الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 20
الادب والفن


البذرة والطين

في محله المتهالك القديم وهو جزء من وقف مشيد عليه جامع ومحلات أخرى في وسط المدينة، يجلس عبد أبو عيون وهو يكتب للناس كل شيء في وقت كان الغالب من أهل مدينتي لا يجيدون القراءة والكتابة ولا فن مخاطبة الحكومة عبر عرائض منمقة، بدأ من تلك العرائض وانتهاء بالمكاتيب إلى ما يصطلح عليه الخصوم من اتفاقات وسنن أحيانا، كل ثروته الأدبية كانت تسخر للأبداع في تسطير الجمل وصياغة العبارات التي تصل بما يريده الناس إلى حيث تتجه، كما إن الأسلوب الإقناعي كان وسيلته في سرد عرائض الناس للحكومة أو الإدارة، فهو خصم دائم لها وأيضا محل ترحيب في كل دوائر الدولة لأنه عارف أسهل وأبسط الطرق لبسط الموضوع وإيصاله مختصرا لهم، وبالرغم أنه لم يكمل الدراسة الابتدائية إلا أن يقين الناس به وحتى الذين يجيدون القراءة والكتابة لا يمكنهم أن يتجاوزا قدرته المعروفة.
حسن خدادات المنافس الروحي والقطب النقيض الذي يتفاءل بمصائبه ويتشأم بأفراحه عبد أبو عيون، وكأنهما جبلان لا يلتقيان أبدا مهما حاول البعض تقريبهما من بعض، فهو الكفة الثانية من الميزان كلما تحسنت أمور حسن خدادات المالية عبد أبو عيون يترك السجائر المصنعة ليعود للف، هكذا ارتبطت حياة الرجلين بالنقيض سمعتها من الكثيرين أكثر من مرة، لو مات حسن خدادات أعترف بأن الله ممكن أن يفعل شيء جيد هكذا يردد بطلنا كلما ذكر الرجل أمامه، ولكن طالما الرجل موجود فأنا على خصام ليس معه فقط بل وحتى مع الجند المجندة المسئولة عن توزيع غنائم الرزق على الناس، تصورا أن لله جنود حقيقين فعلا منهم ذلك النحس حسن خدادات ولكنه بالتأكيد من طائفة الأشرار وأنا طائفة المتضررين منهم.
حسن لم يكن كاتب ولا يجيد حتى التكلم بالعربية مثل عبد بل هو من الأغراب الذين سكنوا المدينة، كل ما يربط بين الرجلين أن الأول متخصص بيع التبغ والسكائر في السوق العرب قريبا من محل عبد، وحيث أنه خبير في معرفة طعوم ومذاقات التبغ فهو من يتحكم بخصمه، كيدا وأحيانا عن طريق المزاح لكنه بكل التأكيد لا يضمر أي محبة له، ويرى فيه مجرد شيطان مزروع في قلب المدينة، لذلك مسخه شبه الأعمى عقابا له، الله لا يحب الماركسيين ولا الشيوعيين، بل يحب عباده الذين يذكرونه قياما وقعودا.
كان عبد الناصر وإسرائيل والاتحاد السوفيتي وشاه إيران القاسم المشترك في حديث الجميع عندما تبدأ جلسات الحوار والنقار عقب كل نشرة أخبار من إذاعة لندن أو صوت العرب من القاهرة، فمنهم من كان قوميا ناصريا والجد منهم، يؤمن أن إسرائيل لا يمكنها أن تقوم لها قائمة وعبد الناصر حليف لروسيا الشيوعية، العرب سيقولون كلمتهم الأخيرة عندما يرمي عبد الناصر أخر حكام تل أبيب في البحر، أو يعلنوا التوبة عندها سيكون الخيار أما الجزية أو الرحيل، الذي لا يؤمن بهذه النظرية عبد ابو عيون لأنه يرى من حق إسرائيل أن تكون موجودة، وعلى العرب أن يفهموا أن القوة لا الحق هو الذي يساند واقعها بالوجود، برغم أن الاتحاد السوفيتي مع نضال الشعوب العربية لكنه يرى في حق الشعب الإسرائيلي جدارة يجب أن تحترم، هنا يبدا الخلاف وينتهي بالزعل لأيام حتى تجمعهم مناسبة ما.
في بيت العائلة كانت الجدة الند الأخر الذي على الجد أن يستمر بالنقاش معها مجبرا، فهي شيوعية الهوى دون أن تعلن ذلك للجميع، قارئة للقرآن ومعلمه له، تقرأ لكنها لا تكتب وتعرف برغم ذلك أن الشيوعية هي حق الناس أن يكونوا سواسية كما تقرأ يوميا في كتاب الله، لا يقبل الجد هذا المبدأ وحجته دوما، أنه لو حكم الشيوعيون العراق فسوف يمنعونها من قراءة القرآن، لأنه أفيون الشعوب ... يقول أنهم يعنون بذلك أنه مخدر مثل الحشيشة والترياك، قالت سأقرأه بلا كتاب فأنا كما تعلم أحفظه عن ظهر قلب، لا يمكنهم أن يمسحوا القرآن الذب بداخلي، مع ذلك أنهم أولادنا ويعرفون ما يعني ذلك لنا ولا يمكن أن يمنعون القرآن عنا، سأثبت لك ذلك.
أعرف أن الشيوعي عليه أن يكون متعلما ومثقفا يمتلك الكثير من المفردات الكلامية الغريبة، أو لا بد أن يكون موظف أو عاطل مجبرا عن العمل أو مفصول سياسي، خالي الكبير كان الشيوعي الأول الذي أدخل الهوية الشيوعية للبيت، كان أيضا بطلا لكمال الأجسام شرس جدا قوي حد الخوف من مجرد أن يكون موجود في المنطقة إن لم يكن مسافرا أو في إيفاد وظيفي، لكنه كان مع شدته رقيق معنا نحن أبناء الجيل الذي يسمينا الشبيبة حتى أنا الذي كنت مجرد طفل في هذا البيت الكبير، عرفت منه ان تكون شوعي يعني أن لا تجعل أحدا قادر على أن يستمر معك بالنقاش، وعليك أن تحفظ عشرات الكلمات التي أسمعها لأول مرة، لم أدرك بعد تلك المعاني ولكن أعشق حلقات النقاش التي يعقدها مع أبن عمه أبو هارون الشيوعي المحنك الأخر.
في الصف الرابع الابتدائي استغربت أيضا من عالمهم الفريد فقد كان معلمي الأول شيوعيا مجاهرا، لا تخلو مناسبة إلا وكان الأبرز فيها، كنت أخافه أكثر من حبي له كونه شيوعي، الخوف ليس من سبب سوى من نظراته القادحة من عينين محمرتين دوما تشي عن غضب لا يحتمل، لم أرى فيها غير الشراسة والقوة واقفا كالجبل أمام اللوحة أتطلع في حمرتها وأتساءل، لمَ عيون الشيوعيون دوما محمرة هل لكون رايتهم حمراء أو أن رايتهم أكتسبت لونها من حمرة العيون تلك.
كنت أرغب في التعرف أكثر عن ذلك العالم الكبير عالم السياسة وإذاعة لندن وصوت العرب من القاهرة وتحديد عن ماركس ولينين، بعد المغرب الموعد الذي يجمع المتناقضين بين يمين رجعي ويسار حر، لم أكن أفرق ولا أعرف كيفية التمييز بين اليمين واليسار، لكن اعرف معنى الرجعي كون مالك العقار الذي فيه محل الجد كان رجعيا ثريا منتفخا كبطة، وليس له أهتمام إلا بالفلوس وتكديسها، ومن يراه كأنه شحاذ بثوبه القذر الممزق، كان المجتمعون هنا على الضد منه أكثرهم يتميز بأناقة واهتمام بالملبس وخاصة قصة الشعر عند الشيوعيين التي تعرف بـ (التواليت) واللحية المحلوقة بنعومة مبالغ بها.
ما أن ينتهي الترحيب وتعلن دقات بيغ بن لمشهورة لنشرة أخبار المساء، حتى يبدأ النقاش حاميا بناء على ما سمعوا من اخبار طازجة أو ما تنشره الجرائد وعلى قلتها، أو ما يصل لقواعد الحزب الشيوعي من جديد، أحببت طريقة عبد أبو عيون المثيرة في الحوار كان حادا وهازئا وأحيانا يبدأ وينتهي ساخرا مر لأقصى درجات التهكم في السخرية، وليجعل من الجميع ناقمين حانقين بعدها يلف عباءته تحت أبطه الأيمن ويريد ترتيب عقاله ذاهبا لأم الأولاد أحيانا يتعثر بما ف الطريق من أحجار أو عوارض، قيل له لو كنت على حق لأعطاك الله عيون مثل الناس ترى فيها أبعد من أنفك، يرد بلهجة المحتج... ولأنه ليس على حق لذا أعطاكم عيون لا ترون بها.
أبو هارون موظف سابق ومفصول سياسيا والخال سحبت يده من الوظيفة، لا اعرف ماذا تعني هذه الكلمات ولكن الذي أعرفه أن الرجلين في حوار مشترك في المقهى في البيت وهم لعبون الورق في جلسة ما بعد العشاء في كل ليلة، أو في جلسات الشرب المعتادة وهم يتقاسمون قنينة العرق الذي أنتظر الفراغ منها لأضع فيها عود ثقاب مشتعل فتلتهب نارا زرقاء سرعان ما تخمد، هنا تنفتح أفاق الحديث وخارج كل المدى بين الشعر والسياسة وما يجد من روايات أدبة، كلاهما أعزب في أواسط العشرينات من العمر يجتمعان عادة هنا أما هربا من الشرطة حيث يسكن أحدهما الحلة والأخر كربلاء، أو عندما يتخذ ضدهما إجراء أداري بسبب مشاركتهما في التظاهرات ضد الحكومة، لم أرى تظاهرة هنا في مدينتي حيث سمعت أن هناك ينزل الشعب كله ضد الحكومة، سؤالي دائما لماذا ضد الحكومة وأنا اعرف جارنا عريف محمد من الحكومة، رجل طيب وصديق الجد حتى مفوض المركز كان طيبا جدا.... لماذا ؟.
دخل محل الجد رجل ضخم ذو كرش وأناقة غير طبيعيه ومعه رجل أسود طويل يحمل كيسا بيده لا تبدو سحنته على أنه محل أهتمام أو منزله حتى يرافق هذه الشخصية المحترمة، سألت أبو هارون الذي كان جالسا على كرسي خشبي أمام المحل عنه، قال هذا شيخ أقطاعي وهذا عبده الذي يملكه كما أملك قلمي الباندان هذا .
_ماذا يعني أقطاعي .
_قال أنه من ملاكي الأراضي الزراعية الذين يستغلون طبقة الفلاحين والكادحين ويعيشون على جهد الغير دون أن يشاركوا في الأنتاج.
_ولكنه يظهر من هيئته أنه رجل طيب.
_أنهم جميعا كذلك..... لكنهم في الواقع غير ذاك.
_الملاكين من الشيوعيين أيضا ؟.
بضحكة خبيثة عرفت أن سؤالي مستنكرا منه، قال لا يمكن أن يكون الرجعي شيوعيا، هؤلاء أعداءنا وأعدا العمال والفلاحين ولا بد لهم أن يخضعوا لإرادة الشعب العامل، وأن يعيدوا وسائل الأنتاج لأصحابها الحقيقين، منذ ذلك اليوم أمنت أن الرجعيون مجرد ظاهرة تقوم على الأغتصاب ولا بد أن تنتهي الحال بهم بحسم مسألة أعادة الحق لأصحابه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - استاذ انت تذكرنيباستعراضك بالاربعينات والخمسينات
ALI alsaedi ( 2021 / 1 / 20 - 07:31 )
التي عشتها ومن ال1945 كنت نشطا في حشع ووالدي الشيخ خريج حوزة النجف كان المسؤل الحزبي لسنوات-ولكن هنالك ملاحظتين عن شيوعيي تلك الايام-اولا لم يكن بينهم من يؤمن باساطير الولين وانما كانوا متشددين في لادينيتهم-حتى انني قبل اكثر من 50سنه حينما تزوجت وصار لي اطفال صار تساؤل لماذا ابونا لايصلي-علما اننا كنا في العماره-مدينة كان كل اهلها لطامه-فقلت لهم وفقا لحزم تلك الايام-اذا راءيتم يوما ابوكم يصلي قولوا ابونا نجن-ولحسن الحظ فان لا ابوهم ولا ابنتي التي بعمر 52سنه ولا اخوها ابنال48سنه قد وقع ضحية الخرافة فصلى لها ولكن رغم هذا فاءن موقفهم من الدين في الاتصال بالناس فكان يحترم العقائد ويخطط كل منهم في برنامج توعيته سياسيا توعيته اجتماعيا وثقافيا عبر التوعيه العلميه في تفسير كنونة الانسان والمحتمع والطبيعه-كاساسيات وليس فخصصيات -اما الامر الثانيفاءن -شيوعيو ذاك الزمان كان اشباه ملائكه ومحافطين جدا وبصدق لذالك اسجل تحفظي على ذكرك للعرق وللعب الورق-انا هنا لا اكتب بمعايير اليوم ولكن بمعايير ووقائع ذاك الزمن وفي لقاء لاغنياء العمارة قيل اللي يريد الحفاظ على عرضه وامواله فليشغل عنده الشيوعيين-تحيات

اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع