الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هربرت سبنسر (1820 - 1903)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 1 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فيلسوف بريطاني، ولد لأسرة علمانية، فقد " كان ابوه يميل إلى العلم وكتب كتاباً في الهندسة، وكان فردياً في السياسة، ولم يخلع قبعته لانسان قط مهما كانت منزلته أو رتبته، كما رفض والده تفسير الأمور بالمعجزات وخوارق الطبيعة رفضاً باتاً، ووصفه احد معارفه بانه رجل لا دين له ولا ايمان في قلبه، على الرغم من أن إبنه سبنسر "اعتبر هذا القول مبالغة في حق والده".

ويحدثنا "كوليير" سكرتيره، فيقول: لم يتلق سبنسر دراسة منظمة، حتى سن الثلاثين لم تكن لديه فكرة اطلاقاً عن الفلسفة. ويخبرنا أنه الف كتابه الأول "التوازن الاجتماعي" دون ان يقرأ في موضوع علم الأخلاق الا كتاباً قديماً، هكذا كان شأنه في "علم الاحياء" بعد أن قرأ كتاباً عن علم وظائف الاعضاء من تأليف "كاربنتر"، وكتب كتابه عن علم الاجتماع من غير أن يقرأ كومت.

فمن أين استمد "سبنسر" اذن هذه الحقائق التي ساقها في كتاباته ومناقشاته؟، لقد استمدها –كما يقول ديورانت- من الملاحظة المباشرة أكثر من القراءة، فقد امتاز بشدة الملاحظة وحب الاستطلاع، وكان يوجه دائماً اهتمام رفاقه إلى بعض الظواهر الهامة التي لم يرها حتى ذلك الوقت أحدٌ سواه"([1]).

ومع ذلك فقد افقدته نظرته الواقعية العملية روح الفن وحماسة الشعر، كما أنه "امتاز بصراحة جريئة مقرونة بشيء من الغطرسة والتشبث برأيه، ومقاومة شديدة لكل انواع التملق والمداهنة، ورفض أن يقبل ألقاب الشرف التي قدمتها له الحكومة، وواصل عمله المضني طيلة أربعين عاماً قضاها في عزلة معتدلة وضعف مزمن لازم صحته، كما تركت عزوبته وعزلته أثراً في عواطفه الانسانية، وكان يفتقر للحرارة في عواطفه، لكنه على الرغم من ذلك، كان من أقدر من عَرَفَهُم التاريخ الحديث في توضيح وتبسيط أكثر الموضوعات تعقيداً –كما يقول ديورانت- فقد كتب في أعوص المشاكل وأشدها تعقيداً، وأكثرها صعوبة، في وضوح وصفاء – ونورانية جعلت العالم بأسره مدى جيل كامل يتعشق الفلسفة ويُقْبِل عليها"([2]).

"وعندما كان يقوم بتنقيح مقالاته في عام 1858، تمهيداً لنشرها، راعه فيها وحدة التفكير، وتسلسله ولمعت في رأسه فكرة مشرقة وهي احتمال تطبيق نظرية التطور على جميع العلوم، كما امكن تطبيقها على علم الاحياء، وأنها لا تقتصر على تفسير الأنواع والأجناس، ولكنها تتناول بالتفسير الكواكب، والطبقات، والتاريخ الاجتماعي والسياسي، والنظريات الاخلاقية، وفن الذوق والجمال، ولكنه يئس من مواصلة السير في هذا العمل بعد ان وجد نفسه قد قارب الاربعين من عمره"([3]).

كان "سبنسر"، وليس "داروين"، هو الذي أوجد –كما يقول ديورانت- مصطلح "البقاء للأصلح"، رغم أن القول يُنْسَب عادة لداروين، وقد ساهم سبنسر في ترسيخ مفهوم الارتقاء، وأعطى له بعداً اجتماعيا، فيما عُرِفَ لاحقاً بـ الدارونية الاجتماعية، وهكذا يعد سبنسر واحدا من مؤسسي علم الاجتماع الحديث.

نشر كتابه "المبادئ الأولى" عام 1862، حاول التوفيق بين العلم والدين، فهاجم الدين والعلماء على السواء، وأصبح كتاب "المبادئ الأولى" وكتاب "أصل الانواع ميداناً لمعركة عنيفة بين الكُتَّاب، وابتعد الناس (الارستقراطيين) عن أنصار التطور، واتهموهم بالخروج عن قواعد الاخلاق، وانخفض عدد المشتركين في كتب سبنسر، وتحمل هذه الخسارة، وواصل النشر دافعاً من جيبه العجز في كل طبعة، إلى أن نفذ ماله وانهارت شجاعته، واعلن لبقية المشتركين عن عجزه في مواصلة عمله.

ولكن "حدث ما لم يكن في الحسبان، ووقع ما لم يقع في تاريخ الفكر من تشجيع وتقدير للنبوغ والموهبة، وتقدم جون ستيوارت مل أهم منافس لسبنسر والذي احتل مكان الصدارة في الفلسفة الانجليزية قبل ان يقوم سبنسر بنشر كتابه، المبادئ الأولى، والذي أحس بعد نشر هذا الكتاب بأن سبنسر فيلسوف التطور قد طغى عليه وحل محله، فأرسل إلى "سبنسر" بالرسالة التالية في الرابع من شهر فبراير عام 1866.

سيدي العزيز،

عندما وصلت إلى هنا في الاسبوع الماضي، وتصفحت عدد شهر ديسمبر (1865) من سلسلة كتابك في علم الاحياء، ولست بحاجة إلى التعبير عن أسفي الشديد لدى رؤية الاعلان في الصحيفة المرفقة بالعدد، من رأيي ان تواصل نشر رسائلك القادمة وسأتعهد بدفع قيمة الخسارة إلى الناشر، وأرجو ألا تعتبر اقتراحي هذا مساعدة شخصية لك، وحتى لو كان كذلك فلا زلت أرجو ان تسمح لي بالتقدم به، ولكن لا شيء من هذا القبيل، بل هو اقتراح للتعاون على غاية هامة عامة وهبت من أجل تحقيقها عملك وصحتك.

صديقك المخلص

جون ستيوراث مل،



ولكن سبنسر رفض بلباقة ودماثة هذا العرض، فاتجه "مل" إلى اصدقائه واقنع كثيراً منهم على ان يشترك كل واحد منهم في مئتين وخمسين نسخة ورفض سبنسر مرة ثانية، ثم وصله خطاب من الاستاذ يومانز يقول فيه، ان المعجبين الامريكين بفلسفته قد اشتروا باسمه أسهماً قيمتها سبعة الاف دولار وان ريعها سيرسل له، واستسلم لهذا العرض في هذه المرة، فقد جددت هذه الهمة، إلهامَهُ وحَمَاسَهُ واستأنف مهمته، وربط كتفيه في عربة العمل طيلة اربعين عاماً، إلى ان وصلت فلسفته التركيبية بأمانة إلى دار الطباعة والنشر"([4]).



آراء سبنسر وفلسفته :
يعتبر "هربرت سبنسر" من أبرز مفكري الفلسفة الوضعية، وأوسعهم تأثيراً، "فقد تميزت فلسفته بجمعها بين المبادئ العامة للفلسفة الوضعية، كما جاءت في مؤلفات كونت، وبين فكرة التطور، التي يفهمها، مع ذلك، فهما ميكانيكيا محضاً.

إن وضعية سبنسر تضم اللا أدرية والفينومينالية في المسائل الجذرية للفكر الفلسفي إلى النظرة المادية – العفوية إلى بعض مسائل العلوم الخاصة، كما تنطوي نظريته الاجتماعية – إلى جانب الفهم المثالي للقوة المحركة للتطور الاجتماعي، والنظرية "العضوية" الرجعية عن المجتمع، والعداء للاشتراكية والدفاع عن الرأسمالية – على نزوع إلى صياغة السوسيولوجيا كعلم، وعلى التسليم بالطابع القانوني للتطور الاجتماعي.

يقول سبنسر في مطلع كتابه (المبادئ الأولى): "اننا ننسى غالباً أن في الشر روحاً من الخير وأن في الخطأ روحاً من الحقيقة"، لذلك فهو يرى ان نقوم بفحص الآراء الدينية واضعين نصب أعيننا البحث عن جوهر الحقيقة وراء الصور المتغيرة في كثير من الديانات، هذه الحقيقة التي اضفت على الدين قوته الملحة على روح الانسان"([5]).

لا أدرية سبنسر:
"يشكل التوفيق بين الايمان والمعرفة، بين العلم والدين، على أرضية اللا أدرية، المحور الأساسي لفلسفة سبنسر، الذي "يرى أن تاريخ الدين يقوم في أن كل دين يستند إلى التسليم بالعجز المطلق عن إدراك تلك القوة السامية، القائمة في أساس العالم، كما أن العلم، بدوره، يخلص إلى الاستنتاج، بان "وراء الاشياء كلها سرا غامضا، يستحيل الوقوف عليه"، وأن تلك الماهية، القائمة على أساس كافة الظواهر، ستبقى مجهولة إلى الابد، هذا التساوي في العجز، عجز الدين والعلم، كل بدوره، عن الاجابة على مسألة الوجود الاساسية، يجعل بالامكان، في رأي سبنسر، إلغاء كل نزاع أو خصام بينهما، ولكي يبرهن سبنسر على عجز العلم يتناول بالتحليل مفاهيم المكان، والزمان، والحركة، والمادة، والقوة، والوعي، ليؤكد أن هذه المفاهيم، كلها، متناقضة، ولا تقدم، بالتالي، معرفة يقينية عن الواقع الموضوعي، فليس بوسعنا، مثلا، تصور قابلية المادة للتجزئة إلى ما لا نهاية، وفي نفس الوقت – عدم وجود دقائق مادية غير قابلة للتجزئة، ومن هنا، كانت المادة "في طبيعتها المحدودة، متعذرة على المعرفة، تماما كالمكان والزمان"([6]).

في التطور "يميز سبنسر لحظات ثلاث: 1) الانتقال من البسيط إلى المعقد 2) الانتقال من المتجانس إلى اللا متجانس؛ 3) الانقتال من اللامتعين إلى المتعين (الترقي في التنظيم)، وفي ضوء التغيرات، التي تطرأ على حركة الاشياء في مجرى التطور، يصوغ سبنسر قانون التطور على الشكل التالي: "التطور – تكامل Integration للمادة، يرافقه تبدد في الحركة، وتنتقل خلاله المادة من حالة اللاتعيين والتجانس غير المترابط إلى حالة التعيين واللاتجانس المترابط، ويطرأ على الحركة، المصونة من قبل المادة، تحولات مماثلة".

"صحيح أن سبنسر استطاع فعلا الوقوف على سمات منفردة لبعض أشكال التطور، لكن محاولته لاضفاء صبغة كلية على قانونه هذا تبقى غير مشروعة، وباطلة، فهذا القانون يستبعد ظهور أشياء جديدة نوعيا، ويصور التطور على أنه مجرد اعادة تجميع تدريجية للمادة المتوفرة، كما أنه لا يقول شيئاً عن مصدر التطور وقواه المحركة، ويبقى مجرد وصف لبعض السمات الخارجية لعملية التطور، وقد انعكس الطابع الميتافيزيقي والآلي لنظرة سبنسر في قوله "بان للتطور "حداً، لا يمكن تجاوزه أبداً"، هذا الحد، عند سبنسر، هو حالة توازن المنظومة (الجملة System)، توازن القوة العالمية الباعثة على التطور، حالة، تتعادل عندها كافة القوى الفاعلة، وعاجلا أم آجلا ستعقب التوازن حالة من الانحلال، لكن هذا الانحلال لن يدوم إلى الابد، فسوف تعقبه حلقة جديدة من تكامل المادة والحركة، وهكذا "ينتهي الامر بسبنسر إلى نظرية التعاقب والدورة السرمدية، التي لم يستطع الخروج منها بسبب الطابع الميتافيزيقي لمذهبه"([7]).

النظرية "العضوية" في المجتمع:
"يعمم سبنسر فكرة التطور، التي يعرضها في مؤلفه الفلسفي الرئيسي – "المبادئ الأولى"، بحيث تشمل ميادين البيولوجيا والبسيكولوجيا والسوسيولوجيا والاخلاق، وهو يرى في البيولوجيا العلم العياني Concrete الرئيسي، الذي يدرس القوانين الفاعلة في هذه الميادين كلها""([8]).

ذلك إنه يفترض، خطأً، أن الحياة – بكل مظاهرها الاجتماعية والنفسية، المعقدة والرفيعة – تحكمها، في نهاية المطاف، القوانين البيولوجية، ففي السوسيولوجيا ينطلق سبنسر من "تشبيه المجتمع بالكائن الحي"، ودراسة المجتمع ككائن حي، ينشأ ويتطور وفقا لقوانين طبيعية، صحيح أن هذا الطرح يقر بالتطور الموضوعي للظواهر الاجتماعية، ومع ذلك جاءت النزعة الاساسية في سوسيولوجيا سبنسر رجعية، ومعادية للعلم، فهي تؤدي إلى عضونة biologisation الظواهر الاجتماعية، وإلى تغطية الاستغلال والاضطهاد بتصويرهما ظاهرتين طبيعيتين.

كما أن تعميم مبدأ "الصراع من أجل البقاء" على الحياة الاجتماعية قد مهد الطريق لظهور احد اكثر تيارات السوسيولوجيا البرجوازية رجعية – "الداروينية الاجتماعية"، فقد كان سبنسر عدوا لدوداً للاشتراكية، وتفن في التنديد بالفكر الاشتراكي، لذا جاءت فلسفة سبنسر، إجمالا، تتويجاً لذلك الشكل الاول من الوضعية، الذي كان لا يزال يتضمن – برغم عدائه المبدئي للمادية – بعض الأفكار العلمية الايجابية، والذي اضطر، بسبب ذلك، لاخلاء المكان، في الربع الاخير من القرن الماضي، لتيارات مثالية اكثر رجعية ومعاداة للعلم"([9]).

سبنسر ونظرية التطور:

في "عام 1830 كان التطور يملأ الجو عندما عَبَّر سبنسر عن فكرة التطور في مقال له حول هذا الموضوع "نظرية التطور" في عام (1852) قبل دارون بزمن طويل، وفي عام (1859) اهتز العالم القديم ورجال الدين الأفاضل اهتزازاً كبيراً بنشر كتاب دارون عن "أصل الأنواع"، ولم يكن هذا الكتاب مجرد عرض لفكرة غامضة عن تطور الانواع العليا من انواع سفلى، ولكنه جاء –كما يقول ديورانت- "مُفَصَّلاً وحافلاً بالأدلة عن حقيقة عملية التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي أو بقاء الاجناس المفضلة في تنازع البقاء، "وراح العالم بأسره يتحدث عن نظرية التطور طيلة عشرين عاماً، وجاء سبنسر وامتطى صهوة موجة نظرية التطور بفضل صفاء فكره، ووضوح عقله، فتنال فكرة التطور بالتطبيق على كل ميدان من ميادين الدراسة، وكما سادت الرياضيات على الفلسفة في القرن السابع عشر وانجبت للعالم ديكارت وهوبز وسبينوزا وليبنتز وبسكال، وكما اخذ علم النفس يسطر الفلسفة في اراء بركلي وهيوم وكوندياك وكانت، فقد كان علم الاحياء في القرن التاسع عشر عمود الاراء الفلسفية الفقري في اراء شلنج وشوبنهور وسبنسر ونيتشه وبرجسون"([10]).

لقد كانت هذه الاراء من انتاج رجال كثيرين، ولكنها ارتبطت باسم الرجال الذين تناولوها بالتنسيق والترتيب والتنظيم والتوضيح، وكما حمل العالم الجديد "امريكا" اسمه من امريقو الذي رسم خريطة هذا العالم، فقد كان هربرت سبنسر امريقو عصر دارون وواضع خريطته وأحد مكتشفيه أيضاً"([11]).

يقول سبنسر: إن "التطور تجمع لأجزاء المادة يلازمه تشتيت أو تبديد للحركة، تنتقل المادة خلاله من حالة التجانس المنقطع غير المحدود إلى حالة التباين المتلاصق المحدود". ما معنى هذه العبارة؟ ان معناها هو: ان تَجَمُّع المادة يتضح في تكوين الكواكب من السديم، وتشكيل البحار والمحيطات والجبال على الأرض، وتطور القلب في الجنين واتحاد العظام بعد الولادة، وتوحيد الاحساسات والذكريات إلى معرفة وفكر، ومن معرفة إلى علم وفلسفة. وتطور العائلات والاسر إلى قبائل ومدن ودول واحلاف "واتحاد العالم" هذا هو تجمع المادة. كل هذه امثلة لتجمع اجزاء الاشياء المنفصلة في كتل وجماعات وكل، وإن هذا التجمع طبعاً يلازمه تحديد وتقليل في حركة الاجزاء، تماما كما يحد تطور الدولة من حرية الفرد فيها. ولكن تجمع الاجزاء هذا يقدم للاجزاء اعتماداً متبادلاً، ونسيجاً من العلاقات الوقائية التي تشكل التصاقاً وتنمي تضامناً واتحاداً مشتركاً من اجل البقاء، كما ان عملية التجمع تحدث تحديداً أكبر في شكل الاجزاء وعملها، فالسديم لا شكل له ومع ذلك فقد تكون منه نظام الكواكب الاهليلجي البيضاوي، وخطوط سلاسل الجبال الحادة إلى اخر ما هنالك، فقد كان السديم الأول مركبا من مادة متجانسة يشبه بعضها بعضا، ولكنها سرعان ما تنوعت إلى غازات وسوائل واجسام صلبة، فاصبحت الأرض خضراء تكسوها الاعشاب، أو بيضاء كما في قمم الجبال أو زرقاء في تجمع البحار، انظر إلى الجبلة الأولى (البروتوبلازما) المتجانسة نسبياً وما سينشأ عنها من مختلف اعضاء الغذاء والتناسل والافراز والادراك، واللغة الواحدة الذي يتفرع عنه مئة علم، والاساطير الشعبية لشعب من الشعوب كيف تنمو وتزدهر إلى الوف الانواع من الفن الادبي"([12]).

هذه هي امثلة دورة التطور، "كل شيء يمر من الانتشار إلى التجمع والوحدة، ومن بساطة التجانس إلى تعقيد التباين، يسير في مجرى التطور. وكل شيء يعود من التجمع إلى الانتشار، ومن التعقيد إلى البساطة، فهو يسير في تيار الانحلال، ولكن سبنسر -كما يستطرد ديورانت- "لا يقنع بهذا القانون التركيبي ويحاول ان يظهر كيف يتبع هذا ضرورة لا مفر منها ناجمة عن عملية القوى الآلية الطبيعية، حيث يوجد، اولا عدم استقرار معين في المتجانس، اذ ان الاشياء المتجانسة أو المتشابهة لا يمكنها ان تبقى متجانسة، لانها خاضعة إلى قوى خارجية، وسرعان ما تتعرض الاجزاء الخارجية في المتجانس إلى الهجوم كما تتعرض المدن الساحلية إلى الهجوم في ايام الحرب، هذه هي الحياة تجمع وتفرق، تآلف وتنافر، تأتلف الاجزاء وتتجمع في وحدة لا تزال تطرد في النمو، حتى يدركها تنافر الاجزاء ثم يشتد هذا التنافر، ويشتد حتى تتلاشى وتنحل. وبذلك تصبح دورة التطور والانحلال دورة تامة، ولكن ستبدأ هذه الدورة من جديد مرة ثانية، وثالثة إلى ما لانهاية له من هذه الدورات التي تبدأ بالتطور وتنتهي بالانحلال، وكل مولد جديد فاتحه إلى الفناء والموت، هذا هو كتاب "المبادئ الأولى" –يقول ديورانت- "مأساة مروعة، تروي لنا قصة العالم في صعود وهبوط وتطور وانحلال الكواكب والحياة والانسان، ولا غرابة اذن ان يثور الرجال والنساء الذين يعيشون على الايمان والأمل على هذا الكتاب الذي أوجز لهم باختصار قصة الوجود، فقد اقترب سبنسر من "شوبنهور" كثيراً في اعتقاده بعبث الجهود الانسانية، حيث ارتأى في أواخر ايام انتصاره بان الحياة تافهة حقيرة، لا تستحق الحياة فيها، فأصابه بذلك ما أصاب الفلاسفة من مرض النظر البعيد، حيث مرت جميع مسرات الحياة والوانها واشكالها الممتعة من تحت انفه من غير أن يراها"([13]).

سبنسر وعلم الاجتماع والفلسفة السياسية :
يعتبر سبنسر "الأب الثاني لعلم الاجتماع بعد أوجست كونت الفرنسي، اشتهر بنظريته عن التطور، وقد استند على هذه النظرية في وضع الأسس لنسق ومنظومة اجتماعية (سوسيولوجية) تؤكد التطور تجاه تعقيد اجتماعي متزايد وارتفاع درجة الفردية فالمجتمع في نظره مثل الكائن الحي المعقد، يتصف بحالة من التوازن الدقيق ولا ينبغي ألاّ يسمح إلّا لعملية التطور الطبيعية بالتأثير في نموه.

يقول ديورانت: "المجلدات الفنية التي وضعها في علم الاجتماع تعتبر أروع انتاجه، لقد استغرق في كتابتها ما يزيد عن العشرين سنة، وبحث فيها موضوعه المفضل، وهي تظهر عظمته في الفلسفة السياسية، وهو يبدأها مثل افلاطون في التحدث عن الاخلاق والعدالة السياسية، ولم يقدم أحد لعلم الاجتماع ما قدمه "سبنسر" وحتى "كومت" مؤسس هذا العلم لا يباريه في ذلك، يدعو سبنسر في مقدمة بحثه الذي اطلق عليه اسم "دراسة علم الاجتماع" إلى الاعتراف والتطور بهذا العلم الجديد، فاذا كانت الجبرية صحيحة في علم النفس، ينبغي ان يكون هنالك نظام من العلة والمعلول في الظواهر الاجتماعية([14]).

ان من يدرس الإنسان والمجتمع سوف لا يقنع بمجرد ترتيب الوقائع التاريخية، أو تاريخ حياة الانسان، ولكنه سيبحث في تاريخ الانسانية عن خطوط التطور العام، والسياق السببي والروابط التي تحول الحقائق المحيرة إلى علم، حيث يعتقد "سبنسر" –كما يضيف ديورانت- "ان المجتمع كائن عضوي، له أعضاء للتغذية، وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الاعضاء كما له تناسل وافراز تماماً مثل الافراد، والمجتمع عنده كالفرد في هذه الميزات الضرورية، فهو ينمو وكلما ازداد نمواً اشتد تعقداً، وكلما تعقد ازدادت اجزاؤه استقلالا، وحياة المجتمع طويلة جداً بالنسبة إلى حياة اجزائه التي يتألف منها، وهكذا فإن تطور المجتمع يسير على قانون التطور، فنمو الوحدة السياسية من الاسرة إلى الدولة إلى عصبة الامم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المحلية الصغيرة إلى الاحتكار ونقابات الإنتاج، ونمو وحدة السكان من القرى إلى البلدان الصغيرة إلى المدن، كل هذا بالتأكيد يظهر لنا عملية التجمع والتكتل، بينما نرى من جهة أخرى ان تقسيم العمل وتعدد المهن والصناعات، والتجارة وزيادة اعتماد الاقتصاد على التبادل بين المدن والارياف وبين امة واخرى يوضح لنا التطور بشطريه من تجمع إلى تباين"([15]).

وعندما حلت الصناعة محل الحروب تحول الفكر من الموت إلى الحياة، وخرجت الحياة من قيود السلطة المقدسة إلى طريق الحرية والمبادرة المفتوح. والواقع ان اعظم تغير طرأ على المجتمع في تاريخ المجتمع الغربي باسره هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي إلى النظام الصناعي، وبالتالي "فإن الأمل في الغاء الحروب وبلوغ مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية يكمن في تطور الصناعة في الشعوب الصناعية، اذ ان الصناعة تؤدي إلى الديمقراطية والسلام، وبما ان الإنتاج الصناعي لا يترعرع ويزدهر الا في ظل الحرية فان المجتمع الصناعي سيعمل على تحطيم السلطات التقليدية الكهنوتية والطائفية القبلية التي تزدهر ظلها الدول الحربية، ولا يعود للجندي أو العسكري هذه القيمة البالغة والشهرة العالية، والصيت العظيم، وتصبح الوطنية حب الإنسان لوطنه لا كراهية البلاد الاخرى، ويعود السلام في البلاد ضرورة رئيسية من أجل الرخاء والازدهار، وبما ان رأس المال سيصبح دولياً وعالمياً، حيث يقوم استثمار المال في جميع انحاء العالم، فان هذا سيؤدي إلى ضرورة استتباب الأمن والسلام العالمي أيضاً"([16]).

لقد "اعتبر "سبنسر" موطنه انجلترا، مثالاً للبلد الذي يقترب من المجتمع الصناعي، على الرغم من أنه استنكر بشدة نمو الروح العسكرية الحربية الاستعمارية فيها، واعتبر كلا من فرنسا والمانيا مثالاً للدولة العسكرية الحربية"([17]).

في هذا الجانب، "يرى سبنسر بأن الاشتراكية (التي يمقتها) نتيجة طبيعية للنظم الاقطاعية والعسكرية، أو بعبارة أوضح فان النظم الاقطاعية والعسكرية تنتهي إلى نظم اشتراكية، فالنظام الاشتراكي –عند سبنسر- كالنظام العسكري يقوم على النظام المركزي، وتوسيع سلطة الحكومة، والقضاء على المبادرة الفردية وتبعية الفرد واخضاعه. والنظام القائم وراء كل منظمة هو انها تميل إلى الصلابة والشدة عندما تكتمل قوتها، ما يعني أن الاشتراكية ستؤدي إلى جماعة بشرية من النحل والنمل، وستؤدي إلى نظام من الاستعباد اشد قنوطا ويأساً من الوضع الحالي، فقد كان سبنسر يشعر بالغثيان والمرض لمجرد التفكير في عالم يحكمه العمال، ولم تفتنه أو تستهوي قلبه دعاية زعماء النقابات والاتحادات التجارية في جريدة لندن تايمز، وفي النهاية، وعلى الرغم من كراهيته للاشتراكية، ابدى عطفه نحو الحركة التعاونية، بحيث يصبح تنظيم العمل أقل الزاما وقسرا عندما يتقدم المجتمع، وكل عضو سيكون سيد نسفه بالنسبة إلى عمله، ولا يكون خاضعاً الا للقوانين التي تسنها أكثرية الاعضاء والتي تستدعيها الحاجة إلى النظام، ويتم التحول من التعاون العسكري الالزامي إلى التعاون الصناعي الطوعي"([18]).

نقد فلسفة سبنسر :
في نقده لفلسفة سبنسر، يقول ول ديورانت: لا شك ان القارئ قد ادرك وجود بعض المصاعب في هذا التحليل الذي قدمه لنا سبنسر، ان النقد السلبي ليس مرضياً دائماً وخصوصاً امام هذا الإنتاج العظيم الذي قدمه لنا سبنسر ولكن جزءاً من مهمتنا يقتضي ان نرى ما احدثه الزمن في افكار هذا الفيلسوف.

ويضيف ديورانت: "ان الحقيقة الأولى التي تواجهنا في كتاب "المبادئ الأولى" هي قوله بأن هنالك حقيقة مغلقة لا سبيل إلى إدراكها، ونحن وإن كنا نسلم معه بأن المعرفة الانسانية عاجزة عن ان تسبر اغوار محيط الوجود العظيم الذي لسنا سوى موجة سريعة عابرة على سطحه، الا اننا ينبغي ان لا نبت في الموضوع نهائياً، لاننا نخطئ منطقياً اذا ذهبنا إلى ان شيئاً ما قد اغلق دون المعرفة اغلاقاً تاماً، واستحال العلم به استحالة تامة، لأن القول بعدم امكان معرفة الشيء اعتراف ضمني باننا قد عرفنا عنه شيئاً"([19]).

ثم "ماذا نقول في هذا التعريف الواسع الذي وضعه سبنسر عن التطور؟ فهو يُعَرِّف التطور بأنه سير من البسيط إلى المركب، هل يفسر هذا التعريف من الكون شيئاً، كلا ن هذا التعريف لا يفسر الطبيعة، وهو كما قال عنه "برجسون" يحلل الطبيعة ولكنه لا يفسرها.

ان "اضعف نقطة في التعريف هي قوله بعدم استقرار المادة المتجانسة، وانتقالها إلى حالة التنافر، فهل يعتقد سبنسر بان الكل المتشابه الاجزاء اقل استقراراً واكثر تغيراً وتحولاً من الكل المتنافر الاجزاء؟ اليس المفروض ان يكون المتنافر الاكثر تعقيداً بحكم تنافره اقل استقراراً وأكثر تحولاً وتغيراً من المتجانس البسيط"([20]).

لقد كتب سبنسر آراءه في وقت ساد فيه هدوء نسبي على انجلترا واضطرها إلى اتخاذ موقف سلمي من أوروبا، كما ان سيادتها التجارية والصناعية في ذلك الوقت دفعتها إلى الايمان بحرية التجارة، كما "ان سبنسر بالغ كثيراً في فضائل النظام الصناعي، فقد تعامى واغلق بصره عن الاستغلال الوحشي الذي رافق الصناعة في انجلترا، ولا غرابة ان اثارت الصناعة اشمئزاز "نيتشه" فاندفع إلى تعظيم العسكرية وتمجيد فضائل الحياة العسكرية الحربية"([21]).




([1]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص460

([2]) المرجع نفسه - ص462

([3]) المرجع نفسه – ص463

([4])المرجع نفسه - ص464-465

([5]) جماعة من الأساتذة السوفيات – موجز تاريخ الفلسفة - تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 724

([6]) المرجع نفسه - ص 725

([7]) المرجع نفسه – ص726 / 727

([8]) المرجع نفسه - ص 728

([9]) المرجع نفسه - ص 728

([10]) ول ديورانت– قصة الفلسفة– ترجمة:د.فتح الله محمد المشعشع- مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص456

([11])المرجع نفسه - ص457

([12])المرجع نفسه - ص470 / 471

([13])المرجع نفسه - ص471 / 473

([14])المرجع نفسه – ص 480

([15]) المرجع نفسه – ص 480 / 482

([16])المرجع نفسه - ص484

([17])المرجع نفسه - ص485

([18])المرجع نفسه – ص486 - 487

([19])المرجع نفسه - ص494

([20])المرجع نفسه - ص495

([21])المرجع نفسه - ص499








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس