الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتخابات الأمريكية والخوف من المجهول

احمد شحيمط
كاتب في مجالات عدة كالفلسفة والاداب وعلم الاجتماع

(Ahmed Chhimat)

2021 / 1 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


تزداد التساؤلات عن الممكن والمستحيل في انتخاب "جو بايدن" الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية في ظل التكهنات من اقتحام جديد للكونغرس أو الزيادة في التوتر بين الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، أظهرت الحملة الشعواء من قبل أنصار الرئيس" ترامب" والمحسوبين على الحزب الجمهوري، ردود الأفعال متباينة، الناقمين على السياسة الأمريكية، والحاقدين عليها في العالم يتمنون نهايتها والتعجيل بفنائها، والماجين لها يدركون أن الولايات المتحدة تسير في خطى بعيدة عن ثقافتها وقيمها الضاربة جذورها في التاريخ، ولن تكون قوية إلا بهذه القيم العظيمة التي نالت الاحترام والتقدير في العالم، عندما تبوأت المكانة والصدارة في عالم اليوم كقوة عالمية، هنا نلمس روافد من الفكر الإستئصالي، والخطاب القومي الأحادي، الذي يلغي الآخر الذي استوطن أمريكا فأصبحت ملاذا جديدا، ووطنا بديلا، ولم يعد هناك حاجة للعودة للوطن الأول، أرض الهجرة والاستقرار، وطن المهاجرين البريطانيين والأسيويين والأوربيين بصفة عامة، والأفارقة الذين انتشلهم الرجل الأبيض من أرضهم قسرا في إطار تجارة العبيد، وقدموا تضحيات في نهضة أمريكا من خلال الأعمال الشاقة في مزارع القطن والسكك الحديدية، ونالوا نصيبا كبيرا من القهر والظلم، مخاوف مشروعة وأحيانا مبالغ فيها ، أزمة الانتخابات الأمريكية تعني بداية الصراع الذي لا ينتهي على الحكم والأحقية في القيادة، وتبقى الاتهامات متبادلة في التزوير .

الخوف من المجهول في صعود الشعبوية، والتيارات الرافضة للنخب الكلاسيكية في اجترار للخطاب الروتيني المفعم بالوعود الديمقراطية، وآمال الرخاء، لذلك صوت الأمريكيون لشخص آخر قادم من عالم المال والأعمال، صريح في لغته وتهديده، خطابه بعيد عن التنميق والمجاملة، يعبر عن رغبتهم في التجديد، الصوت النابع من ثقافتهم وأمجادهم، قريب من هوية الناس وتطلعاتهم، فوزه بالانتخابات كان ضربة قاسية للمنافسين، فجاءت الاتهامات بالتلاعب في الانتخابات من قبل الديمقراطيين، وتدخل روسيا في اللعبة السياسية، وهنا بدأت بوادر الأزمة تفرض نفسها كحقيقة ثابتة، 75 مليون صوتوا على ترامب كما يقول، ولم يكن الرئيس شعبويا لا يرقى للتطلعات الشعبية في نهضة أمريكا، والثبات على قيمها، بل رئيس وضع الأمريكيون الثقة في أدائه، حملوه مسؤولية دولتهم، فكانت قراراته صائبة واستفزازية في كثير من الأحيان، أحاط نفسه بأشخاص يقدمون الطاعة والولاء أكثر من الخبرة والكفاءة، تنصل من الاتفاقيات الدولية المهمة، وخرج بخطاب ناري اتجاه بلدان بذاتها، وحاول فك الارتباط معها، وأثارت أفكاره تحفظ أوروبا، من الاستفراد بالقرارات، وعدم الإنصات لصوت الضمير والعقل، ولذلك لوح ترامب كثيرا برغبته في عودة أمريكا عظيمة، إنه يخبر الغرب برمته أن الصعود والنزول في ميزان القوة العالمية مرده للمواجهة المباشرة وغير المباشرة مع القوى الصاعدة في الشرق، اتهام الصين بتدمير العالم من خلال الفيروس الصيني، والتلويح بالضربة النووية والعسكرية الشديدة لإيران في مواقعها الحيوية، وقف المفاوضات معها حتى تستجيب للشروط الدولية، وفك العقدة مع منظمة الصحة العالمية، واتهامها بالتحيز والتستر على الصين ، إضافة للتباطؤ في مواجهة فيروس كورونا.
ما يحسب لدى ترامب وفق أنصاره وكبار مساعديه، القضاء على ما يسمى الإرهاب في عقر داره، حماية أمريكا من تدفق المهاجرين، وفرض هذا المنع الذي طال بعض البلدان الإسلامية، وبناء الجدار مع الجار القريب المكسيك، تحصين أمريكا من القادم، فكانت هذه الفكرة أشد تأثيرا في العقلية الأمريكية، القادم أخطر يمكنه تهديد الوجود الأمريكي في النموذج المثالي الذي أقامه المهاجرون الأوائل لأمريكا من البروتستانت، الذين شيدوا أولى المستوطنات، وحملوا معهم القيم البروتستانتية وقيم الحرية والعمل، وكأننا نلمس هنا أفكار "صمويل هنتغتون" عن الهوية والذات في قلب التهديد من قبل حضارات معادية، والتهديد المصاحب من الداخل بفعل تنامي الهويات المضادة للقيم الراسخة التي شكلت وحدة أمريكا في مهدها، عندما خرجت منتصرة من الحرب الأهلية، وقدمت للعالم نموذجا مكتملا في السياسة والثقافة والحضارة، تركة المحافظون الجدد، ونزعة الاستعلاء في وحدة متصلة بين الفكر البرغماتي والليبرالية السياسية التي تترك بصمة في عقول الناس عن مثالية المبادئ ونهايتها، الصين الصاعدة نظامها هجين، بلد شيوعي لا يستطيع تقديم ما هو مفيد وصائب للبشرية سوى ما تحمله الأسواق من منتجات صينية، وتنافسية لا ترقى لما تمتلكه أمريكا من قوة مادية ومعنوية في الجمع بين الأداء الصناعي والقدرة العالية في الإنتاج والتسويق، والنماذج المثالية في تدبير السياسات الاقتصادية والمالية، الحضارة لن تشرق مجددا من الصين بفعل تقاليدها الأبوية وغياب الوعي الذاتي والحرية، وهيجل في تحليله للعالم الشرقي اعتبر الحضارة مكتملة في الأمم الجرمانية، ولا بأس أن تنتقل للعالم الجديد، أرض الأحلام والآمال الكبيرة في قيادة العالم نحو الرخاء والتقدم، ومالك بن نبي عل طريقة ابن خلدون، يعتبر أن الحضارة تبدأ وتنمو وتتراجع، والحضارة تشرق من الشرق، وتعود في دورة كاملة إليه، محكوم على الأمم السقوط والتراجع لأجل ظهور قوى جديدة بثقافة أخرى، تعيد رسم معالم النظام العالمي، أو على الأقل تنتهي نحو تكريس تحالفات وتوازنات في سياق تعدد الأقطاب، وليس القطبية العالمية الواحدة ، عالم متعدد بموازين القوى الصاعدة أفضل من الهيمنة الأحادية .

نعتقد أن مرحلة ترامب كانت بمثابة تحول في مسار الديمقراطية الأمريكية، هواء جديد يصيب أمريكا في ثقافتها الديمقراطية، وهذا السخط العارم على القوى التقليدي، مما فسح المجال أمام ظهور الشعبوية، والبدائل في خطاب لم يعد يتماهى والنخبة السياسية المتمرسة بالقواعد الديمقراطية، التي تقدم وعودا عن الرخاء وحل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية، يمكن القول أنها لعنة أصابت أمريكا في نموذجها، وأنها رسخت الفكرة القائلة أن بوادر الانهيار موجودة بداخلها، كانت مؤجلة إلى حين، ولم تعد الحروب الخارجية كفيلة بسد هذا النقص في التماسك الاجتماعي والتوافق السياسي، لذلك نجد ترامب واثقا من ذاته للفوز بالانتخابات، ولعبة الديمقراطيين بمثابة در الرماد في العيون، ولا ثقة في الإعلام وسمومه، والأكاذيب التي يرميها للناس حتى يعتقدون بفوز جو بايدن، بل هناك تجاوزات وحقائق ساهمت في تحييده عن المشهد السياسي، أكثر من ذلك، هناك الدولة العميقة في قلب النتائج ، من هنا يبدو الخوف على أمريكا من أفول نجمها مشروع وواقعي، يعيد التفكير الجاد من قبل أهلها، الذين يتقاسمون بينهم المبدأ والثقافة لإعادة النظر في نظامها، ومنطق هيمنتها على العالم، من خلال الانكفاء على الذات، والعودة للمجالس الأممية دون أن تكون أمريكا شرطيا للعالم، والأمر الآخر أن الأزمات السياسية في أمريكا ليست بالجديدة، وهي غالبا ما تعيد الأمور لطبيعتها عندما يستبدل الرئيس، وتختفي الأزمات وتشتعل أخرى في العالم، ويبدأ الالتفاف مع النظام في الشعور بالخطر المحدق من الداخل والخارج .
صورة أمريكا اهتزت باكتساح الكونغرس في مشهد واضح، منقول بكاميرات القنوات الإعلامية، صورة الدولة العظمى التي ترصد حركات النمل في الأرض، وتراقب عن كثب خطوات السياسة العالمية، عندما ترسم الممكن والمستحيل، وتضع العقوبات الاقتصادية وتتحكم في مصادر المعلومات، لا تزال تمسك بخيوط اللعبة وتديرها ، نهاية أدوارها في العالم بالتأكيد يفتحنا على فرضيات معقولة في تراجع الهيمنة المباشرة بالقوة والنار نحو العودة للذات، وحل الأزمات الداخلية، من التفاوت الطبقي، والشرخ الاجتماعي، وتنامي العنصرية، وصراع الأقليات، والخوف من الآخر ، والحد من جموح الرجل الأبيض، إضافة للحذر من عودة المكبوت الديني من خلال تصاعد الخطاب الديني المتطرف، والسماح للقوى الدينية في التعبير عن ذاتها، رغم الفصل التام بين السياسة والدين، وبين العام والخاص ، عودة الإنجيليون ودعمهم السخي للرئيس ترامب من إيمانهم الشديد بعودة المسيح لأجل المعركة الكبرى بين قوى الخير وقوى الشر، ففي حادثة مقتل "جورج فلويد" رفع ترامب الإنجيل، بينما هدد بتدخل الجيش للقضاء على موجة السخط العارم في مدن عدة ، نوايا المتظاهرين كانت واضحة، وهي الرفض المطلق للعنصرية، والإساءة من قبل الشرطة في استخدام القوة ضد المواطنين ، الشكوى من المعاملات القاسية لرجال الأمن يعني رفض المواطن الأمريكي للتمييز العنصري، لا أحد فوق القانون، وليس الناس بالأفضلية في اللون والجنس والطبقة، فالسؤال المطروح ماذا بعد ترامب؟ وهل يمكن الإعلان عن نهاية أمريكا كقوة عالمية مهيمنة أم نشهد ميلاد أمريكا بفلسفة جديدة تعيد وهجا للديمقراطية ؟

خطاب ترامب بين الأمس واليوم يدل على الليونة في اللغة والتعبير، تنصل من العنف، وحمل المتظاهرين كامل المسؤولية، قراءة في الفعل تنم عن الخوف من المتابعة القضائية، ومن انزلاق أمريكا نحو حرب أهلية، تبدأ شرارتها بطيئة، وتعم على كل المدن، وبالتالي لا يمكن إخمادها ، رصاصة قاتلة في سمعة الحزب الجمهوري، وشماتة البعيد في هيبتها وأوهام تسويقها للديمقراطية، أمريكا غير مستعدة لشن الحروب الإستباقية ومغامرة الحرب الأهلية، تريد ترميم ذاتها من الداخل وكأنها باتت تدرك جسامة المرحلة لإعادة النظر في نظامها الرأسمالي، وسوء توزيع الخيرات من خلال عدالة اجتماعية غير متكافئة بين الأغنياء والفقراء، إستراتيجية المرحلة القادمة غير واضحة المعالم، لا نعلم ما يحمله الخطاب السياسي الجديد، ولو تبلورت معالمه، سيكون هناك علامات، منها استكمال صفقة القرن، والزيادة في سياسة التطبيع مع إسرائيل ، محاولة الصلح مع العالم السني لأجل الاستقطاب والاستمالة في مواجهة الطموحات التوسعية الإيرانية في الشرق الأوسط، وتشكيل أقطاب وتحالفات عالمية ضد التنين الصيني، إعادة العلاقة إلى طبيعتها مع الاتحاد الأوروبي، والإبقاء على قوة الحلف الأطلسي، عكس ما كانت ترمي إليه سياسة ترامب في تفكيك الوحدة الأوروبية، والتنصل من الاتفاقيات الدولية، وأحيانا فرض عقوبات اقتصادية، ناهيك عن استكمال الصلح مع حركة طالبان، والتضييق على الصين في إفريقيا، والزيادة في التشديد على الهجرة غير الشرعية من دول الجوار، واللجوء للسياسة الحمائية، والتنصل من اتفاقيات خاصة بالمناخ، العودة أكثر للخطاب الناعم الذي يميز قادة الحزب الديمقراطي، لكن المخاوف على الهوية الأمريكية تبقى قائمة، مردها للأخطار الداخلية أكثر من الخارجية، وليس الخوف من الإسلام من يفزع أمريكا ويهدد وجودها، أو القوة النووية الكورية، بل تنامي الهويات المتعددة، يقوض من مكانة أمريكا في العالم عندما يتراجع نفوذها نحو ميلاد حركات متعددة تطالب بالحق والإنصاف، ولعل السنوات المقبلة كفيلة بإظهار الحقائق التي تنذر بالأزمات حتى تصدق تنبؤات هنتغتون من خلال الخوف على أمريكا من ذاتها أكثر من الآخر، صراع الحضارات، يصبح مجرد تدافع وتنافس، والغليان الداخلي، يشعل أمريكا في إطار الصراع بين الهويات القاتلة والمدمرة، ينتقل الصراع من السياسة إلى الثقافة، ويعيد الرجل الأبيض عقارب الساعة للوراء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر