الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح4

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 22
الادب والفن


نهاية باردة
أنتهت حرب تشرين بأيامها المعدودة وأنتهت معها حكايات وبدأت حكايات أخرى وما زال العالم من حولي مليء بما هو غير متوقع، مات حسن خدادات ولم تتحسن أمورك يا عبد، لم يعد هناك ما يشغل ويشعل الحديث بين جلساء جدي غير الحديث المعتاد... أخبار... قال ... سمعت.... كما صارت الأيام تبدو في بعض جوانبها ثقيلة وفي جوانب أخرى تركض سريعا، وحده أبا هارون من ألتقيه وأتكلم معه يوميا حتى في كل ما كنا نلتقي عليه لم يعد مثيرا كالسابق... رتيب حد الملل.
عريف (عيفة) هذا كل ما في أسمه منتسبا في الجيش العراقي يحكي لجدي عن صولاته وصولات رفاقه في الجيش وكأنه يعرض له شريطا مصورا بكل تفاصيله عما جرى، كان منتشيا حد الغرور وهو يسرد ما فعله في مواجهة الجيش الإسرائيلي المذعور من وجودهم في الجبهة السورية وتحديدا عن معركة قمة جبل الشيخ، كان الإسرائيليون مثل الأرانب يفرون في كل أتجاه ويتذكرون كفر قاسم ومعارك الخليل في العام 48، سرت النشوة والزهو لروح جدي وكأنه كان أحد أولئك الذين قاتلوا بكل بسالة، أنهى عريف عيفة حلاقته بمزيد من الكولنيا والعطر الذي يجود به جدي على خاصة الخاصة مختتما كلامه معه، عيفه هذه الحلاقة جزء من رد الجميل لك ولرفاقك..... سعيد أن يكون الجندي العراقي هكذا لا يهاب الموت من أجل كل ذرة تراب عربية، كان أبا هارون يستمع لكل الحديث ولم يشارك به لكنه كان يود أن يقول..... عريف عيفة سرقت بقرته من بيته منذ أيام وكان كالأهبل لا يعرف ما يفعل! أتصدق بهذا؟ إنه مجرد عريف سائق في وحدته العسكرية في كركوك لم يرى من الحرب إلا ما رأينا منها نحن.... إنه يحلم أو لأقل لك كان يكذب.
لم يكن جدي مصدقا لما سمع أنه رجل عسكري ورأيت الفخر بعيونه كما لو كان بطلا بحق، على كل حال ستكشف الأيام لك ما أقول.. تعرف جارنا حسين دبابة...
_نعم حسين أبن الملا هذا الهارب المدمن من وحدته.
_ بالرغم من أنه كان هاربا بمجرد سماعه أخبار الحرب نهض مسرعا وألتحق بوحدته فورا!.
_ يا للعجب... وكيف وهو الذي لا يطيق فراق الشارع وأصحابه؟.
_ في منتصف الليل وهو يسمع أخبار الحرب نهض وأرتدى أفضل ثيابه العسكرية وودع والدته وذهب من فوره، لا أحد يصدق هذا، ألتقيته في الطريق وهو يحمل حقيبته متوجها إلى بغداد وسألته .... ها أنت ذاهب للحرب...
_ الجندي الذي لا تثيره الحرب ولا تستطيع إيقاظ ما بداخله من رجولة ليس بالجندي الحقيقي، كنت أمقت وجودي في وحدتي دون أن أعيش ما تعني لي كلمة الجندية، لذا في كل مرة أهرب منها لأنها تسلبني حقي كجندي يدافع عن وطنه.
_نعم معه الحق الرجال تجذبهم نخوتهم وليس بالضرورة أن يكونوا كما نعرفهم طاهرا.
_تصور هذا حسين دبابة الذي عرف دوما بــ (حسين إفرارية).
_ الرجال مخابر يا أبا هارون...
لم يكن حسين دبابة سياسيا ولم يكن بعثيا ولا شيوعيا ولا حتى يفهم ماذا تعني، لكنه يفهم أن الرجل أبن الواجب، الرجل الحقيقي يؤمن بخياراته دون أن يدفعه أحد أو يدعوه أحد، نشأ يتيما في ظل والدته الملا كظيمة قارئة القرأن والشاعرة والنائحة على الموتى، نذرت حياتها له وسمي باسمها دون أن يذك أحد والده، إنه يفخر باسم حسين أبن الملا، شاب ممتلئ جسما وحيوية أبيض الوجه مدور له عينان حمراوتان وفم مبتسم دوما، بالرغم من كونه أبن الملا إلا أنه عاشق للخمرة والمزاح، ككل الشباب في المنطقة يهتم بإناقته كما يهتم ببناء جسمه الرياضي، كتلة متراكمة من القوة الجسدية وكأنه دبابة فعلا.
في تلك الأمسية طلب جدي من جدتي الذهاب إلى جارتنا وصديقتها الملا أم حسين لتسألها عن أخبار حسين، وهل حقا شارك في الحرب؟ كانت دموع الملا تنهمر وهي تسرد ما كنت تتخيله لو أن ولدها أستشهد أو أسر أو أصابه شيء في الحرب، قضيت كل الأيام والليالي وهي تنتظر أي خبر منه وهي صائمة لوجه الله، تخشى الفجيعة حينما تأت غفلة، كانت تحلم يوميا أنها تركض وراء ولدها دون أن تطال منه لمسة.. وبعد التعب تنهض مرعوبة من نومتها، كان عقلها الباطن يوحي لها أن حسين ذه مع الريح... وفجأة جاءت البشرى كما جاءت إبراهيم من قبل.... مكتوب من حسين يحمله ساعي عبد البريد ليزف البشرى أن ولدها ما زال حيا يأبى الهزيمة.
هكذا هم الرجال حينما يجتازون نفق الضياع تظهر معادنهم والنساء من خلفهم يحملن الآهات والوجع وحيدات يخشين من ما هو غير محسوب، أم حسين لم تكن أكثر من سيدة نذرت نفسها لأبنها لتعوض به ما حرمت منه كزوجة غادرها الزوج سريعا لتتحمل هي وحدها تلك الأمانة، مثلها الكثيرات ومثل حسين الكثيرون، ومثل عيفة ومن يتبجح بالسياسة والمال وكثرة الولد دون أن يهتموا بالوطن أو ينشغلوا به أكثر، عندما قص جدي قصة حسين لرفيقه عبد أبو عيون رأيت الرجل يبكي لأول مرة ولم ينبس ببنت شفة، مسح دموعه باليشماغ وخرج كالعادة يتعثر في مشيته حتى دون أن يودع جدي، رأيت جدي في هذه المرة شبه منكسر وعلى وجهه علامات الحزن، لماذا يا جدي بكى عبد أبو عيون.... قال لي بحكمته .... عند المحك تعرف طينة الرجال... عبد رجل في قلبه كل العالم يحب ولا يكره... دعك مما تسمع منه فهو إنسان يملك قلبا نقيا وعقلا كبيرا، لذا فهو ناقم من كل ظلم يتعرض له الإنسان.
الذين يستهزئون بعبد يسمونه ماركس العراقي وكأنهم يشيرون إلى أنه غريب عن الواقع، غريب عما تعتقده الجماعة وتؤمن به، عرفت الآن لماذا لم يحتج عليهم وكان سعيدا أن ينادونه بذلك، تأملت لو أن في مجتمعنا ألف ماركس وألف أبي ذر وألف غاندي هل يمكن أن نبقى هكذا مجرد ثرثارون على مقاعد الكسل في المقاهي نقتل الزمن كما قتل أجدادنا بناتهم خوفا من العار؟ لا أدري ربما يأت اليوم الذي نرى فيه هذه الجمهرة من الشخصيات تقود العراقيين للتظاهر ليس ضد الحكومة بل ضد أنفسهم لأنهم نسوا أنهم أبناء الرافدين، أبناء من بنوا أول الحضارات وكان غيرهم ما زال يعيش مع البهائم كما يعيش الأخوة في زرائب ومغارات وكهوف الجبال.
عاد خالي إلى كربلاء بعد أن أنتهت عقوبته الإدارية وبقي الجو فاترا لا فيه حرارة توقظ المشاعر ولا برودة تنعش النفس، الحماسة التي أطلقتها حرب تشرين بردت مع مرور الأشهر الرتيبة، عام دراسي جديد لا يحمل أي أمل باجتياز حاجز البكلوريا، ما دام هناك درس اللغة الإنكليزية الذي كرهته كما كرهت اليوم الذي سن فيه درسا من دروس التعليم، كيف لي أن أفهم ما لا أستعمله يوميا أو أجد من يساعدني على أن أتذكر تلك الكلمات والجمل التي عادة ما أتركها خلفي في الصف عند رن جرس الخروج من المدرسة، بدأت أحاول تقليد شقيقي في رسم لوحات صغيرة مستخدما بعض المصطلحات التي أسمعها منه مثل السريالية والفن الحديث والفن لأجل الفن، هو رسام كبير بالفطرة لكنه فنان مثقف ذكي هادئ وعميق، أحيانا يسخر مني حين يسمع مني حديث مع صديق أو رفيق، لا يمكن أن أكون أكثر قربا منه، له أطباع تنافر أطباعي، منظم مرتب عميق عكسي تماما أنا الفوضوي الذي لا هوية له بالرغم من فارق العمر، لكني كنت مصرا على أن أمضي كما أشاء غير أبه بعقوباته.
خالي الأصغر في موقع المسئولية الحزبية في المدرسة قريبا مني وأنا قريب منه مع فارق العمر لكنه أكثر تفهما من غيره، وإن كان هو أيضا الأقرب لأخي الأكبر كونهما نشأ سويا في عمر متقارب فهم أصدقاء أكثر من كونهما خال وأبن أخت، أخي الثاني الأكبر مني الفتى المدلل الجميل الذي تعشقه الفتيات لا هم له سوى التمتع بكل شيء، حزبي مع الحزبيين ومراهق مع المراهقين، شلة أصدقائه منهم من هو صديق مشترك والأكثر كنت لا أرغب فيهم، تنافس أحيانا وبشدة على رئاسة نادي مجلتي والمزمار الذي أنشأناه أنا ومنذر ورياض وأخرين، في كل مرة هو من يفوز بالرئاسة لنمضي أسبوع أو أكثر ونختلف وتجري الأنتخابات مرة أخرى وتتبدل الوجوه ولكن شقيقي في كل مرة يبقى هو الرئيس.
نت المنظر والمعد للبرامج أشارك في تهيئة النشاطات ومنها المسرحيات التي كنا نعرضها في مواسم العطل والمناسبات في بناية المنظمة الحزبية التي كانت في الأصل مدرسة ثانوية للبنات وتم هجرها لتكون مقر للمنظمة والنقابة والجمعيات الفلاحية، كانت المقرات عبارة عن غرف تفتح في أيام محددة لساعات، كل شيء كان يوحي بالبساطة، لم تكن هناك رسميات ولا مقرات محروسة ولا أجتمعت وحضور وخفارات، أكثر من يتواجد في البناية أنا ورفاقي في النادي فلا مكان يجمعنا سويا كل يوم إلا هنا، غرفتين حاولنا أن تكون مقرا دائما لجمع بعض الأصدقاء من زملائنا في المتوسطة والثانوية وبعض ممن يرون فينا تجمع جميل.
تركنا كل هذا ورائنا فنحن نكبر ودائرة الحياة تتوسع أمامنا يوم بعد يوم، منا من أنتقل للمرحلة الإعدادية ومنا من فشل فيها ليجد أبواب التجنيد الإجباري تدعوه لينخرط في خدمة العلم، كان عام 1977 هو عام الفصل بيننا كمجموعة موحدة، اخي الأكبر ألتحق في الجيش بعد أن فشل في أجتياز البكلوريا فيما أنا عبرت هذا الخانق بصعوبة، لكنني أدركت أن إهمالي للدراسة يعني إعلان فشل كبير ولا بد لي من أن لا أفرط بأي فرصة لأكون كما أريد، لأول مرة في هذا العام تحديدا أظهرت تفوقا دراسيا بين أقراني، ها أنا أعود من جديد لنفسي بنفس وأعبر عن أحلامي بواقعية واضحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض