الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شتاء المحرق 1940

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2021 / 1 / 17
الادب والفن


المكان-مدينة المحرق-الوقت-ليلاً-الزمان 1940
من رواية "عناقيد الثلج"
ليلُ مدينة المحرق، بيوتُها وأزقتُها، سواحلُها وطرقاتُها، روائحها، أنفاسُ سكانها، بهائِمُها الضالّة، تَغصُّ وقت المطر، تخْتبئُ الخَطيئة بين كلّ هذه الدهاليز المُكتظَّة بالأسرارِ، مثل مدينةٍ خُرافية في مجَرّةٍ أسطورية بالكونِ الشاسع، رغم صغرها وضيقها، ومع سِياجها الذي يُكبِلُها عن بقية البلاد، تظلُّ مُزدَحمَةً بالبشرِ والبهائم والحوادث والخطايا التي تتَخَفى داخل البيوت التي تبدو للوَهلَةِ الأولى كأنها نائِمة، ولكنها مُتيقِّظَة بالأسرارِ، بيوتٌ صغيرةٌ، مُعْدِمة، مُتناثِرة بين أطرافِ المدينة الغامِضة وهي تحْتَضِن أطياف البشر الذين يخْتَبئون، يَتصرفُون بوحيٍ من انفعالاتٍ وعواطفٍ تُحرِكُها دوْرَة الحياة المشُوبَة بالمعاناة والألم والحزن، لا شيء يُنْبئُ عن نهايةٍ لخطواتِ هؤلاء البشر وإلى أين تقودهم خطواتهم ولكنهم رغم عَدَم معرِفتهم بالطريق إلا أنهم مسْتمرين في السيرِ؟ لا غرابةَ في أن ترى الفَقْرُ مع الاِبتسامة، والألم مع الضَحْكَة، يتشبَثُون بالحياةِ وكأنها ستَختَفي بعد ساعة زمن، يقْتنِصون الْلُقمَة من أفواهِ بعضهم البعض لشدّةِ العَوزُ، يسْتغربون من بعضِهم كيف يحْيُّيون وهم لا يأكلون بالأيام...؟ ومع كلّ هذه الضائِقة يجدونَ الوقت ويتَضاجَعون، ومن لم يجد امرأةً يبحثُ عن مثِيل لهُ، ومن لم تجد رجلاً تُفتِشُ عن مَثيلَة لها، وفي النهايةِ يُفْرِغون شهواتهم حتى لا يختَنقون، حتى الفَقرُ يحْتمِلونهُ والجوع يَصْبِرون عليه، ولكنهم يجِنُّون لو لم يُفْرغوا شَبَقهُم في أيِ جحْرٍ يُصادِفونهُ، هذا هو ليلُ المحرق، يضِجُ بالآهاتِ والتنهدات وزفرات الشهوات التي تَسْمَعَها مُنْبعِثة من شقوقِ المنازل المُتصَدِعة ومن فتحاتِ النوافذ، لا يَخفُون تلك الآهات لأنها تَفْلتُ منهم دون إرادَة، ويعرفون عن بعضهم بعضًا تلك الأسرار ويتجاهلُونها. تلك هي مدينةُ المحرق الجاهليّة الغامِضَة.
كان تفكير جوري وإدريس، وكلّ منهما بعيدٌ عن عقلِ الآخر، في تلك الهُمُوم التي يتقاسَمُها الجميع تحت سقوف البيوت الآيل بعضُها للسقوطِ، والمُتصَدِعة، والمُكتظَّة بالبشرِ رغم صغر حجمها، لا تخْتلفُ حياة الاثنين عن حياةِ الآلاف من سكانِ المدينة، فالغالبيةُ العُظمى وهي تعيشُ داخل بيوتِ العريش وأكواخ التَنَك ومنازل الطين، تتَوَحَّد همومها مع الطعام الذي اِنْعدَم، والمطارَحات الجسدية المُتبايِنَة الرغَبات والشهوات، يُوَحِّدَهم المطر عندما يحْتجِزهُم بين الجدّران، وتَجمَعهُم المقاهي والسواحل والأزِقَّة حتى بأيامِ البرد، لا تُوجد مدينةٌ بالدنيا يفْترِشُ سُكانها السواحل ومراسي البحر، كمدينةِ المحرق، فهناك ارْتباطٌ عضوي لا ينفصم بينهم وبين البحر، سواء من ركبَ الموج، وأبْحرَ للغوصِ أو بصيدِ السّمك، أو بمن عشِقَ منظر البحر واسْتأنَس الجلوسِ أو الوقوف عنده وتأمّلهُ، حتى أن بعضهم كانوا يخاطبونهُ بالسرِّ في أعماقهم كما لو يفْضفِضون لكائنٍ حيٍ يسْمعهُم...بحرُ المحرق سَكنَ في داخلهم فأضْحوا مثل الأسماك تغوص فيه، لا يتَخيَّل أحدهُم أنه سَيسْكن بعيدًا عن البحر، وإن لم يتَوَفَّر له مكان هناك، دأبَ على الخروجِ يوميًا للصلاةِ والركوع عند سواحله ومرافئه المُتعَدِّدة على أطرافِ المدينة، فالمحرق يَحفُها البحر من كافةِ نواحيها، وهي أشبهُ بغيْمةٍ في كبدِ كوْمَة من السحابِ تسبحُ فيه...جاء المطر ولم يتَوَقفْ فأغرقَ المدينة بالماءِ وكأنها لم تكْتفِ بمياهِ البحر، المطر أضافَ إليها، وابلاً من الماء، فحُوصِرَ الناس في منازِلهم ولم يخرجوا إلا حين غَرقتْ بيوتهُم في الماء، فتَوجهوا للسُكنى في بيوتِ أقاربهم أو مع جيرانهم الذين اسْتَضافوهُم رغمًا عنهم حينًا وبإرادتهم حينًا آخر...لم تجد جوري وإدريس مناصًا من البقاءِ في المنزلِ ونزْفِ المياه منه، فالمرأة التي تزوجتْ في البدايةِ من صالح لم تجد معهُ أسْرَة تحْضُنها وكذلك حينمّا اقتَرنتْ بالآخر، إدريس لم تلق معه الأهل ليُطوِقُها، وهي ذاتُها لم تحْفظْ لها جيرانًا تلجأ إليهم وقت الشدّة، فقد سَبقَتْها سُمعتُها السيئة في الحيِ كلهُ لتجعل منها امرأةً منْبوذَةً.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج