقع في الحياة ، فيستقطر الوهن جسدها قطرة قطرة .. تنتشر نُتفٌ من سحب سوداء قاتمة في غير زمانها في سماء الحي …
ولما أزفت الساعة طرقها الموت بهدوء ولطف ورحمة نادرة ، فمال رأسها الناحية الأخرى لائذاً بالصمت الأبدي .. أغمضت الجدة عيني حربونة الى الابد ، وهي تشد على محابس دموعها .. غافلتها دمعة خائنة فنزلت .. اعقبتها أُخرى ، ثم جريان .. وهكذا انطفأت حياة من كانت بلا حياة .. ترحل حربونة عن الدنيا التي لم تُنصفها يوماً .. دون ان ترى من كان يلكزها من داخل احشائها … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة