الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سورين كيركيغارد (1813 - 1855)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 1 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



مفكر وفيلسوف وجودي بروتستانتي دانماركي، ولد في مدينة كوبنهاغن في زمن الركود الاقتصادي الذي أعقب الحروب النابوليونية، ولم يعان سورين في حياته من أية صعوبات مالية، فقد عاش على ما ورثه خلال حياته القصيرة. إلا أن طفولته مرت بأزمات روحية، فقد نزلت الوفيات في الأسرة وضربتها الحوادث. وتعلم سورين منذ صغره ما تعنيه المعاناة الروحية، "وكان يبشر باليأس الكامل والخوف وكراهية الجماهير""([1])، أما من الوجهة الخارجية، فقد كانت حياته حياة بسيطة: فقد درس اللاهوت والفلسفة، وحصل على درجة جامعية عند أطروحة عنوانها حول مفهوم السخرية (On the Concept of Irony)([2]).



تواصل مباشر ووجودي:

"تميز كيركيغارد، شخصاً وكاتباً، بالتوترات، نعني التوتر بين موقف الميل إلى التفكير الكئيب والاستبطان المتمركز في الشعور بالإثم والكرب، والموقف المسيطر ذي الوعي الذاتي الذي علامته الافتقار إلى الحرية الفردية والاستقلال.

ويرجع الموقفان إلى نشأة كيركيغارد وبيئته، نعني: التقوية البروتستانتية من جهة، وإرادة تأكيد الذات والميل إلى ذلك في وسط البورجوازية الناشئة من جهة أخرى، وقد "عبَّرت آراؤه عن بداية إنحطاط الفلسفة البورجوازية، فقد نادى – مثل شوبنهاور- بالأفكار اللاعقلانية، فالفكر في رأيه، لن يستطيع أبداً إدراك الواقع، لإن ما نفكر به ليس موجوداً في الواقع، انه فقط موضوع للفكر، أو إمكانية لا أكثر، ويمضي "كيركيغارد" في آرائه هذه ليؤكد استحالة وضع مذهب أو علم فلسفي يستوعب الواقع بأسره، وينير لنا طريق المستقبل.

الديمقراطية والسلطة/ الدولة عند كيركيغارد:
كيركيغارد، وبمعنى من المعاني، كان مضاداً للديمقراطية، وقد كان معجباً بالمَلَكية المطلقة المتنورة التي كانت في الدانمارك، حيث كان النظام المطلق الدانماركي، في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، وحكماً متنوراً ومعتدلاً.

لكن كيركيغارد، "خشي أن تصير الديمقراطية في الممارسة ديماغوجية، أي مجتمعاً يهدد الضغط فيه التمسك بآراء "صائبة" والانسجام باستقامة الفرد الشخصية، وهذا سيؤدي إلى اغتراب متزايد أو إلى قنوط وجودي، فالبورجوازي المنهمك بالعمل والذي لا يهدأ، وكذلك السياسي الهاوي المشغول والفارغ العقل سيسيطران –كما يقول كيركيغارد- على المجتمع ويزيحان المواقف الوجودية الحقيقية تجاه الحياة، لذا فإن نقد كيركيغارد لظهور الحكم الديمقراطي هو جزء من نقده العام للاغتراب والفقر الوجودي، فقد يخسر الإنسان نفسه في ما ليس جوهرياً، وضحلاً، ولا يكون ذلك في السوق وفي مكان العمل وحدهما، وإنما في السياسة والحياة الاجتماعية أيضاً. وسوف تزاح علاقات الحياة الأعمق، وستصير الحياة فقيرة من الوجهة الوجودية"([3]).

لم تكن آراء "كيركغارد" مجرد غلطة نظرية، بل أفكاراً مغالية في رجعيتها، لإنه ينكر واقعية الاجتماعي، فالواقعية التي يعترف بها هي "الذوات الفردية التي عليها أن تعتمد على نفسها فقط"، فلا فائدة –عنده- من الكلام عن الحياة الاجتماعية، لإن الدولة –كما يقول- هي المعنية بكل ما يهم المجتمع ككل، وليس على الفرد إلا أن يوكل اليها مهمة العناية بالمجتمع، وأن يحترم قدسية السلطة الحكومية، حيث يرى "كيركيغارد" في عصاة (كرباج) رجل البوليس رمزاً لهذه القدسية المطلقة"([4]).

في هذا السياق، يقول إميل برهييه: " يفضي الفكر الديني، لدى كيركغارد إلى ضرب من مذهب فردي وانطباعي لا يقل معاداة لمذهب هيجل عن فوضوية شتيرنر؛ فقد كان بَرِماً بكل ما يتلبس لبوساً موضوعياً، كلياً، لاشخصياً، وبالتالي هداماً للوجود الشخصي الذي يشغل، وفاقاً لمزاجه الاكتئابي، مكانة الصدارة من واقع الاشياء؛ فالموضوعية هي الخطأ، وإنما في الذاتية تكمن الحقيقة، فالحس أو الشعور الديني عند كييركغارد هو حس بِهُوَّة لا قرار لها بين الطبيعة والروح، بين الزمان والأبدية؛ ومثله مثل الايمانيين في فرنسا، أَبى التسليم بإمكانية التطلع إلى تعقيل الإيمان.

وفي خلاصة القول، كان لدى كيركيغارد ضرباً من لاهوت سلبي يضع النفس، على نحو ما رأينا لدى أفلوطين، في حضرة الله في عزلة مطلقة"([5])، فقد "كان يعتقد أن الوجود الديني أعلى الأنواع بين الأنواع الثلاثة "للوجود" الإنساني (الجمالي والأخلاقي والديني)، وانتقد الكنيسة الرسمية بسبب "نقص التقوى" لديها"([6]).

لم يكن كيركيغارد ضد فلاسفة الفكر في زمانه فحسب، وهم الذين اتهمهم بنسيانهم وجودهم، لكنه تحول أيضاً ضد أسلوب معين من الحياة عن طريق تأكيده أهمية تحمل المسؤولية الوجودية عن حياتنا ذاتها.

في هذا الجانب، "يتلقف "كيركيغارد" آراء اللاهوتي المسيحي المتعصب "ترتوليان" عن علاقة الدين بالمعرفة، أو علاقة الإيمان بالعقل، وهي تتلخص في "ان الإيمان بالله أمر غريب ومغلوط، إذا ما نظرنا اليه من وجهة العقل، لأن الله لا يمكن أبداً أن يكون موضوعاً للبحث المنطقي، فالله مسلمة بديهية، بدونها لا يستطيع الفرد ان يتحمل تناقضات الحياة ومآسيها، ومن هذا المنظار الديني ينتقد "كركيغارد" آراء الفلاسفة عن المعرفة الحقة، فالمعرفة الحقة عنده، ليست تحصيلاً يقوم به العقل، بل هي نتاجاً للإرادة التي تحدث عنها "شوبنهاور"، ومثل هذه المعرفة تأتي من الدين فقط، ولكن ليس أي دين، بل من الدين المسيحي وحده، فالمسحيية – كما يقول "كيركيغارد" هي الدين الوحيد الذي ينير الطريق القويم للبشر، والمسيحية كما يفهمها "كيركيغارد" تقوم على التشاؤم، انها مسيحية التشاؤم، مسيحية لا عقلية، غايتها، إنكار المعرفة، وإلغاء دور العقل، فلا عجب أن نرى اليوم رجال الكنيسة البروتستانتيه يعتزون بسلفهم "كيركيغارد" ويحنون هاماتهم إجلالاً لذكراه"([7]).

"وكشكل من أشكال البروتستانتية لم تكن مسيحية كيركيغارد مسيحية سعيدة وتحريرية، ولا مسيحية زهد وتهذيب أخلاقي، بل كانت مسيحية ألم وجودي عبر الصراع مع الإثم والخوف الذي تكون لنا فيه علاقة عاطفية وتأملية – ساخرة مع أنفسنا ومع الرب التاريخي "([8]).

الذاتية هي الصدق:
"إعتقد كيركيغارد بوجود مفهومين للصدق أو الحقيقة (Truth): أحدهما هو الصدق "الموضوعي"، ويفيد هذا المفهوم أن القضايا تكون صادقة، عندما تكون متطابقة مع الوقائع، وغالباً ما كانت تُدعى هذه النظرية بنظرية التطابق الخاصة بالصدق، أي: تكون القضايا صادقة عندما تتفق مع (تطابق لـ) الوقائع، أما المفهوم الثاني للصدق، فينطبق على نوعية علاقتنا بالعالم، وذلك هو الصدق "الذاتي"، فعندما نكون صادقين وباطنيين في علاقتنا فإننا نكون معبرين عن صدق. ولا توجد هنا مسألة تطابق قضايا مع الوقائع، بل مسألة شدة علاقتنا الذاتية ووجودنا الخاص، ويمكن، بهذا المعنى، أن نتكلم عن "الحب الصادق"، على سبيل المثال. والنقطة المهمة ليست في الحصول على قضايا صائبة عن شيء، بل في الحصول على نوعية معينة من العلاقة الإنسانية ذاتها، فالنقطة المهمة في المسائل الأخلاقية والدينية هي نوعية علاقتنا الوجودية بالحياة وبالرب الحي، والمقصود من عبارة "الصدق الذاتي" المحافظة على الفكرة المفيدة أن العلاقة الإنسانية، أي الذاتية، هي العلاقة الحاسمة في مثل تلك الحالات، وليس سواها، لأنه في مثل هذه الحالات لا يوجد وقائع موضوعية يمكن الاستفادة منها لحل المسألة، ولأن التركيز هو على الموقف العاطفي والباطني من الحياة، تحديداً"([9]).

لم يعتبر الإيمان المسيحي مسألة "صدق ذاتي" وحسب، أي إنه علاقة إيمانية باطنية وعاطفية، فقد اعتقد كيركيغارد أن المسيح عاش ومات "كصدق موضوعي". وما ذلك بنظرية، وإنما هو حدث تاريخي يدركه الإيمان، غير أن المسألة أكثر تعقيداً: فقد رأى كيركيغارد الحياة الإنسانية محاطة بالمفارقات والتناقضات، وليس الإيمان المسيحي بأقلها، الذي يظل مفارقة، وفي نهاية المطاف يصير الإيمان أُحجية – لعقلنا. لذلك من المهم التأكيد أن الحياة تتميز بقفزات تعجز الحجج وعملية النضج عن التغلب عليها، فالإيمان العاطفي التاريخي أعظم المفارقات والقفزات جميعها، وأهمها.

على أي حال، "لم يقدم كيركجارد نظاماً فلسفياً بالمعنى المعروف –كما يقول بوشنسكي-، إنما هو يهاجم أعنف هجوم فلسفةهيجل، وذلك بسبب طابعها "العمومي" وبسبب اتجاهها الموضوعي، وهو ينكر إمكان التوفيق والمصالحة، أي إمكان هدم المعارضة بين القضية ونقيضها في تركيب جديد عقلاني ومنظم. ويؤكد كيركجارد أولوية الوجود على الماهية، وربما كان هو أول من أعطى كلمة "وجود" معناها "الوجودي".

وكيركجارد –كما يضيف بوشنسكي- "معارض للعقل إلى أقصى درجة، فهو يرى انه لايمكن أن نصل إلى الإله بوسيلة طرائق الفكر، لأن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات، ويعتبر أن كل محاولة من أجل إضفاء طابع عقلي عليها هي تجديف وكفر"([10]).

غالباً ما يقال إن سارتر وجودي، غير أن الوجودية، ليست مدرسة فلسفية بمعنى دقيق، فالمصطلح يطبق على مفكرين متعارضين مثل الكاثوليكي غبريالي مارسيل، والملحد جان بول سارتر، والنسوية سيمون دو بوفوار، والدائي كارل ياسبرز، وفيلسوف الوجود مارتن هايدغر، غير أننا نستطيع باستعمالنا عبارة فتغنشتاين أن نقول بوجود تشابه أسروي معين. اما جذور هذه الطريقة في التفكير فتعود إلى كيركيغارد وباسكال واوغسطين وسقراط.

كان كيركيغارد مؤلفاً مجداً، وغالباً ما كان يستعمل أسماء مستعارة في ما ينشره، وغالباً ما تميزت كتاباته بالسخرية والهجوم الجدلي العنيف، لكنه لم يحظ في أثناء حياته بأي تأثير يذكر، لكنه عُرفَ بعد وفاته، في بداية القرن العشرين.

ومن بين أفضل أعماله المشهورة نذكر "إما / أو" (Either / or) و"الخوف والارتجاف" (Fear and Trembling) و"مفهوم الرهبة" (The Concept of Dread) و"شذرات فلسفية" والملحق الاختتامي اللاعلمي، وجميعها نشر في أعوام 1843 – 1846 .




([1]) لجنة من العلماء والاكاديميين السوفياتيين – الموسوعة الفلسفية – دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص400

([2])غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص 699

([3]) المرجع نفسه - ص 715

([4]) جماعة من الأساتذة السوفيات – موجز تاريخ الفلسفة - تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص594

([5]) اميل برهييه – تاريخ الفلسفة – الجزء الأول: الفلسفة اليونانية– ترجمة: جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت - الطبعة الأولى، يونيو 1982 – الطبعة الثانية 1987- ص 303

([6]) لجنة من العلماء والاكاديميين السوفياتيين – مرجع سبق ذكره – الموسوعة الفلسفية – ص400

([7]) جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص595

([8]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 711

([9]) المرجع نفسه - ص 713

([10]) بوشنسكي – الفلسفة المعاصره في أوروبا – ترجمة د. عزت قرني – عالم المعرفة 165 – سبتمبر 1992.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في