الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى عصر الرعب: البرج العاشر

دلور ميقري

2021 / 1 / 17
الادب والفن


1
برغم ما يحيطها من الجواري، علاوة على الوجود الدائم للطواشي، فإن بيهان سلطانة كانت تشعر بالوحدة والوحشة في هذه البيداء، الشبيهة بسرابٍ لا نهائيّ، مشئوم. أساساً، كانت فكرتها أن تسافر إلى الحجاز بحراً، كونها سمعت عما يكابده الحاج في خلال الطريق من مشاق وأخطار. لكن شقيقها، سلطان الكون، حَمَلها على تغيير رأيها، بالنظر إلى أن البحر لم يعُد مأموناً، وذلك عقبَ تنامي قوة الكفّار؛ بالأخص الأسطولين البرتغاليّ والإسبانيّ، عدا عن سفن القراصنة. سُمح لها، حَسْب، بركوب السفينة إلى بيروت على أن تنضمّ إلى المحمل الشريف في دمشق.
عند وصولها إلى الولاية السورية، كانت تظنّ أنها سترى لأول مرة العربَ، الذين تعرّفت إلى أشكالهم ولباسهم من خلال منمنمات متقنة، زيّنت صفحاتِ الكتب، المهداة إليها من لدُن قنصل البندقية. حقّ لها أن تُدهشَ على أثر جولةٍ في سوق بيروت، لما لحظت أن السكانَ رجالاً ونساءً يتمتعون بالوسامة والأناقة كأندادهم الفرنجة. هذا تأكّدت منه أكثر في الشام الشريف، وكانت إلى ذلك مدينةً جديرةً بما أشتهرت به حينَ شُبّهت بالفردوس السماويّ: ما لم يكن يدورُ في خلدها قط، أنها ستضطر إلى المكوث في هذه المدينة، عقبَ عودتها من الحجاز، لكي تضحي قرينةً لواليها؛ لمن كان المُتسبّب بما حل بقافلة الحج من نهب وسلب وسبي واستباحة.

علاماتُ المصير المفجع للقافلة، عليها كان أن ترتسم على سحنة الوالي، المتسنّم أيضاً وظيفةَ أمير الحج. ذلك ما عاينته بيهان سلطانة، غبَّ حضور قائد حامية مدينة تبوك كي يُنذر الباشا بوجود تحركات مريبة لقبيلة حرب، المعروفة بتاريخها في قطع طريق الحاج. بيد أنّ الباشا لم ينصت لنصيحة القائد، بضرورة مفاوضة زعيم القبيلة المارقة، والتي تنتهي عادةً بتقديم رشوةٍ مُجزية له. هذه المعلومة الأخيرة، لم تصل لسمع السلطانة سوى في قلعة تبوك، عندما أطلق الأعرابُ سراحها بعد أيام ثلاثة من الأسر. مع أنّ أمير القافلة دأبَ على أخذ مشورتها في خلال الرحلة، بالأخص عندما أخبرها بقراره سلك الطريق المُحاذي للبحر بهدف تجنّب الإحتكاك بقبائل المنطقة، الكائنة إلى الجنوب من تبوك.
هكذا ابتعدوا عن المدينة بمسافة يوم، لما حط بهم الرحال في واحةٍ فسيحة، حافلة بالأشجار والنباتات والحيوانات البرية والطيور، المُدينة حيواتها لوجود عين ماء، تتفجّرُ بالمعين العذب والبارد. لقد مروا قبلاً، ولا شك، بواحاتٍ عدّة، لكن أياً منها ما كان بجمال وثراء هذا المكان، المذكّر المسافرين بالفردوس، الذي غادروه في مبتدأ الرحلة. هنالك في الواحة، تحت ظلال أيكة من النخيل، عادوا ونصبوا خيمة السلطانة، وكانت هيَ الأخرى مصممة بحيث تشعر مَن تحل فيها أنها في حجرة نومها بالقصر: لن يقّدر لها، هذه المرة، الرقادُ في سلامٍ ودِعَة وسط الطبيعة الخلّابة والوادعة. كانوا معتادين على النوم نهاراً والمسير ليلاً، للتخفيف من مشاق الرحلة تحت شمس الصحراء الحارقة. وإنما في مستهل ذلك الفجر الجميل، إختارَ الأعرابُ ساعةَ الهجوم على القافلة، المستغرق جلّ أفرادها في النوم.

" المعسكر داهمه البدو، وعليكِ ألا تغادري الخيمة من أجل سلامتك "، خاطبها الطواشي غبَّ افاقتها من النوم على أصوات إطلاق النار وصرخات المهاجمين. ثم أعقبَ حكيم، بأن نصحها بالتمدد هيَ وجواريها الثلاث على الأرضية، المفروشة بالزرابي، بهدف الحماية من الطلقات. ولم تعُد مرة أخرى ترى خادمها المخلص، لحين خلاصها من الأسر. هنالك، في قلعة تبوك، قصّت عليه بالتفصيل واقعة الاستباحة والسبي، المعقّبة انهيار مقاومة المدافعين عن المعسكر. قبل ذلك، سمعت أولاً بأول عما يفعله الأعرابُ بنساء القافلة من هتك لحرماتهن، بحثاً عن الحلي والمجوهرات. وما أسرعَ وصول الدور إلى خيمتها، بمجرد أن توقفت أصوات تبادل إطلاق النار. ثلة من المهاجمين، حضروا لإصطحاب الجواري الثلاث إلى خارج الخيمة. في المقابل، تركوها لوحدها بعدما ألقوا على هيئتها نظراتٍ، تتسم بالفضول والجشع والشبق.
" أخبري سيّدتك، أنها ستكون في أمان طالما أذعنت لأوامري "، خاطبَ الرجلُ إحدى جواري السلطانة وكانت تُجيد العربية. كانت السلطانة ما تفتأ وحيدة في الخيمة، لما حضرَ هذا البدويّ الأربعينيّ، المتّسم في آنٍ معاً بالملامح الشرسة والطلعة المهيبة. لاحقاً، عليها كان أن تعلم بأنه الشيخ صخر، زعيم القبيلة المارقة. أُخرجت بدَورها من الخيمة، يحيق بها الرجال الأشرار، لتجد نفسها أمام حصانٍ تلوح عليه أمارات الأصالة والقوة والبهاء. عندئذٍ، طلبوا من تلك الجارية أن تكون في ركب سيّدتها. وما لبثَ الجميع أن ساروا ليغادروا الواحة، المتناثر في أنحائها جثث رجال ونساء القافلة، التي تركتُ في العراء كي تمسي فريسةً لوحوش الصحراء.

2
على أثر إطلاق سراحها ومن ثم عودتها إلى دمشق، ظلت ذكرياتُ الرحلة المشئومة يقظةً في رأس بيهان سلطانة، الجميل. وكثيراً ما تداخلت الصحراء في أحلامها، لتجوس من خلالها عبرَ الكثبان الرملية والفيافي المقفرة، وهيَ مستعبدة تقودُ حصاناً حراً، يتطاير عرفه في الهواء الحار بينما سنابكه تصدر إيقاعاً ثابتاً فوق الأرض المجدبة، لتثير الغبارَ وتنثر الحصى على طول الطريق. كانت الحقيقة تتداخل مع الحلم، ما يجعلها أحياناً نهباً للهذيان بحيث تعتقد أنّ ما عاشته في أيام السبي والأسر لم يكن سوى تضاعيف الكابوس. لحين أن انتابتها حالاتٌ مرضية، جعلتها تدرك أن ثمة حياةً جديدة تتحرك في أحشائها. في البدء، كذّبت ظنونها بالنظر إلى أنها تزوجت عدة مرات ولم تحظ بذريّة في أيّ منها. لكن مع مرور الأيام، استسلمت لقدرها. وكان ذلك بالنسبة إليها قدراً ظالماً، عندما تفكّرُ بالرجل الكريه، المنتسب إليه حملُ رحمها. إلى أن أعتادت طردَ هكذا فكرة، بالقول في نفسها: " كل الرجال، الذين أرتبطت بهم، كانواً سواءً لناحية الإنتهاك والإغتصاب ".
مع إقتراب نذُر الفضيحة والعار، لم تجد بيهان مناصاً من الكتابة إلى شقيقها السلطان، ملتمسةً المشورة للخلاص من المأزق. أخبرته أيضاً أنها جرّبت عبثاً كل الوسائل، لإسقاط الجنين. بقيتُ تنتظرُ الجوابَ، وكانت في أثناء ذلك تتصوّر ردة فعل سلطان الكون، وأن غضبه العارم قد يفضي إلى الأمر بالقضاء عليها بوساطة السم أو بوسيلة مماثلة، خفيّة. هذا، مع علمها بمكانتها الكبيرة في قلبه حتى لقد جعلها المشرفة على حريم قصر الباب العالي برغم وجود زوجاته. من ناحيتها، كان تعدّ عقوبةَ الموت تكفيراً عن آثامها والتي كانت من الكثرة أن دفعتها للذهاب إلى الحجاز كي تؤدي فريضة الحج. أبرز ضحاياها، كانوا أطفال شقيقها السلطان نفسه، الذين قضوا بالسم من أجل الحفاظ على حياة بقية اشقائها الأمراء. كذلك عاشت مع أفكارها وهواجسها، لحين أن علمت يوماً بمجيء الدفتردار من الأستانة، لكي يَجرُد ممتلكات الوالي السابق في دمشق: فوجئت عندئذٍ بفرمان السلطان، القاضي بتزويجها لباشا الشام؛ لمَن كان مثلها سواءً بسواء، يتوقّعُ إعدامه جزاء ما جرى للمحمل الشريف.

منذ اليوم الأول، المتعيّن عليها أن تقضيه تحت سقف الباشا، أفهمته بكلمات واضحة أن قرانهما محضُ شكليّ. شأن أزواجها السابقين، كان الرجلُ يكبرها بأعوام كثيرة. عليه كان أيضاً أن يطلّق زوجاته الأربع، اللواتي أنجب منهن العديد من الأولاد، علاوة على تسريح جواريه بالبيع أو الإهداء. هذه كانت ضريبة الاقتران بإحدى أميرات آل عثمان، وأيّ علاقة غير شرعية تؤدي حتماً إلى الطلاق وربما أيضاً لإعدام الزوج. منذ أن كانت بيهان سلطانة في الحادية عشرة من عُمرها، كانت مفعمة بنظرة كلها غطرسة وتكبّر إزاء قرينها؛ برغم أنه كان بوظيفة الصدر الأعظم. لقد علموها أن دمها عثمانيّ، وأن الآخرينَ مجرد عبيد مهما علا شأنهم. هذا مع حقيقة، أن السلالة العثمانية تدين بعددها الكبير لذرية نسائها لا لذرية رجالها. فبحسب ذلك القانون الآخر، الأكثر صرامة والذي شرّعه محمد الفاتح، يجب أن يبقى على قيد الحياة، حَسْب، السلطانُ الجالس على العرش. فكأنما هوَ ربّ الكون ـ أستغفر الله ـ لا يقبل وجود أحد إلى جانبه. فمهما كان عدد أولاد السلطان السابق، ولو كانوا أطفالاً رضّع، فإن أرواحهم تُنتزع منهم حالما يولد للسلطان الجديد وليّ للعهد.
مشاعر الهدوء والدِعَة والسكينة، عادت إلى نفس بيهان سلطانة عقبَ عقد قرانها على مورلي باشا. إلى ذلك، كانت سعيدة بوجودها في مدينة دمشق، التي صارت تتعشّقها شيئاً فشيئاً مع إكتشافها لما تحظى به من سحر إن كان لناحية الطبيعة أو العمران. جولاتها في الأسواق، وكانت في أثناء ذلك تسير متنكّرة، جعلتها توقن بانّ سكان هذه الحاضرة لا يقلون سحراً مع الكثير من الرقي والتهذيب. غبَّ زيارتها ذات يوم للتكية السليمانية، قالت لمرافقها الطواشي: " أرغبُ لو يُتاح لي الإقتداء بجدّ أجدادي، السلطان سليمان، فأبني في دمشق عمارة دينية مماثلة وأجعل لها أوقافاً مناسبة ". ثم أضافت، بينما تسرح ببصرها إلى ناحية السلسلة الجبلية: " ولو أنني متّ، يا حكيم، فلن أجد مكاناً يضم جدثي أفضل من تربة الشام الشريف وتحت قبّة مسجدٍ يحملُ اسمي ". لكنها مع تقدّم مراحل حمل بطنها، صارت تلازم القصرَ في غالب الوقت. حتى التفكير بالولادة، الملتبسة، لم يعُد همّاً بالنسبة إليها: إنها ستضعُ الطفلَ، بزعم أنها أنجبته للباشا في شهرها السابع. لقد غلبت عليها مشاعرُ الأمومة، بحيث غضّت فكرها تماماً عمن يكون الأب الحقيقيّ للطفل.

ما لم تكن تعلمه بيهان، أن شقيقها السلطان قد قررَ مصيرَ الوليد. إنه أبلغَ قراره شخصياً للدفتردار، الذي نقل الأمرَ بدَوره إلى مورلي باشا. هذا الأخير، ارتاحَ للتدبير برغم أنه سبقَ وتلقى التهاني بمناسبة حبل امرأته. بالطبع، لم تجد هيَ حاجةً لخداع الباشا، طالما أن زواجهما كان للتغطية على حمل السفاح. لكنها ما تصوّرت قط، أنه متواطؤ في تدبيرٍ هادفٍ للتخلّص من المولود حالما يبصر هذا نورَ الحياة. بل إنها من أجل حمل بطنها، غيّرت من معاملتها للباشا؛ كأن تسمح له بمرافقتها في جولة بالحديقة نهاراً، أو بقبول صحبته في خلال السهرة. بيد أن جسديهما، بقيا غريبين عن بعضهما البعض. كانت تشعر بمعاناته من هذه الناحية، وتودّ حقاً لو تعتقه من ربقة القانون الصارم، الذي يمنعه من إتخاذ جاريةٍ كعشيقة. فاتحته بالأمر ذاتَ مساء، وكانا قد أنهيا للتو عشاءهما.
رد بالقول في نبرة حزينة، مقهوراً على كرامته: " لِمَ سنلجأ إلى مخالفة القانون، وفي وسعنا أن نتعاشر كزوجين مثلما تشدد عليه الشريعة؟ ". هذا، كان آخر ما تود سماعه. فأوصدت سبيلَ الجدال، وذلك بنهوضها للمغادرة إلى جناحها الخاص.

3
شاء القدَرُ أن يتدخل مرة أخرى، خلافاً للتدبير المعدّ من لدُن بيهان سلطانة. كانت الأيام الأولى للخريف ما تفتأ حارّة، لما فوجئت في إحداها بنذُر الوضع. " إذاً سـأنجبُ حقاً في شهري السابع، وليكن ما يكون "، كذلك أسرّت لمرافقها الطواشي وكان الوقتُ على مشارف الغروب. ثم أرسلته كي يبلغ طبيبةَ القصر، للتحضير لعملية الولادة. هذه المرأة، المسنّة نوعاً ما، عليها كانَ التفكير في خلال الطريق بحساباتها، المتعلقة بحمل السلطانة، لتتيقّن من استحالة وجود حالة ولادة وشيكة. لما أفضت بذلك لحكيم، فإنه ردّ بنبرة صارمة تتبطّنُ التهديدَ: " قومي بواجبك، ولا حاجة للثرثرة الآن ولا في أيّ وقت ". طأطأت رأسها، بحركة انصياع، وكانت مدهوشة في المقابل من ردّة فعله غير المفهومة.
في ساعةٍ متأخرة من تلك الليلة، وضعت بيهان سلطانة مولودها وكانت بنتاً. الولادة، كانت في غاية العسر وكادت المرأة المجهدة والمعذّبة أن تفقد الوعي أكثر من مرة. الباشا، كان في الحجرة المجاورة لما سمعَ صرخة الطفلة، المعلنة حضورها للحياة. كان في غاية التوتر، ولا غرو، بالنظر لانشغاله بالتفكير في الخطوة التالية. لقد سبقَ واتفق مع إحدى الجواري على خطف الطفلة من حجر الأم، لتقوم بعدئذٍ بخنقها ومن ثم التخلّص من جثتها. كان كذلك، لما استأذنَ الطواشي في الدخول كي يبلغه بخبر الولادة: " رزقتم بإبنة، يا سيّدي، وأتمنى أن تكون وجه السعد على سعادتكم ". حدجَ الباشا الخصيَ بنظرةٍ غائمة، قبل أن يتحرك للذهاب إلى الحجرة الأخرى: كان يُدرك بكل تأكيد أن هذا الخادمَ هوَ مستودع أسرار مولاته، وعلى ذلك ساءه كثيراً أن يأتي ليبارك له في طفلة السفاح. لكنه اضطرَ أيضاً لتكلّف مظهرَ الأب، عندما ناولته الطبيبة الطفلةَ كي يمنحها بركته. في الأثناء، ألقى نظرة سريعة على الأم وكانت تلوح في غاية الإعياء ولا تكاد تتمكّن من فتح عينيها.

استسلمت بيهان سلطانة للنوم إلى ما قبل الظهيرة بقليل، ولما استعادت وعيها وجدت نفسها وحيدة في الحجرة. برغم شعورها بجوعٍ ضارٍ، فإنها كانت متلهفة على رؤية ابنتها واحتضانها. كانت تهمّ بالنهوض، لاستدعاء الطواشي، حينَ دخل هذا إلى الحجرة وعلى سحنته علامات مشئومة. ألقى عليها تحية الصباح، وما عتمَ أن أطرق برأسه إلى الأرض. سألته وقد دهمها القلقُ: " ماذا وراءك، يا حكيم؟ ". رفعَ رأسه، ليجيب ببطء وتردد: " مولاتي السلطانة، أنا شديدُ الحزن حقاً "
" قل حالاً ماذا حصل، ولا تجعلني أفقدُ أعصابي "، قالتها صارخةً. عندئذٍ بادر إلى القول، بصوتٍ مرتعش تأثراً: " أحدهم، خطف طفلتك من حجرة الطبيبة في خلال الليل "
صاحت السلطانة تقاطعه وهيَ ترتجفُ بدَورها: " طفلتي خطفت؟ ربّاه، ما هذا الكلام..". قالت ذلك ثم همدت على طرف السرير، وكانت الدماء تكاد تفر من وجهها. عاد الطواشي للقول: " عليكِ بحث الأمر مع الباشا، لأنني لما أخبرته صباحاً باختفاء الطفلة، فإنه أجابني بكلام غريب ". بقيت محتفظة بالصمت لوهلةٍ، قبل أن تهب مرة أخرى على قدميها لتأمر خادمها باستدعاء الباشا: " عليه أن يوافيني على الفور، وإن كان مجتمعاً بمجلس الديوان ". ثم صرخت بأثر خادمها، وكان قد أضحى عند الباب: " أسرع يا حكيم، لأنّ حياة طفلتي في خطر ".

فيما تلى من أيام، لم تغادر بيهان سلطانة حجرتها إلا لماماً. كانت قد استسلمت لمشاعر القنوط والقهر، حالما علمت من الباشا أنه أمر بالتخلص من الطفلة بناءً على طلب مشدد من قبل الباب العالي نُقل على لسان الدفتردار. أكثر ما أثارَ حزنها وفاجعتها، أنها لما سألته عن قبر الطفلة، أجابَ دونَ أن يرف له جفن: " لقد أغرقت في نهر بردى ". صارَ هذا الرجلُ منذئذٍ خصمها، وراحت طوال الوقت تفكّر بطريقةٍ شنيعة لجعله يدفع ثمن ثكلها وألمها. لكن هاجساً مؤرقاً، كان يهمس لها أن الطفلة يُمكن أن تكون على قيد الحياة. على ذلك، أمرت الطواشي أن يبذل كل جهده لمعرفة شخص خاطف الطفلة، وما لو كانت الطبيبة متورّطة في الأمر. وإنه حكيم، مَن ذكّرها ذات يوم بربيب الأحاجي: " إنك يا مولاتي تؤمنين بقواه الخفيّة، وبالأخص قدرته على النبوءة "
" آه، إنها فكرة حسنة. لتأتِ إليّ به، إذاً، وعلى وجه السرعة "، قالتها متهللة الملامح وممتلئة بالأمل. لقد مضت عدة أشهر دونَ أن تلتقي بالرجل، وتحديداً منذ أن ظهرت عليها علاماتُ الحبل. لكنها في الأثناء كانت تلم بأخباره، وذلك عن طريق الطواشي. كان على الأمل أن ينمو، لما حضرَ صاحبُ النبوءة كي يستجلي الحقيقة بما حُبيَ به من كرامات. بيد أنها، من ناحيتها، لم تبذل امامه الحقيقةَ كاملةً. إكتفت بالقول، أن الطفلة المفقودة تخصّ إحدى جواريها المقربات. بقيَ لوهلةٍ يحدّق فيها، حتى أخفضت بصرها وقد غلبَ عليها الشعورُ بالرهبة. سابقاً، وربما منذ أول مرة التقت فيها بهذا الرجل المبارك، شعرت بأنه يكن لها مشاعرَ عشقٍ جارف وأعمى. لعل هكذا شعور لم يؤاتِها قبلاً، إلا في حالة واحدة حَسْب؛ وذلك عندما أفضى إليها السلاحدار بمكنون قلبه، ثمة في قصر الباب العالي. أخيراً، خاطبَ ربيبُ الأحاجي السلطانةَ بالقول: " الطفلة ما زالت على قيد الحياة، لكن من الصعب على والدتها أن تعثر عليها في حياتها ".

4
في واقع الأمر، هكذا فكّرت السلطانة، لم يكن ما فاه به الرجلُ المبارك نبوءة كاملة. لكنها استدركت في نفسها، أنّ ذلك كان بسبب حرصها على عدم ذكر الحقيقة كاملة أمامه. دسائسُ الحريم، غذّت لديها خصلةَ المكر، وعلّمتها ألا تثق بأحد كائناً مَن كان. الطواشي، ربما كان الاستثناء الوحيد في تلك القاعدة. لقد أشبهت في تكتّمها بالوردة الجميلة، المحتفظة بعبقها لنفسها. التكتّم، حفظ رأسها سليماً وكان يُمكن أن يسلّم للجلّاد في حالاتٍ عديدة؛ أخطرها التفريط بأبناء شقيقها السلطان، وكانوا بعدُ في المهد: الآن، هل تدفع ثمن ذلك بفقدانها أثر طفلتها، التي قد تكون لاقت مصيراً مفجعاً أكثر بحرمانها من قبر يضمّ جدثها؟
من ناحيته، واصلَ حكيمُ اقتفاءَ أثر الطفلة دونَ أن يثير انتباه عيون الباشا، المبثوثين في زوايا القصر. لكنه في قرارة نفسه، كان يعتبرُ العثورَ على الأثر المفقود شؤماً لا سعداً، طالما أنه بمثابة التحدي الصريح لإرادة سلطان الكون. إنه على يقين من أنّ سرّ السلطانة باتَ مباحاً على ألسنة الجواري والعبيد، وأنهم في التالي لم يأخذوا بزعم وفاة الطفلة بسبب عسر الولادة. هكذا قررَ بدَوره إتباع خصلة الإخبات مع مولاته، وذلك حينَ اهتدى لطرف خيطٍ يُمكن أن يقود إلى خاطف الطفلة: إنها جارية سابقة للباشا، تعدّت سنّ الثلاثين، تخلى عنها مع غيرها من الجواري لما اقترن بالسلطانة. " عفّت " هذه، وكانت رومية المنشأ، ألحقت بعدئذٍ بمطبخ القصر مع احتفاظها بحجرةٍ في قسم الخدملك. لقد شوهدت وهيَ تحوم حول حجرة الطبيبة، عقبَ نقل ابنة السلطانة إليها كي تكون هذه تحت الرعاية. فلما تجمّعت بقية الخيوط في يد الطواشي، فإنه آثر التريّث قبل إبلاغ مولاته بنجاحه في تحديد مصير طفلتها.
موضوع آخر، أخطر شاناً، دفع الطواشي إلى ذلك المسلك، الموصوف آنفاً. بيهان سلطانة، انفتحت نفسها مجدداً للمغامرات الليلية، التي دأبت على خوضها ثمة في قصر الباب العالي. أساساً، كانت تلك المغامرات من أسباب سعيها لأداء فريضة الحج. وقد ظلت في البداية متمسّكة بطهرها في خلال تواجدها في دمشق، بما في ذلك مع الباشا، المقترنة معه وفق الملابسات المعلومة. وإذاً عليها كان أن تفاجئ خادمها المخلص، لما أفضت إليه ذات ليلة برغبتها في الإختلاء بأحد شبّان المدينة. ذلك جرى مباشرةً بعد فقدانها أثر طفلتها، ولعله كان من وارداته. إذاك، كان في وسعه أن يثني مولاته عن رغبتها الآثمة، بأن يبوح لها بنجاة طفلتها من مصير القتل وأنها باتت في متناول يدها لو شاءت. لكنه لسببٍ ما، لم يفعل ذلك. بل ولقد انفتحت نفسه لارتكاب إثم أكثر هولاً، عندما قررَ أن يتخلّصَ من كل شابّ اختلى مع مولاته في عش الغرام.
وإنما في ذلك الوقت، كنّا نحنُ الأصدقاء الثلاثة نسعى وراء خيطٍ يُمكن أن يقود إلى القاتل المجهول، الذي روّعَ المدينة القديمة ليلةً تلو ليلة. غبَّ نجاحنا في القبض عليه، ومن ثم تجريعه من نفس الكأس، كنا أيضاً قد ألممنا باعترافاته؛ أو بعضنا على الأقل. فبحَسَب طلب ربيب الأحاجي، لم أبُح لباسيل بما يخص علاقة السلطانة بالموضوع. لكنني هجستُ، بأنني نفسي لم أحط بكامل إعترافات الطواشي الراحل. إلى أن كانت ليلة الزلزلة، وفيها أعلمني خادمي بوجود طفلة صغيرة لدى صديقي برو، يبدو أنه أنقذها من تحت ركام منزل أسرتها. المعلومة، دوّرتها في رأسي لاحقاً لما آنَ الوقت المناسب. لم أفاتح صديقي بشأنها، وظللتُ آمل أن يفعل ذلك من تلقاء ذاته. إلى أن عدتُ وإياه من منزله في تلك الليلة، التي حوصر فيها بجمع من أهالي حيّه، الساعين إلى النجاة بوساطة كراماته من وباء الطاعون. وإذا به يبدأ بقصّ ما عرفه عن ابنة السلطانة، المفقودة الأثر، وبالطبع عن طريق طواشيها قبل قيامه بإعدامه خنقاً.

الجارية عفّت، كانت تخرج صباح كل يوم إلى السوق مع أحد الخدم، كي تنتقي لوازم المطبخ، ومن ثم يعودان مع الحمّالين، المتعهّدين نقل تلك اللوازم. وهيَ ذي يوماً في الطريق إلى خارج القصر، لكنها هذه المرة كانت وحدها. لقد حملت في يدها سلّتها المعتادة، وكانت مغطاة بمنديل. تبادلت التحيات مع حراس القصر، وكان هؤلاء قد استغربوا تبكيرها بالذهاب إلى السوق ولوحدها. ما لم يدُر في خلدهم، أنّ سلّتها تخفي حفيدة سلطان الكون، التي ولدت في الليلة السابقة. كانت قد كتمت أنفاسَ الطفلة، قبيل توجهها إلى بوابة القصر. تابعت من ثم طريقها باتجاه فرع نهر بردى، المار على طرف المدينة القديمة. كانت الدروبُ مقفرة تقريباً من الخلق، بالنظر للوقت المبكر. إلى أن حاذت النهرَ في بقعة مشجّرة، وكان خريرُ المياه يُسمع قوياً بفضل صمت المكان، مختلطاً مع زقزقة العصافير. وإذا بصوتٍ غريب، يخترق رويداً سمعها، ليتبيّن لها أنه صادرٌ من أعماق السلّة. الطفلة، كانت ما فتأت حيّة، وما لبثت أن ثبتت نظرتها بعينيّ الجارية وكأنما تتوسلُ منحها فرصة الحياة.
" حكيم، أعلمني قبل مقتله بمكان المنزل، الموجودة فيه الطفلة بعيداً عن الأعين "، قال لي ربيبُ الأحاجي. ثم أضافَ موضّحاً: " الجارية عهدت بالطفلة إلى صديقة حميمة، تسكن مع أسرتها الصغيرة في البحصة الجوانية قريباً من باب الفراديس. في ليلة الزلزلة، توجهتُ ركضاً إلى ذلك المنزل وكنتُ أعرفه حق المعرفة من قبل. مع وصولي، تصادفَ وقوعُ الهزة الأرضية وبدء انهيار الأبنية من حولي. هُرعت على أثر خمود ثورة الأرض إلى الخوض في خرائب المنزل، وكان متضرراً بشدة. أفراد الأسرة، وهم غلامان مع أبويهما، أصيبوا بجروح مختلفة، لكنني تمكنت من سحبهم إلى الخارج. عدتُ أبحث عن طفلة السلطانة، لأجدها تحت ركائز سقف إحدى الغرف وقد حماها حجمُها الدقيق. بدون تردد، احتضنتها ثم عدتُ بها إلى منزلي، وكان لحُسن الحظ سليماً بشكل كبير بالنظر لعمارته الحجرية ".

5
لم تكد تهدأ نفوسُ الدمشقيين عقبَ الزلزلة، فيعودون إلى حياتهم وأعمالهم، إلا ودهمهم وباءُ الطاعون، القادم من الريف. سرعانَ ما صارت قوافلُ الموت تترى، مُرفقة بالتوابيت، المتّجهة إلى المقابر. مَن حملوا التوابيت بالأمس، كانوا اليوم محمولين بدَورهم داخل النعوش. حلّ الرعبُ من جديد في المدينة، مدموغاً هذه المرة بالعجز والقنوط، شاملاً الجميع عامّة وأعيان وعسكر. بصفتي من رجال مجلس الديوان، لحظتُ بنفسي ما طرأ على ملامح الوالي من علامات ذلك العجز والقنوط؛ هوَ مَن كان معروفاً بالحزم والشجاعة. ثم ما لبثت أعمال الديوان أن تعطلت، وذلك خشيةً من تفشي الوباء في القصر. لازمتُ عندئذٍ منزلي غالباً، وكان الخادمُ يتولى كالمعتاد جلب حاجياتنا من السوق. كذلك حملتُ صديقي برو على المكوث معنا، ريثما ينفضّ جمعُ الأهالي، المطوّق منزله.
وهوَ ذا باسيل، يظهرُ على حين فجأة، ولم نكن قد التقينا مذ ليلة الزلزلة. سحنته العذبة، كانت تشوبها لحية خفيفة، حمراء بعض الشيء. كان الخادمُ قد أعلن حضورَهُ، في وقتٍ كنا قد سلونا ذكره تقريباً. لاحَ خجلاً بسبب انقطاعه عن زيارتنا كل تلك المدّة، التي قال أنه قضى معظمها محصوراً في أحد الأديرة مع أسرته. ثم تابعَ بنبرة حزينة: " والآن، قررَ الوالدان الهجرةَ إلى بيروت، أين نملك فيها عدداً من الأقارب. علاوة على أن منزلنا ما فتأ غير صالح للسكن، جاء وباءُ الطاعون كي يحفّز الأهلَ على ذلك القرار الصعب ". سألته، وكأنني لم أستوعب تماماً ما فاه به: " وأنتَ، هل سترافق الأسرةَ إلى بيروت؟ "
" نعم، بالطبع سأكون معهم "، ردّ عليّ مع ابتسامة أسى. ثم ما عتمَ أن غيّرَ الموضوع، ليتساءل عما دبّرناه من أمرنا مع تفشي الوباء في المدينة. تعهّدتُ عند ذلك إخباره بتعطّل أعمال مجلس الديوان، ثم أضفتُ مومئاً إلى ناحية ربيب الأحاجي: " وصديقنا وافقَ على البقاء في ضيافتي، لحين إنجلاء الغمّة عن الشام ". وأعقبتُ موضّحاً، لأذكُر موضوعَ محاصرة منزل صديقنا من قبل أهالي حارته بوهم أنه ملاذٌ آمن يحميهم من الوباء. هذا الأخير، بقيَ ملتزماً الصمتَ، برغم ما بدا على ملامحه من سعادة بلقاء باسيل. لكنه لم يجب عليه أيضاً، لما اقترحَ أن نحذو حذوه، فنترك الشامَ ولو بشكلٍ مؤقت. ثم أضاف باسيل، متوجّهاً إليّ بالكلام: " لقد ذكرتَ لنا من قبل، أنك تعرّفتَ على تاجر بيروتيّ في خلال مرافقتك للحملة على الحجاز. فلِمَ لا تسافر إليه، عسى أن يؤمّن لك مسكناً بالإيجار؟ "
" لا أستطيعُ تركَ الشام، بسبب وظيفتي في الديوان، المحتمة عليّ الاطلاع على المراسلات وتسليمها للوالي. لكنني سأدلك على موقع منزل ذلك التاجر البيروتيّ، لكي تترك لديه معلومة عن مكان سكن أسرتك هناك، عسى أن نلتقي في وقتٍ ما ". أبدى ترحيبه بكلامي، ثم استمع إليّ بانتباه لما وصفتُ له موقع منزل التاجر مع تزويده باسمه. ولأننا كنا في أول المساء، طلبتُ من الخادم تحضيرَ العشاء على عجلة. ظل باسيل طوال السهرة يتكلم ويُطلق الطرائف، وذلك بهدف أن نسلوَ ساعة الفراق الوشيكة. في ساعة متأخرة من الليل، نهضنا لكي نوصله إلى منزله. كانت الليلة متخففة من حرّ النهار، بفضل النسيم المنفوح عبرَ الغوطة وقاسيون. أرتجفَ قلبي في صدري، لما حان موعدُ معانقة صديقنا قدّام مدخل منزله، الأشبه بالخرابة. العتمة، حجبت دموعي، لكنها لم تستطع إخفاء تهدّج صوتي وأنا أبثّ كلماتِ الوداع.

ضربتان تاليتان، كان عليهما أن يغيّرا أيضاً مجرى حياتي.
ربما حملتُ للسلطانة البغضَ في الآونة الأخيرة، بعدما ألممتُ بجانب كبير من سيرتها سواءً هنا في الشام أو في مسقط رأسها. لكن صورتها البهية، ما أسرعَ أن تجلّت لخيالي حينَ أعلمني صديقي برو أنها ستعود إلى الأستانة عن طريق البحر. كان واضحاً، أنها تفرّ بعيداً عن مهلكة الوباء. بيد أنني عجبتُ من تذكّرها لربيب الأحاجي، وأحلتُ ذلك لرغبتها باستقاء معلومة ما، تتعلق بطفلتها، المفقودة الأثر ـ بالنسبة إليها. كأنما قلبها أشعرها بأن الرجلَ يعرفُ شيئاً، ولا سبيل لحمله على الإفضاء به. لكنه لما سُئل، لم يزِد عن تكرار ذات الجملة: " طفلتك على قيد الحياة، وربما لن يقدّر لك في حياتك رؤيتها ".
علّقت هذه المرة بالقول، متنهّدة بصوتٍ مسموع: " لقد أطلقتُ عليها اسمَ ‘ كَوليزار ‘، حالما أبصرت نورَ الحياة، ولعل هذا الاسم يكون دليلك للعثور عليها. ربما نلتقي مجدداً في قادم الأيام، لو بقيَ الباشا والياً على المدينة. بخلاف ذلك، ستكون الشامُ محطةً لي عندما أقرر أداء فريضة الحج ". غير ذلك، كان ربيبُ الأحاجي ينتظر منها أن تسأله عن مغامض إختفاء الطواشي، الذي لازمها طوال أعوام عديدة وكان حافظ أسرارها. وحق عليه الاندهاش، لتجاهلها الموضوع تماماً. قد يكون الموضوعُ الآخر، المتعلق بالطفلة، ملك عليها يومئذٍ حواسها فلم تتذكّر غيره. بعدما أعلنت انتهاء الزيارة، مدّت يدها إلى الرجل كي تضفي مزيداً من الحميمية على مشهد الوداع. هنا، فاجأها العاشقُ المتولّه بأن قبّل اليد الممدودة. القدَر، لا بد وكتبَ في هذه اللحظة مصيرَ العاشق والمعشوقة: في المقابل، لم يُقدّر لأحد أبداً أن يعلم على وجه اليقين مَن نقل عدوى الوباء للآخر.
الخبرُ المفجع، وصل إليّ أولاً بصفتي كاتب الديوان. وكنتُ أطل على القصر في فترات متقطعة، لكي أراجع البريد وأسلّمه من ثم للوالي. إحدى الرسائل، أفادت بوفاة بيهان سلطانة بوباء الطاعون، وذلك عندما كانت في طريقها إلى الأستانة. خوفاً من العدوى، اضطروا لجعل ثيابها كفناً لها، وليعمدوا بعدئذٍ إلى رمي جثمانها في البحر. النهاية المأسوية هذه، لعلها فكّرت فيها قبيل لفظ أنفاسها: أوَجَدت فيها عقاباً إلهياً، شبيهاً بما كانت تعتقده بشأن انتهاء حياة خادمها حكيم مرمياً في نهر بردى؛ هوَ مَن كان يفعل بضحاياه الشبّان الأمر الشنيع ذاته؟ أم أنها فكّرت بطفلتها، التي زعموا لها أنهم تخلصوا من جثتها في نفس النهر؟
عاشقُ السلطانة، فارقَ الحياة بعد يوم واحد من علمه بوفاتها. كنتُ قبلاً قد لحظتُ ما اعتراه من تغيّر، بالأخص اصفراره الشديد؛ لكنني أحلتُ ذلك للوعته وسهاده بسبب فراق المعشوقة. في نهار يوم وفاته، أعلن فجأةً عن رغبته بالعودة إلى داره، فلم يكن في وسعي منعه. مساءً، أرسلتُ خادمي كي يطمأن على أحواله، فرجع بعد نحو ساعة ليفاجئني بأن الرجل يحتضر. وجاء دورُ الخادم، ليحاول منعي من الذهاب إلى صديقي. غير أنه أمام إصراري، لم يجد من تدبير سوى الخروج لإيقاف عربة مشدودة بالخيل. عند وصولي إلى منزل صديقي، رأيتُ مدخله قد أقفر تماماً من الخلق. دخلت وفي يدي قنديل مشتعل، لأجد الرجل متمدداً على الحشيَة الرثّة في جانبٍ من الرواق. لما خاطبته عن قرب دونَ أن أسمع جواباً، ولا حتى ايماءة أو حركة، أيقنتُ أنه سبقَ وأسلمَ الروح.
هكذا كانت نهاية " النبي كيكي "، صديقي الأقرب، ومَن كان أحد أشهر شخصيات الشام في القرن الثاني عشر للهجرة.

* الكتاب الثاني من رواية " الأولى والآخرة "، المنشورة في الموقع عام 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في