الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .

صباح هرمز الشاني

2021 / 1 / 23
الادب والفن


معظم الروايات العراقية التي صدرت بعد سقوط النظام السابق، تصدت للأحداث الكارثية التي مرت ببلدنا، للفترة الممتدة من عام 2003 الى يومنا هذا. وأبرز الروايات التي سارت على هذا النهج، على سبيل المثال لا الحصر، وأتخذت من مكابد الشعب العراقي سبيلا لمتنها الحكائي هي رواية: (مالبورو – بغداد) لنجم والي، وروايتي (حديقة الرئيس) و(بنت دجلة) لمحسن الرملي، (وفرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي، (وطائر الوشم) لدنيا ميخائيل، (والنوم في حقل الكرز) لأزهر جرجيس، مع معظم روايات عبدالخالق الركابي، ولا سيما روايته التحفة (سابع أيام الخلق)، بالإضافة الى عدد كبير غيرها من الروايات. إلآ أن ما يميز الرواية التي نحن بصددها عن غيرها من الروايات التي تناولت الثيمة نفسها، هو أنها أكثر جرأة في طرحها لما يحدث وراء الكواليس من مؤامرات ومكائد ضد الشعب العراقي في الداخل والخارج على حد سواء، (داخل الحانة وخارجها)، داخل الحانة = العراق. خارج الحانة = الدول المجاورة لها. وهذا ما سنتناوله لاحقا. بالإضافة الى إستخدامها لمجمل التقنيات والأنماط السردية المعروفة في الرواية الحديثة، في بناء الشخصيات ولغة السرد، وتبنيها لمنحى الميتا سردي، ومظهري المونولوج والبوليفونية (رواية متعدد الأصوات)، وتقنية (مسرحية داخل رواية).

لم يدع السارد الضمني على إمتداد (150) صفحة من حجم الرواية، إتساقا مع أحداثها التي تثير التوتر والترقب، أن يتوقف المتلقي في محطة من محطاتها للإستراحة فيها، بفعل المأزق الذي زجه فيه، وفي الوقت نفسه في المأزق الذي زج هو بنفسه فيه، وذلك من خلال عدم تقسيم هذه المحطات الى فصول أو وحدات، أو حتى وضع عناوين لها، ماعدا عنوان (إبتهال) الذي يأتي في مطلع الرواية، بهدف ان يستمر في قراءتها، إنسجاما مع وحدة موضوع الرواية، وبإستثناء الثلث الأخير من نهايتها، بغية أن يتواصل مع هذا الشد، وعدم إنقطاعه، وزيادة إيقاع وتيرة عنصري الترقب والتوتر، بلوغا للنهاية المفتوحة.

تدور أحداث رواية (تسارع الخطى) لمؤلفها أحمد خلف، حول إختطاف السيد عبدالله، وهو ممثل وكاتب مسرحي، من قبل إحدى العصابات المنتشرة في العاصمة بغداد، للضغط على أهله وأقاربه ومعارفه لدفع مبلغا من المال (فدية)، لقاء إطلاق سراحه، حيث أختطف أثناء توجهه الى الكلية التي يدرس فيها (رياض) للقائه، سعيا لزواجه من أبنة أخته (هند) الذي غدر بها هذا الشاب المتهور، عبر جرها الى إحدى البيوت المشبوهة لممارسة الجنس معها تحت تهديد التخلي عنها في حالة عدم إستجابتها لرغبته.
تكشف الرواية من بدايتها، أنها ليست بصدد إستخدام التقنيات والأنماط الحديثة المعروفة فحسب، وإنما لتماثل مستوى هذه التقنيات والأنماط مع المتن الحكائي للرواية، الأتيان بتقنيات تضاهيها حداثة، إتساقا مع أكثر الطرق الحديثة المستخدمة من قبل الإرهابيين في عمليات الخطف والأغتيال والإحتيال والسرقة. وذلك من خلال التعويل من مطلع الرواية على تماثل صوت السارد مع صوت (فاطمة)، بإستخدامهما لضمير المتكلم المخاطب. الأول في جملة: (هل لي معرفة أين أنا الآن)، والثاني في مخاطبة الأول(السارد) همسا لئلا يسمعه الخاطفون، في جمل وعبارات تربو على الصفحة، عاهدة إياه على إطلاق سراحه: ( لا تصدر أية حركة بقصد أو بدونه! وأعلم أن الخطوة القادمة سأتكفل بها وحدي، وسأبذل قصارى جهدي في إطلاق سراحك من هذا الجحر المظلم نحو الدنيا الواسعة، دنياك التي تفتقدها الآن).

وهذا التماثل في مستوى التوازن لا يتمظهر في ماهية إستخدام الصوتين فحسب، بل في تقسيم الرواية الى جزئين أيضا، بمنح الثلث الأخير منها للمسرح. وكذلك في تعامله مع شخصيات الرواية، إذ لا يستقر على رأي معين في كون هذه الشخصية أو تلك تقف معه أو بالعكس تقف ضده.
فمن إطلاق سراحه من قبل فاطمة التي هي مثله أسيرة، تبدأ الظنون تراوده بمديات مصداقيتها، متلبسا شخصية (هاملت) المركبة من جهة، وفي الورطة التي وقع فيها، بتضحيته لأجل أبنة أخته بشخصية السيد المسيح من جهة أخرى، في عبارته المشهورة: (إلهي لماذا تخليت عني). فبإطلاق هذه الصرخة التي تنم على الدعوة الى نجدته، تتماثل الشخصيتان، هاملت والسيد المسيح في محنتهما مع بعضهما البعض، أسوة بالتماثلين الآنفي الذكر. فهو في الوقت الذي يرى فيه، أن إطلاق سراحه من قبل الفتاة ما هو إلآ لعبة يلعبها خاطفوه لكي تستدرجه الى بيته، في الوقت ذاته، ينعت صوتها بالناعم والرقيق، ما يوحي أنه يتعاطف معها، لا بل يحس بأنها: ( تبث في أعطافه نوعا من الأمل، وهي تسترسل في خطابها معه، كأنها لم تشغل بالها به أو بغيره.).
إن السارد الضمني الى نهاية الرواية، لا يكشف عن حقيقة شخصية فاطمة، من حيث كونها مع الإرهابيين أو ضدهم، ويترك المتلقي كالنهايات المفتوحة والقابلة لعدة قراءات وتأويلات، أن يتوصل هو بنفسه الى هذه الحقيقة.
لم يكتف السارد بإحاطة شخصية فاطمة بنوع من الغموض، بالإشارة في كونها أحد أفراد العصابة، وإنما ضاعف من تأكيده الى الضغط على هذه الإشارة لأكثر من مرة، لزياد الغموض. في المرة الأولى، أطلقت سراحه لكي تستدرجه الى بيته، وفي المرة الثانية عندما أستقبلت هند ورياض في بيت الدعارى، فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، تدعى (فاطمة). ما يدعو الى الإعتقاد بأن الإرهابيين الذين أختطفوا السارد، هم الإرهابيون أنفسهم الذين لجأ اليهم رياض لغرض تنفيذ فعلته الشنيعة. ذلك أن أسم الفتاة التي حررت السارد من الأسر، كان فاطمة أيضا. وفي المرة الثالثة، عندما تظهر المرأة للسارد في الحقل مع الرجال الثلاثة الذين يبحثون عنه، أثناء هروبه من أيدي الخاطفين، لما يوحي هذا الظهور للمرأة، بأنها واحدة منهم. وفي المرة الرابعة لدى سماعه صوت إمرأة تهمس بالقرب منه: (إنه يكذب جماعتنا أكدوا عمله تاجر وسيط بين الشركات العراقية وبعض الشخصيات العربية.).

ولأن لا توجد إمرأة أو فتاة أخرى في الأسر لدى الإرهابيين، فإن الأنظار تتوجه نحو فاطمة الى أنها كانت هي صاحبة هذا الصوت الهامس. وبالمقابل، فإن حقيقتها، تكشف عكس ذلك، من خلال ما تحمله من عطف وقلق عليه: (لا يمكن أن تكون من بين خيوط التآمر وحبائل الضغينة، لا بد وأن تكون مختطفة من قبلهم. .). وبهذا فإن التماثل بين الشك واليقين في كونها معهم أو ضدهم، يتساويان بين كفتي الميزان، في بلوغهما لتقنيتي التماثل واللاتماثل، أو التماثل ونقيضه. واللاتماثل هذا مثل التماثل يتمظهر في أكثر من مكان في الرواية، كما مثلا، لمباغتته لصوتها الذي جاءه كالهمس، وقد حمل أكثر من لون ونغمة، أو في جملة: (جل تفكيره أنحسر في سلامتها)، وكذلك في جملة: ( ربما عطفت علي لأنها تعرف جبروت الخاطفين وإستعدادهم لتصفيتي جسديا. .). وفي هذه الجملة أيضا: (المهم أريد معرفة مصيرها).

إن السارد فضلا عن إرتيابه بفاطمة، تتوجه شكوك زجه في هذا المأزق، بأبنة أخته (هند) أيضا، وهو يقول: (أنه ضحية خدعة قذرة، ليس بعيدا أن تكون هند قد دبرتها له مع رياض ). ولكنه سرعان ما يتراجع عن شكه هذا، مثله مثل تماثلات فاطمة ونقائضها، مؤكدا هذيانه، عبر مونولوجه الداخلي وهو يقول: (ليس صحيحا القول ثمة مؤامرة، إنها هند الجميلة العاقلة التي ما كانت تذهب الى السينما إلآ معك. .).
ويمتد شكه هذا الى أقرب صديقيه، وهما أبو العز، والبصري، وهو يتهمهما بالتآمر عليه. ولعل رد أحدهما عليه، بأنه دائما يتهم الآخرين بالتآمر عليه، أدل نموذج على أنه قد تلبس شخصية هاملت التي يحلم بأدائها على خشبة المسرح، وها هو يؤديها بدون أن يدرك.
إن الترقب والتوتر اللذين يشدان المتلقي الى ما يؤول اليه مصير السارد، وهو يتيه في الحقول المترامية الأطراف، مصدره المطاردة الأقرب الى المطاردة البوليسية أولا، هذه المطاردة التي تستمر الى نهاية الرواية. والحالة النفسية التي يعيشها السارد في تلك اللحظة الطافحة بالخوف جراء الكشف عن مكانه وإلقاء القبض عليه ثانيا. وفي خضم هذا المعترك بين الحياة والموت، يلجأ السارد الى الإنتقال بين السرد الموضوعي عن طريق ضمير الغائب (هو)، وبين ضمير المتكلم المخاطب (السرد الذاتي = أنا)، فضلا عن إستخدام المونولوج الداخلي. كما أن لجوئه الى الفلاش باك، بالعودة الى لحظة إختطافه من الشارع، والأسلوب الذي تخاطبه به فاطمة، وهو في الأسر، هذا الأسلوب الذي لا يقل خوفا عن خوف تيهه في الحقول، إن لم يكن أكثر منه، مقرونا بصيغة ضمير المتكلم المخاطب، كل هذه العوامل لعبت دورها في شد المتلقي الى ما يؤول اليه مصير السارد.

أستثمر السارد، تزاوج أسلوب فاطمة الذي يبعث على الخوف بضمير المتكلم المخاطب، بإتجاه تعرية النظام السياسي الذي جاء بعد سقوط النظام والكشف عن موبقاته والجرائم البشعة التي يقوم بها ضد شعبه: (كم من الأشخاص مروا من هنا كانت مصائرهم بيد هذه الحفنة من القتلة وقطاع الطرق واللصوص الذين لا يشبعون، ألا تعلم كم سرقوا ونهبوا لكي تثري عوائلهم وأبنائهم من المال الحرام؟ ولكنهم لا يشبعون أبدا. .).
والمنحى الأخير فيه جانبان، أحدهما سلبي والآخر إيجابي. يتمثل السلبي بأنزياح قدرا من نقمة المتلقي على النظام القائم، والإيجابي على زيادة نقمته عليه. وبهذا فهما الآخران يسيران بإتجاه التماثل.
ثمة ثلاثة أمور أنقذت السارد من قبضة الإرهابيين. الأمر الأول هو إصراره في صموده بوجه خاطفيه، من خلال تلبسه لشخصية هاملت في عبارته المشهورة: (أكون أو لا أكون)، التي تتكرر أكثر من مرة، والأمر الثاني هو بدافع من فاطمة ، حيث تتكرر هذه الجملة، شأنها شأن عبارة هاملت أكثر من مرة، وهي تدفعه بقوة خارج الدار وتوشك أن تصرخ: ( أهرب بجلدك يا مسكين، أسمي فاطمة أستطيع الخلاص وحدي، أنطلق أرجوك. .).
السؤال الذي يطرح هنا، كيف وبأي وسيلة تستطيع فاطمة أن تنقذ نفسها، وهي مثل السارد أسيرة بيد الإرهابيين؟

يبدو لي أن فاطمة هي الأخرى كالسارد ضحية الإرهاب، لسبب قد يبدو بسيطا، بيد أنه يحمل بين ثناياه معاني كبيرة، هو أن السارد قد أحبها وتعلق بها بوله. ذلك أنه يتذكرها ويتردد أسمها على لسانه من بداية الرواية الى نهايتها. وأن الشخص الذي أخبر عنه، هو رياض، إنتقاما من سعيه في زواجه من أبنة أخته. بدليل أنه قام بزيارة المتحف الوطني بدون علم السارد، كأي جاسوس، يسعى الإطلاع على ملامح ضحيته قبل الإجهاز عليها. كما أن عدم إستمرارية (هند) مع أحداث الرواية الى النهاية، وتوقفها عند حد إغتصابها من قبل رياض، يومئان الى أمرين، أولهما أن رياض هو واحد من جماعة الإرهابيين الذن خطفوا السارد، وتبعا لذلك فإن مغتصبي هند هم الإرهابيون، وإذا شئنا التأويل، إن القادمين من الخارج، تحديدا من دول الجوار، هم الذين أغتصبوا العراق، بإعتبار هند رمزا للوطن.

للإجابة على السؤال الذي طرحته، ربما كما ذكرت في السابق، لبلوغ المتلقي بنفسه عن طبيعة هذه الشخصية. وربما أيضا بوصف الضحية، أقرب الى القديس أو القديسة، منها الى الإنسان الأعتيادي، بغض النظر عن أسم الضحية (فاطمة)، الذي يثير في العقل الجمعي الكثير من المعاني السامية التي تنطوي بين ثناياه، عبر تضحياته الجسام وقداسته.
مثلما تتجلى القدسية في روح هذه الشخصية، كذلك فالقدسية نفسها تتجلى في روح السيد المسيح، ذلك أن السارد يستنجد بالسيد المسيح لمرتين لينقذه، كما أنقذته فاطمة من الأسر، وهو يردد عبارته التي تتكرر : (إلهي لماذا تخليت عني). وبهذا فإن فاطمة تتماثل من جهة في قدسيتها مع السيد المسيح، ومن جهة أخرى مع السارد، بوصفه هو الآخر ضحية.
يقول تودوروف: (يضطلع التكرار بدور قوي في سيرورة البناء: وذلك لأننا يجب أن نبني حدثا واحدا من مجموع قصص عديدة، والعلاقة بين القصص التكرارية تترواح بين التطابق والتناقض. .).1
أسوق هذا القول لتورودوف، لأن كل الجمل والعبارات التي ضربتها أنموذجا للتماثل ونقيضه، تتكرر أكثر من مرة.

إن هذه الرواية بإغتصاب هند من قبل الإرهابي رياض، تكشف عن تناصها مع رواية (بغداد – مالبورو) لنجم والي، تحديدا مع شخصية (أحلام) التي أغتصبت من قبل رجال الشرطة والأمن، بإعتبارها مثل هند ترمز الى الوطن، ولكن الفارق بينهما، هو أن هند لا تتواصل مع أحداث الرواية الى النهاية، بعكس أحلام التي يكون لها حضورها المتميز الى النهاية. وهذا هو نص ما كتبته عن هذ الشخصية في المقال الذي تعرضت فيه لرواية (بغداد – مالبورو): (تعد أحلام شخصية رئيسة في الرواية، لا لكونها تمثل أحلام سلمان ماضي المذبوحة، بل لأنها رمز الوطن، وذلك من خلال تكالب الرجال عليها وفتكها على هواهم. إن أحلام هي عراق ما بعد عام 2003 الذي مزقه رجال الدولة.)2.
شطر السارد الرواية الى قسمين، القسم الأول كرسه لإرهاب الخارج، وهم القادمون من خارج العراق، أي من الدول المجاورة، تحديدا الذين أختطفوا السارد، ويطوقون الحانة، في إنتظار خروج السيد عبدالله الذي هو السارد لإعادته الى الزريبة التي فر منها. وهذا القسم يأخذ مساحة أكثر من القسم الثاني، ويمتد الى نهاية الرواية.

والقسم الثاني الأقرب الى نص مسرحي، لا يأخذ أكثر من ثلث الرواية، وكرس الى إرهاب الداخل، لأن ممثليه داخل الحانة، وينتمون الى الأحزاب والكتل السياسية الحاكمة للعراق بعد سقوط النظام. ووجودهم في الحانة هو بقصد إقناع السارد لكتابة نص مسرحي أو روائي عن رجلهم الكبير، يمجد فيه بسيرته الذاتية التي تخلو من الأفعال الحسنة، إن لم تكن كلها سيئات، أي أن يقوم بتشويه التأريخ، لأن كبيرهم، ربما تأويلا، يسعى الى أن يرشح نفسه الى البرلمان. إلآ أن السارد يرفض الرضوخ لهم، برغم إنهم يتكفلون بحمايته للخروج سالما من الحانة، من قبضة الإرهابيين الذين يترصدون له في الخارج. يأبى الرضوخ لهم بمسوغ، أنه إذا تورط في عملية من هذا النوع، لا يجوز له الكتابة في المسرح بعدها.
والحانة هي الأخرى، مثل هند ترمز الى العراق، ذلك أن العراق مثل هند معرض للإغتصاب من قبل إرهابيي الداخل والخارج، وها هم يضيقون الخناق عليه: ( سمع الكثير من الكلام عن رجال ونساء يعملن لحساب جماعات من الخارج يورطن أولادا وفتيانا يافعين ليصبحوا ضحايا ميسورين تعمل على ذلك النهج الذي يثير الهلع في نفوس الآخرين.).

لأن العراق يطفو على ينابيع من النفط، يسعى إرهابيو الخارج الى جني القسط الأوفر منه. وأرهابيو الداخل، ترهيبا أو ترغيبا للفرد العراقي، يسعى الى إرتقاء أعلى المناصب في الدولة لإثراء أولادهم وبناتهم وأقاربهم، والمشكلة كما يقول السارد: (أنهم لا يشبعون).
تكشف هذه الرواية، والشابان يطلبان من السارد، أن يكتب نصا مسرحيا أو روائيا عن رجلهم الكبير، عن تناصها مع مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف لكاتبها الإيطالي لويجي بيرانديلو: (ما نريده أمر بسيط ولا يكلفك شيئا خطيرا، نحن في الحقيقة نبحث عن مؤلف مسرحيات وروايات. .). كما أنها تكشف عن تناصها مع مسرحية (هاملت) لشكسبير، من خلال الظنون التي تراود السارد في شخصيات المسرحية بالتآمر عليه، شأنه شأن هاملت الذي أمتدت ظنونه بخيانة أقرب الناس الى قلبه ألا وهي (أوفيليا) وهو يخاطبها بعبارته المعروفة: (أذهبي وترهبي) ما عدا بأمه في علاقتها مع عمه.
: (أي الحظوظ التعيسة أتت بك طائعا الى هنا الى أرض السموم والعداوات التي يغلفها حقد دفين ، الى أرض يتنفس فيها الموت في كل زاوية من زواياها، وكل ركن من أركانها. .).
إذا كانت هذه الجملة تأتي في الصفحة الأولى من بداية الرواية، للدلالة على أن أرض العراق تحولت الى سموم لإماتة الناس عليها، من قبل فاطمة، وهي تخاطب السارد عن طريق ضمير المتكلم المخاطب، فإن المعنى ذاته يأتي في الصفحة (30) على لسان السارد عن طريق المونولوج، في هذه الجملة: (هنا في سبع البور يولد المرء ويموت وحيدا ودون ضجة، بل يسير كل شيء حسب مشيئة القدر. .).
وهاتان الجملتان بقدر ما توجزان هدف الرواية، وإيصاله الى المتلقي، بالقدر ذاته تعبران عن حقيقة المأساة التي بلغها الشعب العراقي في ظل الأحزاب والكتل السياسية التي جاءت بها أمريكا من الخارج لتحكم العراق بذهنية متعفنة، وتعيد العراق بقرون الى الوراء.
يقول الناقد فاضل ثامر: (إذا كانت الكتابة القصصية هي مثل الثلج لا يظهر منه إلآ جزء بسيط، أما الجزء الأعظم فيظل غير ظاهر ومغمورا في الماء، فإن الجزء الغاطس أو المغيب في الخطاب الروائي يمثل نصا غائبا أو موازيا للنص الظاهر لا يقل أهمية عن النص المكتوب. .)3.
وتأسيسا على هذا القول، وبالرغم من الطرح الجريء للرواية، لعمليات الخطف والقتل والإرهاب الجارية على قدم وساق في العراق، فقد ظلت هذه الرواية، تحتفظ بما لم تعلنه، أن يكشف عنه المتلقي، مع أن هذا المخفي أو المستور، لا علاقة له بضغوط خارجية، بقدر ما يرتبط بأمور جمالية، تخص المتلقي، للإستمتاع بما ينتجه من جديد، إتساقا مع نظرية التلقي لفوفغانغ آيزر، وهانس ياس.
إذ مثلما لم تظهر الرواية الجزء الغاطس عن ماهية إنقاذ السارد من الأسر، وأكتفت بالجزء الظاهر منه، لينطبق الشيء نفسه على فاطمة عن ماهية إنقاذ نفسها، كذلك فإن الجزء الغاطس عن العلاقة بين مشروع عبدالله المسرحي وبين إختطافه، لم يظهر، وإنما أكتفت الرواية بالإشارة الى أن عصام زار بناية المسرح الوطني، وأن عبدالله لم يتحدث بموضوع المسرحية إلآ لعدد محدود من معارفه، ولكن دون أن يأتي على ذكر أسمائهم.
إن الجزء الغاطس هنا والذي لم يعلنه السارد، بل حاول نأيه عن ذهن المتلقي، عبر عدم ذكر الأسماء، هو سعيا لبلوغ المتلقي من تلقاء نفسه الى هذا الشخص، مستخدما في هذه اللعبة مفردة (المعارف) وليس (الأصدقاء). وإذا عرفنا أن أقرب المعارف الى السارد هي هند، والحال هذا، فإن الجزء المخفي عن المتلقي، يفرض السؤال التالي :
-ترى أليس من المنطق، تأويلا، أن تكون هند هي التي أخبرت رياضا، وبحسن نية، ذلك لأنها تجهل أنه يعمل مع جماعة إرهابية، بأن خالها بصدد كتابة نص مسرحي يدين فيه العمليات الإرهابية؟ وعنوان النص هو (الصرة)، ويتصدى لحادث التفجير الذي حصل في سوق البياع.

وبالمناسبة، وعلى ذكر الصرة. يطرح هذا السؤال نفسه أيضا: (ترى لماذا لم يضع السارد عنوان المسرحية التي يكتبها (الصرة)، وليس العنوان الذي أستقر رأيه عليه، وهو (تسارع الخطى).
لقد آثر السارد العنوان الثاني على الأول، كما يبدو لي، لأن الأول يوحي الى عمليات التفجير للألغام الناسفة فقط، أي لثلث من أجزاء أحداث للرواية. بينما العنوان الثاني، يعم الأجزاء الثلاثة لأحداثها، وهي فضلا عن التفجير بالألغام، هناك عمليات الخطف، الى جانب تزوير التأريخ. وبهذا فإن حياكة الرواية وبنائها الفني لا يقوم عل الخطف لوحده، ذلك لأن هذا الجانب أخذ مساحة أكبر من الجانبين الآخرين، وإنما على التفجير بالألغام الناسفة، وتزوير التأريخ أيضا.
تدور أحداث الرواية في ثلاثة أمكنة، وهي: السجن (زريبة)، والحقول الشاسعة، والحانة. المكان في الأول والثالث مغلق، وفي الثاني مفتوح. المكان في الأول يضيق الخناق فيه، وفي الثاني والثالث بالعكس، تنشرح الحياة فيهما. ولكن الحياة بالنسبة للسارد في الأماكن الثلاثة، تسير على نفس الوتيرة، وهي وتيرة الإنغلاق، وضيق الخناق عليه.

يعرف مانفريد المكان: (بأنه اليئة التي تتموضع فيها الأشياء والشخصيات، وبصورة أكثر تحديدا البيئة حيث تتحرك وتعيش فيها الشخصيات).4

1-الحقل الشاسع: بدلا من أن يكون هذا الحقل متنفسا للسيد عبدالله (السارد)، ليقضي فيه أجمل لحظات حياته، يتحول الى كابوس حقيقي، ليستعيد من خلاله، وهو مطارد من قبل عصابة عدوانية وشرسة، ماضيه القريب والبعيد، بشقيه المر وغير المر. وذلك من خلال مزج ضمير المتكلم المخاطب بضمير الغائب، لينتج عنهما ضميرا آخر، أو هكذا يبدو، بالأحرى كما لوكان هذا الضمير قادما من خارج الرواية، بينما في الحقيقة أن المتكلم هو السارد نفسه، إذ يقدم الأحداث كما يراها، إلآ أن: ( حضوره يكون بضمير الغائب، أي أقل حضورا من الأول)5، وهو يخاطب السارد بهذه الجملة المتكونة من شطرين، الشطر الأول في صيغة المتكلم المخاطب: (الى أين المسير يا نور عيني؟. والشطر الثاني في صيغة ضمير الغائب: (ما الذي خلفته ويده قبض الريح).
بهذه الطريقة، يقوم السارد بسرد سيرة حياته، إبتداء من لحظة إعتقاله من قبل الإرهابيين، مرورا بأدواره المسرحية وحلمه مغادرة البلد، وتمنيه اللقاء برياض لإقناعه الزواج من هند، وإنتهاء التفكير بزوجته التي تسخر من كتبه وأوراقه،
بالإضافة الى اللحظات المرعبة التي يعيشها الآن، اللحظة، متخفيا في الحقل، وهو يرى الإرهابيين يتعقبونه ويحيطون أعطافه من كل الجهات: ( وشعر لأول مرة بضيق يثقل عليه تنفسه، أنه يجري مسرعا واللهاث يتصاعد في نشيد الشهيق والزفير..).
وكلما أزدادت وتيرة أحداث الرواية، ويزداد معها مخاوف السارد، يبدأ صوت الضمير الثالث بالإختفاء تدريجيا، ليحل محله ضمير الغائب، كما في الجملة الآنفة الذكر، وهذه الجملة التي تليها أيضا: (ورآى على البعد في الجانب الأيمن من جريه المتلاحق ثمة إمرأة ملفعة بالسواد). وهو على إمتداد مائة صفحة، يجسد دور المطارد، متنقلا بين اللحظة التي هو فيها الآن، وبين ماضيه.

2- الحانة: كما هو معروف عن الحانة هي ملاذا للمدمنين على الكحول، وقضاء أمتع الأوقات فيها، ولكنها شأن الحقل الشاسع الذي يلجأ اليه السارد، تتحول الى كابوس حقيقي، وذلك من خلال التهديد الذي يتعرض له السارد من الخارج والداخل، فضلا عن الخلاف الذي نشب بينه وبين صديقيه، ليتركاه، ويبقى وحيدا دون دعم أو سند، وسط الورطة التي يبدو أنها بعيدة عن أي حل. وما زاد من ورطته هذه، هي مشاركة طاولته، جماعة الرجل الكبير. وبهذا لطبيعة أحداث الرواية التي تسير نحو الإنغلاق، فإن الأماكن المألوفة فيها، كما في الحقل والحانة، تتحول الى أماكن غير مألوفة.

3-السجن: برغم أن المكان الذي زج فيه السارد هو أقرب الى زريبة، ويداهمه الخوف، ولا يعرف أين هو لو لا فاطمة التي تخبره، إلآ أنه بعكس المكان الاول والثاني، بفضل صوت فاطمة الناعم، والوعد الذي قطعته على نفسها بتحريره من هذا الأسر، يتحول هذا المكان من مكان غير مألوف الى مكان مألوف، أي أن السارد بقصد منح النقيض في المكان لروايته، يلجأ الى نض الحقيقة التي يتميز بها منه، مستعينا بحقيقة مزيفة. وهو بهذه اللعبة الفنية الذكية، يربط المكان بمسعى الإرهابيين لتزييف التأريخ.

المصادر:
1-مفهوم الأدب: تزفيتان تودوروف، إعداد وترجمة: د. منذر عياشي. دار نينوى.2017.
2- حياكات السرد في الرواية العربية: صباح هرمز. المزمع إصداره عن إتحاد الأدباء في العراق.
3- المبنى الميتا – سردي في الرواية: فاضل ثامر. دار المدى.2013.
4- تقنيات السرد من منظور النقد الروائي: أشواق عدنان شاكر النعيمي. دار الجواهري. 2014.
5- المصدر السابق نفسه.
ملاحظ: وأنا بصدد كتابة هذه الرواية، أنفجرت عبوتان ناسفتان في ساحة الطيران ببغداد، ما أدى الى وقوع عشرات الضحايا من المواطنين الأبرياء بين قتيل وجريح
أقدم شهادتي هذه للتوكيد على أن الرواية الموسومة (تسارع الخطى) والتي كتبها أحمد خلف، ما هي إلآ وثيقة دامغة للمأساة التي يعيشها الشعب العراقي منذ عام 2003، ولحد يومنا هذا. وكل ما جاء فيها، وإن كان من نسج الخيال، إلآ أنه يحدث على أرض الواقع.

23/1/2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير