الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 19
الادب والفن


دخول

وتمضي السنون في طريقها المعبد كأنه أفعى طويلة تلتهم كل ما يقف أمامها دون أن تشبع أو تكل وتمل، وتحولت بجمالها ومآسيها إلى ذكريات تزرعها حافظتها في العمق الإنساني دون أن يعي أن ما تم خزنه وما نسفته أفة النسيان كالعادة، وليس كما يتصور الكثير من الناس أنها مجرد ذكريات مرصوفة بعناية في دهاليز الذاكرة كما تصف الكتب, إنها الحياة والقوة الخفية التي تحرك الوجود الداخلي للإنسان وتفعل الكثير مما لا نعرفه ولا نعلمه، ولأن بعض واقعه ينبئنا أن ما في داخلنا المستكين هو من فعل دون أن نعلم، ودون أن نفعل شيئا لإيقاظها...... ولأنها يقظة لا ندري متى تأتي ومتى تغيب.
عندما تتضح الرؤى ويستكين العقل وتهدأ النفوس تعود الذاكرة للوراء تبحث لها عن أشياء تلاشت أو نظن أنها اندثرت مع هموم السنين وانشغالات الأيام، وكأن الماضي قد مات وتلاشت ملامحه نفاجأ أن الماضي أصلا لم يغادرنا وأن كل حضوره باق أما ما غاب، فهو واقعنا به حسنا وشعورنا به وتعود سلاسل الأيام لتعرض على شاشة الذهن كأنها أحداث طازجة نتمنى أن نعود، لنتدخل نصحح ونغير ونعدل المسارات لكن الذاكرة لا تقبل التعديل ولا التحويل لأنها فقط مؤتمنة على الحفظ.
لم يبقى أمامنا من فرصة حقيقية لعرض ما كان على أنه إشارات على طريق الزمن الفائت كي نفهم لماذا نحن هكذا؟ أو لماذا صرنا هكذا؟ إلا أن نتدخل فنسجل ما في الذاكرة أو بعض ما فيها من أحداث على شريط الذكريات ونقدمه معدلا متسلسلا كاشفا للكثير من التفاصيل التي تساعد غيرنا ونحن أيضا لنفهم لماذا وكيف ومتى كان الخطأ ومتى كان الصواب، ليس فقط أن نستعرض جماليات وسرديات الحدث لكم من المؤكد أن الكتابة عن الماضي لا تريد أن تختصره بالحدث والمحدث، بل بقراءة أعمق تشمل القانون المحرك والعلل التي رافقت وكونت وساهمت به.
السرد الذي يأتي لاحقا ليس بالضرورة أنه جميعا أحداث متسلسلة في واقع حدوثها أو في صفة أبطالها أو مكان وقوعها، لكنها صادقة جدا في نقل الحدث وفي وصف الفعل وفي كشف ما رافقه من خيوط ترابطت وتفاعلت وتعاونت في صياغة الحدث كما هو، الحدث الذي ترابطت أجزاءه فشكلت الصورة التي نتكلم عنها (صورة ماركس الرمز) الذي حل ضيفا بالعراق، ماركس الذي كان جزأ من صراع أجتماعي مختلط قومي ديني حضاري إنساني، لكنه بالتأكيد يبقى مجرد رمز ذهني وليس ذلك ماركس الأوربي ذو اللحية الكثة والعينان البارزات التي تخفي عالم متضارب من الأفكار والصور التي في سيرورة فكره وحلم قديم للإنسان بعالم قد يكون منظم ولكنه مرسوم الأفق مسبقا، ماركس الذي حول الأيديولوجية المادية إلى تجربة خلقت من جزء من العالم مختبرا للأفكار المسطحة على منحنيات عوجاء، وساهمت أيضا بتحرير العقل من صراع الثابت والمتحول إلى صراع المال والقيم، صراع بين المادية والمثالية .
ماركس عندما دخل العراق لم يكن فقط ذلك الفيلسوف الغربي الذي أتهم من قبل أعدائه بزرع فكرة أن الدين نقيض العلم، وأن الدين يجب أن يرحل بالضرورة إلى الذاكرة الفردية البعيدة طالما أنه لا يحمل معه الخبز والحرية ويجري مع الزمن في سباق وجودي حر، ونترك للعلم كل المجالات التي كان يشغلها الدين، لأن العلم أحق به من الوجود بعلة أن الوجود نتاج معادلة رياضية صارمة لا مجال فيها للمثاليات الفرضية والأفتراضية، فتحول جراء ذلك جزء منه في بلدي إلى حقيقة التسليم بأن الدين جزء من ثورة العقل، وأن في الدين العراقي ما كان ينقصه إلا صعقة كهربائية تجبره للدفاع عن نفسه وكيانه، في هذه اللحظة لبس ماركس السواد على الحسين العراقي، وعرف أنه لو عاصر الحسين ومن قبله أباه لأصبح صحابيا ممن يقاتل بين يديهم لأجل الإنسان قبل الله .
لكن هناك قسم من هذه الشخصية المثيرة بقت غربية التفكير حتى مع تمركسها وإعلان وجوديتها المادية السافرة، بقت تؤمن أن الدين قد مات وإكرام الميت دفنه سريعا، فنادت إلى تهيئة القبور كي تدفن الدين حتى لو كان الدين حسينيا أو علويا، لا فرق فكل الدين أفيون قديم ومعتق وكل الشعب مخدر به، فتشتت ماركس في العراق بين الحسين وبين خصوم الحسين وبين العراق وبين أوربا.
لكن بقى ماركس في العراق أمينا على حق الناس الفقراء والمساكين صار ماركس من حزب أبي ذر، وصار قرمطيا وشارك في حرب الزنج وتحالف مع العبيد في ثورتهم ضد الإقطاع، نزل للشارع يحمل المنجل والمطرقة بكلتا يديه رسم في شوارع مدن العراق الكبيرة والصغيرة رسوما خالدة، بعضها مصبوغة بلون الدم وفوق جماجم العملاء وخونة الكادحين، وبعضها بالألوان البراقة التي تسر الناظرين، قرأ وكتب بالعراقي مع رائحة يختلط بها عطر الجوري العراقي مع شذى العطور الغربية، صنع حلما وسفه أحلاما كثيرة، لكنه أخيرا بقى عراقيا بشكله الذي قدم به من أوربا الغربية والشرقية وبقى ماركس عراقيا برغم أنف الأممية الدولية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - -بقى ماركس عراقيا برغم أنف الأممية الدولية-!؟
طلال الربيعي ( 2021 / 1 / 19 - 20:35 )
كنا نتصور ان ماركس شخص أممي ولذا من غير المفهوم لماذا عليه أن يأبه لترهات اتفاقية سايكس بيكو التي خلقت ما يسمى دولة العراق الآن!
لذا سنكون شاكرين لو أعطانا الكاتب بعض الأمثلة في أن -ماركس بقى (متى بدأ؟) عراقيا بشكله (هل يعني اسمرار بشرته أم ماذا, إن كان لهذا الأمر من قيمة!) الذي قدم به من أوربا الغربية والشرقية (الشرقية؟) وبقى ماركس عراقيا برغم أنف الأممية الدولية (كذا!)-
ماركس مع نضال الطبقات الكادحة ضد الرأسمالية المحلية والعالمية. فكيف يكون ماركس مع الشعب العراقي بمجمله الذي يضم ايضا الفاسدين واللصوص والفاشيين وأعوان المحتل وأعداء الماركسية والشيوعية, وبضمنهم أحزاب السلطة وقواها؟
ولا ادري ما علاقة الأممية الدولية بالموضوع وهي قد حلت نفسها في عام 1943؟ ولمن لا يصدق نقدم له الدليل!
Dissolution of the Communist International
https://www.marxists.org/history/international/comintern/dissolution.htm


2 - تحية
عباس علي العلي ( 2021 / 1 / 19 - 21:19 )
صديقي العزيز على مهلك فلسنا في جدال سياسي هذه رواية فيها أحداث وشخصيات وسرد قد نتفق معه أو نختلف مع أبطالها وهذا لا يعني أنا أكتب بحثا في الماركسية والأممية.... مع التقدير


3 - وإلا إنها ستكون جهدا عبثيا في التداعي الحر
طلال الربيعي ( 2021 / 1 / 20 - 01:27 )
على مهلي؟ إني فقط صححت بعض أخطاء ما تكتب ولم انتظر منك شكرا. إني يا صديقي العزيز اعلم انك تكتب ما تسميه -رواية- ولكن رواية عن ماركس يجب أن تكون منسجمة, الى حد ما على الأقل, مع الحقائق والوثائق التاريخية كي تكون رواية فنية جميلة وإلا إنها ستكون جهدا عبثيا في التداعي الحر للكلمات.


4 - تحية
عباس علي العلي ( 2021 / 1 / 20 - 09:57 )
صديقي صباح الخير
الرواية الأدبية ليست جردا تأريخيا ولا توثيق لحقائق أنها محاولة لطرح أفكار منها ما هو متوافق مع الواقع ومنها مجرد تخيلات في ذهن أبطال الرواية، ما تفضلت به يمكن أن تقوله عندما تكمل قراءة كامل الرواية خاصة وأن البداية أو الدخول كما أسميتها مجرد تحريك للحدث على لسان أبطالها، على كل حال رأيك محترم ومحل تقدير كنت أتمنى مناقشة الثيمة أو الحوار أو الصياغة الفنية من باب النقد الأدبي أو حتى تسجيل أنطباع أولي.

اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-