الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكراها العاشرة ثورة 25 يناير: من رانديفو الشباب إلى كرنفال الشعب

أحمد جرادات

2021 / 1 / 25
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


في ذكراها العاشرة ثورة 25 يناير: من رانديفو الشباب إلى كرنفال الشعب

فاتحة:
"لا هو عُرفاً ولا شرعاً
يكون لك حق تتفرعن
وتخرس أي صوت عالي
عشان اللي نطق أرعن
وتعمل ألف هليلة
وتطلع كلها قرعاً
تحب أقولها بالنحوي؟
لقد ضقنا بكم ذرعاً
وعصف الشعب لن يُبقي
لكم أصلاً ولا فرعا.ً"
كلمات لشاعر مجهول وُجدت مكتوبة فى ميدان التحرير

تنويه: شكراً وامتناناً

لقد أُتيحت لي فرصة تاريخية لا تُثمَّن ولا تُنسى وقد لا تتكرر في لحظة مشبعة بالعاطفة عندما دخلتُ، مع زوجتي خزامى الرشيد، ميدان التحرير في إحدى "المليونيات" الشعبية غداة الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، وتمكنتُ من التقاط المشاهد النادرة ومشاهدة ومراقبة والاستماع إلى والتحدث مع أعداد غفيرة من الشركاء في الثورة من جميع المشارب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

وأودُّ في البدء أن أتقدم بالشكر:
- إلى جريدة "المصري اليوم"، التي قدمت لي من أرشيفها كنزاً ثميناً وثروة مرجعية قيمة، وهي أعداد الجريدة الورقية المفقودة من الأسواق خلال الثمانية عشر يوماً الخالدة في تاريخ مصر الحديث، من تاريخ انطلاق يوم الغضب في 25 يناير/كانون الثاني وحتى سقوط الرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011، اطَّلعتُ فيها على يوميات الثورة والكثير من الوقائع والأحداث والمشاهد والقصائد والمقالات، بل على "الحياة" اليومية لسكان دولة "يوتوبيا" التحرير، شكَّلت مصدراً أساسياً لهذا المقال.

- إلى الضابط الشاب في الجيش المصري الذي كان يقف مع جنوده أمام دبابته على أحد مداخل ميدان التحرير، ورحَّب بالتقاط صورة معه كضيف أردني عربي دون أن يتحقق من هويتي، وإلى جانبهم أفراد أحد متاريس اللجان الشعبية لحماية المداخل الذين لا أعرف أسماءهم ولا أظنهم يتذكرون اسمي، لأنهم سمحوا لي بدخول الميدان ككاتب أردني عربي على الرغم من أنني لم أكن لحظتئذ أحمل أية وثيقة إثبات شخصية، لأنهم أرادوا أن أكتب عن ثورتهم.

- إلى صديق قديم تفضَّل باصطحابي سيراً على الأقدام في أحد روافد نهر الثورة من إحدى مناطق القاهرة، عبوراً فوق "كوبري 6 أكتوبر" ونزولاً إلى ميدان عبد المنعم رياض، مروراً بالمتحف المصري إلى قلب ميدان التحرير، وعرَّفني على المحطات والأماكن وأهم الأحداث التي وقعت فيها، ومنها ساحة المعركة التي أطلق عليه المصريون تندراً اسم "موقعة الجمل"، والمباني التي اعتلى أسطحها القناصة و"البلطجية"، وأخذوا يطلقون الرصاص الحي على المعتصمين ويقذفونهم بالزجاجات الحارقة والطوب. لقد ساعدني ذلك المشوار على "إعادة تمثيل المشهد" وشحنني بمشاعر أقرب إلى "اليوفوريا"، فأحسستُ كأنني كنت هناك... كأنني كنت بينهم ومعهم وأحدهم، فيا لمهابة ذلك الشعور!

- إلى بعض قادة ائتلاف شباب الثورة الذين، وإن لم يكونوا عندما رأيت بعضهم قد خرجوا بعد من حالة الدهشة من عظَمة ما أبدعوا، بدوا متواضعين وخجولين ومتحمسين وحكماء وواثقين بأنفسهم وشعبهم وبمستبقل مصر التي قالوا بحق إنها تولد من جديد.

- إلى عدد من الزملاء المثقفين والكتاب والفنانين، الذين التقيتهم في دار ميريت للنشر، حيث دار حوار رفيع المستوى، عرضوا خلاله رؤيتهم وروايتهم للثورة ودورهم فيها، وأفدتُ منه في هذا المقال.

- إلى هيئة الدفاع عن الثورة المؤلفة من ممثلي الكيانات السياسية والشعبية الذين كانوا يعقدون اجتماعاً في فندق شبرد القريب من ميدان التحرير، حيث أُتيحت لي فرصة الاستماع إلى جانب من مناقشاتهم الهادئة في خضم أحداث هادرة، واطَّلعت على بعض طروحاتهم وأفكارهم المختلفة.

البدايات: "كلنا خالد سعيد" ... صفحة على "فيس بوك"

"أنا احتفلت بعيد ميلاد خالد يوم 27 يناير، ثالث يوم في الثورة، و«الليلة دي باحتفل بزفافه للحور العين."

خالد استشهد فى شهر يونيو، لكن الحمد لله أنا دلوقتي استريَّحت، ومن النهارده هالبس الأبيض، مش هالبس إسود ثاني، ولما أروح إسكندرية، هادبح عجل لخالد، وأعمل عزومة لكل شباب مصر" .
والدة خالد سعيد ليلة سقوط مبارك
في 6 يونيو/ حزيران 2010، يقوم أفراد من شرطة قسم سيدي جابر بالأسكندرية بجرِّ الشاب خالد سعيد صبحي قاسم، 28 عاماً، إلى الشارع وينهالون عليه بالضرب الوحشي جهاراً نهاراً وأمام الملأ إلى أن تفيض روحه. وفي دقائق يتحول من شاب وسيم جميل ينبض بالحب والحياة إلى جمجمة محطمة وأسنان مكسرة ووجه مهشم وجسد ممزق إلى حد يتعذر معه التعرف على ملامحه. ولا يكتفي أفراد الشرطة بما اقترفته أيديهم، بل يحرصون على وضع كيس "بانغو" في فمه لإيهام الناس بأنه مدمن مخدرات. يُقتل خالد سعيد بتلك الوحشية وبذاك الحقد عقاباً له على نشر صورة فيديو على الانترنت تُظهر عملية "إعادة تدوير" مضبوطات المخدرات والأموال في قسم شرطة سيدي جابر.

يرسل عبد الرحمن منصور، 24 عاماً، المجند في الجيش المصري وخريج كلية الصحافة والإعلام من جامعة المنصورة، صورة "ما تبقى" من خالد سعيد من المشرحة إلى وائل غنيم في محرك البحث غوغل، ويتفق الشابان المستفَزان على فتح صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" تحت اسم "كلنا خالد سعيد"، وتأسيس "جروب" يزداد عددها بالآلاف في كل ساعة لأن أولئك الشباب، الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، يقررون ألا يسمحوا بأن يضيع دم خالد سعيد في غياهب النسيان شأنه شأن آلاف الضحايا قبله وبعده، ويطلقون عليه اسم "شهيد الطوارئ" أي قانون الطوارئ الرهيب الذي كانت تُقترف في ظله أبشع الجرائم ويفلت بموجبه الجناة من العقاب. ولا يمضي وقت طويل قبل أن يتحول خالد سعيد إلى أيقونة لثورة الشباب خلال الأشهر القليلة التالية التي تفصل بين تاريخ جريمة قتل خالد سعيد وتاريخ انطلاق الثورة.

يتم تأسيس مجموعات عديدة على الانترنت تدعو إلى الاحتجاج. وقبل أقل من أسبوعين من انطلاق يوم الغضب يقترح عبد الرحمن منصور اختيار تاريخ 25 يناير، موعداً لمغادرة العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي والخروج في مظاهرت احتجاج.

لماذا يوم 25 يناير؟
لقد اختير هذا التاريخ بسبب رمزيته المكثفة، فهو عيد الشرطة السنوي في مصر ويوم عطلة رسمية. ففي مثل هذا التاريخ من عام 1952، اقترف جيش الاحتلال البريطاني في مصر مجزرة رهيبة ضد أفراد شرطة الإسماعيلية الذين رفضوا الاستسلام المذل للقوات البريطانية وقاوموا بالأسلحة الخفيفة والقديمة دبابات الانجليز ومدافعهمم، فاستشهد خمسون منهم وجُرح ثمانون آخرون. وقد كانت تلك المجزرة واحدة من شرارات ثورة 23 يوليو/ تموز 1952. هذه هي المناسبة، أما رمزيتها فتكمن في الاستفزاز الذي يشكله النقيض، حيث وقفت الشرطة المصرية في عام 1952 مع الشعب ومع شعار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" وطالبت بجلاء قوات الاحتلال، بينما لا تتورع الشرطة التابعة لنظام مبارك وأجهزته الأمنية الأخرى، ولا سيما جهاز مباحث أمن الدولة المخيف، عن ارتكاب الفظائع بحق المواطنين، من اعتقال تعسفي وتعذيب وحشي واعتداءات يومية وامتهان لكرامة الإنسان.

في صبيحة يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011 الذي يطلق عليه الشباب اسم "يوم الغضب" تظهر الرسالة التالية على صفحة "كلنا خالد سعيد" بالعامية المصرية: "مستني إيه، سِيب الصفحة وإنزل". يستجيب للنداء بعض الأعضاء الافتراضيين في المجموعات الافتراضية لفعالية "يوم الغضب" الافتراضي، فيتركون الصفحة وينزلون إلى العالم الواقعي، كلٌّ ينطلق من حارته، من مختلف أحياء القاهرة المترامية: أمبامبة والمهندسين وناهيا وبولاق الدكرور ووسط البلد...، ومن مختلف المدن المصرية: الأسكندرية والإسماعيلية وكفر الشيخ والمحلة وأسيوط...

روافد بشرية صغيرة تلتقي في نهر عريض وتصب في بحور الميادين العامة المتلاطمة، وكأن المصريين يحاكون حركة نيلهم الأزلي أو يتدفقون في مجراه إلى مُستَقره. لكنَّ ما يتدفق في نيل الثورة ليس ماءً، بل دماءٌ زكية غزيرة تُراق في الإسماعيلية والسويس والاسكندرية وعلى جسر 6 أكتوبر وفي ميدان التحرير، الذي سيصبح منذ الآن عاصمة الثورة، دماء تطهِّر مياه النيل من النفايات السامة التي ما فتئ الطغاة الفاسدون وأتباعهم وأعوانهم ورجال البزنس من الليبراليين الجدد يلقونها فيه منذ أمد بعيد.

إدعاء الحكمة بأثر رجعي
أجزمُ أن أحداً على وجه الكرة الأرضية لم يتوقع اندلاع ثورة 25 يناير، ناهيك عن تكلِّلها بالنصر: لا الأجهزة الأمنية والاستخبارية للنظام البائد، ولا الأجهزة الاستخبارية الأمريكية والإسرائيلية المتغلغلة في جميع مفاصل الدولة والتي يفترض أنها تسمع دبيب النملة، ولا الأحزاب والمنظمات السياسية المصرية ولا المثقفون والمؤرخون والصحفيون وسائر المعنيين، ولا حتى الثوار أنفسهم، الذين لم يخطر ببالهم على الإطلاق أن مظاهرات يوم الغضب التي دعوا إليها ستتعدى كونها صرخة احتجاج على وحشية الشرطة ومباحث أمن الدولة والفساد ومن أجل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وحتى لو نزل أولئك الشباب إلى الشارع فإنهم لن يشكلوا صداعاً مزعجاً للدولة البوليسية المنيعة التي لا تُقهر. فهؤلاء في نظر المسؤولين الأمنيين الواثقين بجبروتهم، ليسوا سوى "شوية فراخ نقول لهم كش يكشوا". وكانت المعارضة القديمة، يمينها ويسارها ووسطها، بين مشكك وغير متحمس ورافض للمشاركة في مظاهرات يوم الغضب. واستهجن بعض العقلاء والحكماء وغيرهم كيف تقوم ثورة في موعد محدد مسبق ومعلن (يوم 25 يناير/كانون الثاني من عام 2011).

ففي ذلك اليوم- 25 يناير- صدرت الصحف المصرية، "القومية" والمعارضة، بمضامينها ولهجتها وتغطياتها المعتادة وبدون تسليط الأضواء على مظاهرات "اليوم" التي ستفجر ثورة عظمى تطيح بعد ثمانية عشر يوماً فقط بأعتى نظام حكم في أكبر بلد عربي، حتى أن جريدة "المصري اليوم" المعارضة المواكبة لأحداث الثورة بعد يوم 26 يناير، نشرت مقالاً ساخراً لإحدى الكاتبات في الجريدة بعنوان "رانديفو الثورة" قالت فيه:

"أن تتفق مجموعة "فريندز" على رانديفو للثورة يوم التلاتا ياكلوا حلاوة وجاتوه، فهذا هو العبط بعينه.... ولذا رأت الحكومة أنها أمام ناس نازلة الشوارع تهرَّج... فقررت أنه في رانديفو الثورة اليوم ( 25 يناير) هيكون العصير والحاجة السقعة عليها (أي على حساب الحكومة)."

سمات أساسية لثورة 25 يناير

يأتي تفجر ثورة 25 يناير المصرية بعد الثورة التونسية، وتفجُّر انتفاضات عربية تباعاً أو تزامناً بعد مرور ثلاثة أو أربعة عقود على مشروع هنري كيسنجر بتحويل مصر من "أم الدنيا" إلى "مصر الصغيرة المسكينة "poor little Egypt، الذي نجح لأربعة عقود، وعلى الخطة الأمريكية المتعلقة بمنطقتنا عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 والثورة الإيرانية عام 1979 بأنه لا حروب بعد اليوم بين الدول العربية وإسرائيل ولا ثورات شعبية بعد اليوم في المنطقة.

يمكنني القول إن ثورة 25 يناير هي إبنة الزمن الذي تنتمي إليه والذي وُلدت فيه ولادة طبيعية وصحية وحملت جيناته وحمضه النووي وبصمات أصابعه وعينيه:

• فهي ثورة مدنية سلمية تماماً، لم تستخدم العنف ولم تدعُ إلى استخدامه على الرغم من مقتل مئات الثائرين وإصابة الآلاف بجروح بشتى أنواع الأسلحة، بالرصاص الحي وقنابل الغاز والضرب بالهروات الكهربائية والرش بالمياه الكبريتية على أيدي الأمن المركزي وبالأسلحة البيضاء و"الشوم" والطوب والزجاجات الحارقة على أيدي البلطجية التابعين للحزب الوطني. وقد برهنت الثورة على أن قوتها تكمن في سلميتها وأن الشعب أقوى من كل قوة وأنه لا سبيل إلى التغلب عليه إذا نزل إلى الشارع بالملايين.

• هي ثورة غير نمطية، وشروط تحققها مختلفة تماماً عما ألِفه جيلنا ورسخَ في مخيالنا، لا يقودها حزب ثوري أو طليعة ثورية، ولا قائد ثوري كاريزمي، وليس لها أيديولوجيا ثورية (ماركسية، قومية، دينية...)، وهذا توصيف يجب ألا يعني بالتأكيد أدنى تقليل من شأن الثورات العظيمة التي عرفها جيلنا أو شهدها أو آمن بها، فلكل زمان خصائصة.

• هي ثورة الشعب كله، وليست ثورة جياع ومهمشين أو ثورة طبقة محددة ( عمال فلاحون، برجوازية صغيرة، مثقفون ثوريون،... إلخ فقط) تزيح الطبقة القديمة وتحل محلها. بل كان الجميع يخشى اندلاع ثورة الجياع والمهمشين، ممن ليسوا تحت خط الفقر فحسب بل تحت خط الحياة نفسها، وممن لم يعد لديهم ما يخسرونه سوى جوعهم وفقرهم وبؤسهم وذلِّهم. وكان المثقفون والمعارضون السياسيون وذوو النوايا الطيبة الذين ينشدون التغيير يضعون أيديهم على قلوبهم من وقوع انفجار اجتماعي عنيف وعدمي منفلت من عقاله، يشعل ناراً لا تحرق القاهرة وحدها في هذه المرة الثالثة، بل مصر كلها، أماكنَ وتاريخاً وأدباً وفناً وحضارة، ويُحدث طوفاناً، ليس كفيضان النيل الذي كان يكتفي بقربان عروس واحدة كي تهدأ ثورته بحسب الأسطورة، وإنما يُغرق الملايين ويجرف في طريقه السمين قبل الغث والقبيح قبل الجميل والطيب قبل الخبيث، ويتمنون في قرارة أنفسهم ألا يحدث ذلك الانفجار حتى لو ترتب على ذلك بقاء الحال على ما هو عليه، وهو المحال بعينه. من قلب هذه المعضلة "ابتكر" شباب مصر وشعبها "نظرية" جديدة مفادها أن الإنسان لا يثور لأنه ليس لديه ما يخسره في حاضره وحسب، فهذا أمر ألفوه واستكانوا له وسلَّموا "بقدَريته" لعقود، بل لأن لديه شيئاً أثمن من ذلك كله، لا يملك أن يخسره أو يتهاون به، وهو مستقبله ومستقبل أبنائه وأحفاده وآمالهم في حياة آدمية كريمة، فاجترحوا ثورة سلمية نظيفة محروسة بقلوبهم؛ والقلوب أعشاش للحب وليست مخازن للأسلحة الفتاكة.

• هي ثورة لم تستند إلى "مؤامرة" ثورية وتخطيط سري، ولم تضع استراتيجية وتكتيكاً مسبقيْن وساعة صفر لا يعلم بها سوى نفر محدود ومعدود من الثِقات، بل كانت علنية معلومة للعامة والخاصة، بمن فيهم الحكومة والحزب الوطني وأجهزة الأمن.

• هي ثورة تداعٍ لسائر جسد الشعب الذي اشتكى منه عضو- الشباب- وليست دعوة إلى الثورة؛ وهي ثورة توجُّهٍ وليست توجيهاً؛ ومبادرة ذاتية وليست تعليمات أو أوامر تنظيمية من فوق؛ وتجاوب طوعي من قبل الشعب وليست تحريكاً له؛ وشراكة على قدم المساواة وليست إشراكاً؛ وإسهام منزَّه عن الغرض "من كل حسب قدرته" وقناعاته ومواهبه وميوله، وليست مساهمة محسوبة العواقب. وبهذا المعنى فإنها ثورة لم يبدأها أحد بعينه ولن ينهيها أحد وليس "وراءها أحد"، ولذا فإن الباحث عن جواب شاف عن السؤال الأثير لجيلنا:"مَن يقف خلفها؟" لن يجده مهما سعى.

• هي ثورة متنامية، متوالدة، متدرجة، صاعدة، غير مكتملة، غير مُطلقة، انتقلت من مظاهرة عادية في يوم غضب لبضعة الآف من الشباب إلى ثورة شاملة لملايين الشعب المصري، ومن مطالبة السلطات بالخبز والحرية والكرامة والاحتجاج على عنف الشرطة إلى المطالبة برحيل مبارك بفعل الأمر "إرحل" وإسقاط النظام بأسره بالإرادة "الشعب يريد إسقاط النظام".

• هي ثورة تجترح حلولاً فورية عميقة للمشكلات التي تنشاً على الأرض بصورة مفاجئة، وتقدم ردوداً ثورية حكيمة على المواقف التي تواجهها، والتي لم تكن قد حسبت لها حساباً أو فكرت في احتمالاتها مسبقاً. ومع ذلك فإنها ليست ثورة فوضوية وعشوائية، وإنما ثورة منظمة ذاتياً وذات عقل وتمييز:

- فعندما يتم تنفيذ خطة شيطانية بإخراج السجناء والموقوفين الجنائيين من السجون ومراكز الشرطة، وإطلاق الأعنة لوحوش البطلجية ودفعهم إلى الأحياء السكنية ليعيثوا فيها فساداً ويقوموا بعمليات النهب والتخريب وترويع الأهالي، تردُّ الثورة بتنظيم اللجان الشعبية للدفاع عن المنازل والأحياء. وعندما تسحب الداخلية قوات الأمن من الشوراع، بما فيها شرطة السير، لإشاعة الفوضى والرعب بين الأهلين، عنذئذ يتولى شباب الثورة مهمة حفظ الأمن في الشوارع والميادين العامة وتنظيم حركة السير بأنفسهم، دون أن يتملَّكهم الرعب ويدفعهم إلى مقايضة الأمان الشخصي بالثورة، كما كان يخطط النظام ويأمل. وعندما تقطع الحكومة وسائل الاتصال التي يستفيد منها الثوار (وقف خدمات الانترنت والهاتف الخليوي والقطارات والقنوات الفضائية غير المرغوب فيها...) يستغني عنها الثوار وتتدفق سيول هادرة من الجماهير إلى الميادين العامة، حيث يلتقي الناس وجهاً لوجه، ويتواصلون بشكل مباشرعلى الأرض، فتزداد الثورة زخماً وتنوعاً. وعندما تجعل السلطات من المحروسة مقلب نفايات ضخم ويمتنع متعهدو الفساد عن نقلها، يسارع الشباب إلى تنظيف ميادينهم وشوارعهم بأنفسهم وبمبادراتهم الخاصة.

• هي ثورة "العائلة المصرية" الثقافية: فما أن يسمع الأهالي هتاف أبنائهم من أزقة الأحياء "يا أهالينا انضموا لينا"، حتى تطلَّ الأمهات والآباء والشقيقات والأطفال من النوافذ والشرفات ويبدأون بإلقاء البصل وعلب البيبسي وزجاجات الخل والماء لمواجهة الغازات المدمعة والمياه الكبريتية. ثم ما يلبثون أن يلتحقوا بهم ويندفعوا معهم إلى الشوارع الرئيسية، ومنها إلى مصب النهر البشري العظيم ميدان التحرير في القاهرة والميادين الأخرى في المدن المصرية للاعتصام فيها.
هناك يبدأ التفكير بالإقامة الطويلة ولمِّ شمل العائلات في مكان الإقامة الجديد، فالأهالي الذين يأتون لتفقد أولادهم وبناتهم والاطمئنان عليهم لا يعودون إلى بيوتهم، فثمة سحر عجيب يجذبهم ويُبقيهم في المكان. وسرعان ما تُنصب الخيام لنوم النساء والأطفال. وتأخذ الحياة منحى مختلفاً تقتضيه طبيعة الأحداث وتسارعها: إذ تتواصل اعتداءت قوات الأمن والمرتزقة على المعتصمين، ويسقط شهداء وجرحى، فتتشكل لجان طبية من أطباء وممرضين وأشخاص عاديين متطوعين وتُقام "مستشفيات" ميدانية في الخيام لإسعاف الجرحى والمرضى بما تيسَّر. كما تتشكل مجموعات لحراسة مداخل الميدان وتفتيش الداخلين بهدف حماية المعتصمين. ويُبنى مسرح وإذاعة لبث الخطابات ونشر المعلومات والأخبار وإسماع المطالب المتنامية في النهار، وللشعر والأغاني والموسيقى والمسرحيات المرتجلة في الليل. وتُعقد حلقات نقاش سياسي وثقافي وورشات رسم. شبان وشابات، أمهات وأباء وأطفال، مسلمون وأقباط، يساريون ويمينيون، يحملون علماً واحداً هو العلم المصري، ويقيمون "يوتوبيا" جميلة تقوم على التعاون والحب والإيثار وتقاسم الميسور القليل، ليس فيها تحرش ولا سرقة ولا تخريب ولا تعصب على أساس الجنس أو الدين أو اللون، الجميع متطوعون والجميع في خدمة بعضهم بعضا وفي خدمة الثورة... إنه حقاً كرنفال شعبي.

• هي ثورة مملوكة على الشيوع، وهي مُلكية (ownership) فردية وعامة، أي أنها لكل فرد وللجميع، كل فرد يشعر بأنها ثورته يدافع عنها ويحميها بكل ما أوتي من حول وقوة، بروحه إن لزم الأمر، كما حدث فعلاً. كلٌّ يتحدث عن دوره فيها ويحكي حكايته معها، ويستخدم صيغة الجمع: ذهبنا من هنا... واجهنا الأمن المركزي هناك، اعتدى علينا البلطجية في ذلك المكان، هتفنا، طالبنا، رفضنا حققنا، انتصرنا... تَخال أن محدِّثك هو صانع الثورة وأن الثورة أمه وأبوه أو ابنته وابنه، شيء حميم يخصه، لكن أحداً منهم لا يدعي لنفسه الفضل في صنعها أو قيادتها، بمن فيهم قادة ائتلاف شباب الثورة، لأنه لا أحد في مصر كلها يملك الصورة الكاملة. فقد أدى كل فرد دوراً ما، صغيراً كان أم كبيراً، واجترح بطولة ما، هيِّنة كانت أم عظيمة، وهناك ألف رواية ورواية للثورة، ربما كانت بعدد الرواة، وهي جميعا صحيحة!

• هي ثورة العبقرية الجمعية والعقل الجمعي، لكنْ العقل الجمعي الخلاق، وليس عقل القطيع، والعبقرية الجمعية التي تبتكر الحلول والردود والتصرف على الفور وفي عين المكان، وليست "اليونيفورم". إنها ثورة لا يمكن أن تبدعها عقول أفراد مهما بلغوا من العبقرية والذكاء.

• هي ثورة يعود الفضل الأكبر في تفجرها وانتصارها إلى قانون التراكم إياه، لكن ليس تراكم النضالات- على أهميتها- وإنما تراكم الظلم والقهر والإذلال إلى الحد الذي لم يعد معه ظهر الشعب قادراً على حمل أدنى قشة أخرى، ولا كيله قادراً على استيعاب قطرة أخرى. وعندما أُضيفت القشة الأخيرة وقطرة المُر الأخيرة، وقدَح الشباب الزناد، اندلع لهيب الثورة، ولكنه وقع برداً وسلاماً على مصر والأمة بأسرها.

ولعل شواخص الطريق إلى الإطاحة بالحكم المطلق ونيل الحرية والكرامة وتحقيق العدالة في دولة مدنية ديمقراطية في البلدان العربية، وكذلك طريق تحرير الأرض والعودة إلى فلسطين، باتت الآن واضحة، ويمكن أن تصبح سالكة: إنها "قوة الأرقام أو الأعداد" The power of numbers)) الواعية والصادقة، لكن على الأرض، حيث تزحف الملايين سلمياً، مع الالتزام الصارم بعدم استخدام أي شكل من أشكال العنف، إلى هدفها المنشود مباشرةً. عندئذ لن تكون هناك قوة، مهما بلغت من عتوٍّ، يمكن أن تقف في وجهها.

• هي ثورةٌ شبابها متواضعون زاهدون، ليس لديهم شهوة الحكم، ولا يفكرون في الجلوس على سدته، وليسوا في وارد الحلول محل رجال النظام البائد كما كان يحدث في الثورات القديمة، ولكنهم في الوقت نفسه حريصون كل الحرص على ثورتهم ولن يتخلوا عن مسؤوليتهم تجاهها، يتابعون ويراقبون عن كثب كل صغيرة وكبيرة في الفترة الانتقالية: الإنجاز والتقدم، التباطؤ والتقاعس، التحايل ومحاولات عودة النظام المُطاح به بأشكال أخرى وبلبوس آخر. وهم يمارسون التوعية والتحريض والتحذير، عيونهم لا تنام وآذانهم مرهفة وحواسهم مستنفرة. وما زالوا يمتلكون الأداة الثورية الحاسمة والمرجعية الشرعية الثورية، وهي اللجوء إلى الشعب كلما اقتضت الضرورة. والشعب لا يزال يثق بهم كل الثقة ومستعد لتلبية النداء والعودة إلى الميادين والشوراع في أية لحظة إذا استنجد به الثوار.

• ومع كل ما تقدم عن هذه الثورة المجيدة، فإننا نجد أنفسنا أمام ثورة لا مثيل لها في الروح، فهي من ناحية، ثورة في منتهى الجدية، هزَّت مصر والمنطقة والعالم وسقط في سبيلها آلاف الضحايا بين شهيد وجريح ومفقود ومعذَّب. ولكنها من ناحية ثانية ثورة لم تفقد لحظةً روحها المرحة وظلها الخفيف ولسانها العذب حتى في أحلك الأوقات. ولعل نظرة خاطفة على الهتافات والشعارات واللافتات التي كان المعتصمون يرفعونها والمكتوبة على أي جسم يعثرون عليه- على ورقة بالية أو قطعة كرتون ملقاة في الشارع أو على الجدران أو الوجوه والأجساد البشرية- تُغني عن التفصيل، من شعار "إرحل يعني إمشي، إنت ما بتفهمشي" حتى شعار "فيس بوك على كل ظالم".

• وأخيراً هي ثورة أبطلت بطلاناً قاطعاً تهمة السلبية وعدم الانتماء الوطني التي ما انفك جيلنا يلصقها بجيل الشباب، وبرَّأت ساحتهم منها، بل أثبتت عكسها تماماً. ولطالما نظر جيلنا إلى شباب اليوم على أنهم "تنتات وعيال التشاتنغ الفارغ على النت"، واتهمهم بانعدام الروح الوطنية واللامبالاة والسطحية والاستلاب للعولمة الرأسمالية، وإذا بهم ينتفضون بأدوات العولمة نفسها ويستخدمونها كأمضى سلاح من أجل قضايا شعبهم ووطنهم، ويُظهرون في خضم الأحداث التاريخية الحاسمة حكمةً ورجاحة عقل تفوق ما لدى الحكماء والعقلاء من جيلنا، فرأينا كيف انتصرت الثورة بالشباب الذين "يفتقرون إلى الحكمة والعقلانية"، وكيف يمكن أن تُهزم بالسياسيين المحنكين من بيوت الحكمة والعقلانية من أمثالنا.


من قصائد ثورة 25 يناير
الميدان: عبدالرحمن الأبنودي
"أيادي مصرية سمرا.. ليها فى التمييز
ممدودة وسط الزئير.. تكسّر البراويز
سُطوع لصوت الجموع.. شوف مصر تحت الشمس
آن الأوان ترحلي.. يا دولة العواجيز!
..........
عواجيز شداد.. مسعورين.. أكلوا بلادنا أكل
ويشبهوا بعضهم.. نهم.. وخِسّة وشكل
طلع الشباب البديع.. قلبوا خريفها ربيع
وحققوا المعجزة.. صحُّوا القتيل من القتل
..........
إقتلني.. قتلي.. ما حيعيد دولتك تاني
باكتب بدمي حياة تانية.. لأوطاني
دمي ده والاّ الربيع.؟ لاتَْنين بلون أخضر
وبابتسم.. من سعادتي والّا أحزاني؟
السوس بينخُر وسارح.. تحت إشرافَك
فرحان بهم كنت.. وشايلهم على كتافك
وأما أهالينا: من زرعوا وبنوا وصنعوا..
كانوا مداس ليك.. ولولادك.. وأحلافك.
..........
يا مصر.. قام العليل.. رجعت له أنفاسُه
وباس جبين الوطن.. مال الوطن باسُه
من قبل موته بيوم.. صحُّوه أولاده
من كان سبب علته.. محبته لناسه!
...........
الثورة فيضان قديم محبوس ماشافوش زُول
الثورة لوْ جدَّ.. ماتبانشي ف كلام أو قول
تعدل وتقلب فى سرِّيه، تفور فى القلب
وتتْغزل فتله فتله.. فى ضمير النول.
.........
وبيسرقوك يا الوطن.. قدامنا.. عيني عينك
ينده بقوّه الوطن، ويقوللي: "قوم فينك"؟
ضحكت علينا الكتب، بِعْدت بِنا عنك
لولا ولادنا اللي قاموا يسددوا دينك.
لكن خلاص يا وطن.. صحيت جموع الخلق
قبضوا على الشمس بإيديهم وقالوا: لأ
م المستحيل يفرطوا عُقد الوطن تاني
والكدب تاني.. محال.. يلبس قناع الحق!
............
من كان يقول ابننا.. يطلع بنا م النَّفق!!
دي صرخة والا غنا.. وده دم والاّ شفق؟
أتاريها حاجة بسيطة الثورة يا اخواننا
مين اللي شافها كده؟ مين أول اللي بدأ؟
مش دول شبابنا اللي قالوا كرهوا أوطانهم؟
لبسنا توب الحداد.. وبْعدنا قوي عنهم..؟
همّ اللي قاموا النهارده يشعلوا الثورة
ويصنّفِوا الخلق: مين عانْهم، ومين خانْهم!!
..........
يادي الميدان اللي حضن الفكره.. وصَهرْها
يادي الميدان اللي فتن الخلق وسحرها
يادي الميدان اللي غاب اسمه كتير عنه
شباب.. كإن الميدان.. أهله وعناوينه
ولا في الميدان "نيس كافيه" ولا "كابتشينو"
خُدودُه عرْفوا جَمال النومة ع الأسفلت
والموت عارفهم قوي.. وهمّ عارفينه!!
............
أوّلنا فى الجوْلة.. لسه جولة.. ورا جولة
ده سوس بينخر يا بويا في جسد دولة
أيوه الملك صار كتابة.. إنما أبداً
لو غَفِّلت عيننا لحظة.. حيقلبوا العُملة."
----
أحمد جرادات
من مقال قديم، كُتب في أبريل/نيسان 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفكيك حماس واستعادة المحتجزين ومنع التهديد.. 3 أهداف لإسرائي


.. صور أقمار صناعية تظهر مجمعا جديدا من الخيام يتم إنشاؤه بالقر




.. إعلام إسرائيلي: نتنياهو يرغب في تأخير اجتياح رفح لأسباب حزبي


.. بعد إلقاء القبض على 4 جواسيس.. السفارة الصينية في برلين تدخل




.. الاستخبارات البريطانية: روسيا فقدت قدرتها على التجسس في أورو