الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إرنست ماخ (1838 – 1916)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 1 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




عالم طبيعي (فيزيائي) وفيلسوف نمساوي مثالي ذاتي، وأحد مؤسسي الفلسفة التجريبية النقدية، وضع نظريته على النقيض من المادية الفلسفية، فالمفاهيم عند "ماخ" هي بمثابة رموز تشير إلى "مُرَكّبات الأحاسيس" (أي الأشياء)، وقد كشف وفَنَّدَ كتاب لينين "المادية والتجريبية النقدية"([1]) فلسفة "ماخ" المثالية الذاتية"([2]).

في اسهاماته الفلسفية، كان لماخ تأثيراً كبيراً على الوضعية المنطقية من خلال نقده لإسحاق نيوتن، وفي اواخر القرن التاسع عشر بدأت وضعية كونت – ميل- سبنسر تتوارى تدريجيا عن المسرح، ليحل مكانها شكل جديد من الوضعية، عميق الاتجاه المثالي – الذاتي واللاأدري عند أسلافه، وكان ارنست ماخ وريتشارد أفيناريوس أبرز ممثلي هذا الشكل الجديد، الذي عرف بمذهب النقد التجريبي.

يحاول ماخ، كسائر الوضعيين، "تنظيف" الفكر العلمي من "الميتافيزيقا"، بـ"مشكلاتها الوهمية"، ويدعي لنفسه الوقوف على أرضية التجربة، وأن وجهة نظره التجريبية "تستثني، تماما، كافة القضايا الميتافيزيقية.."، ويعلن أنه ليس فيلسوفا، "فليس هناك ما يدعي بفلسفة ماخ"، وأن ما جاء به ليس الا "ميتودولوجيا وبسيكولوجيا علمية للمعرفة".

بإرجاع الفلسفة إلى "بسيكولوجيا المعرفة" يؤكد ماخ، بالاتفاق مع كانط، أن المعرفة لا تَنْفَذْ إلى ماهية الاشياء، وأنها تقتصر على ظواهرها فقط، لكن ماخ، بخلاف كانط، ينفي وجود "الاشياء في ذاتها" وجود الواقع الموضوعي. ان ماخ يفترق عن كانط يميناً، باتجاه مثالية بيركلي وهيوم الذاتية، التي ترجع العالم الخارجي إلى أحاسيس الذات، ولاثبات هذا الرأي يعمد ماخ إلى استخدام نظرية داروين في التطور، حيث يؤكد أن العلم لا يعكس سوى الوظيفة البيولوجية في التكيف لدى الكائن الحي، ولا يمس الواقع الموضوعي مطلقا.

من هذه المقدمات ينطلق ماخ لتطوير "النظرية البيولوجية – الاقتصادية في المعرفة"، وطبقا لهذه النظرية فان المبدأ الأساسي للمعرفة العلمية هو مبدأ "اقتصاد الفكر"، أو "اقتصاد الأفكار وتوافقها وانتظامها"، بهدف التوجه البيولوجي في مادة التجربة"([3]).

إن المفاهيم، والقوانين، والتفسيرات العلمية عامة، تخلو – عند ماخ- من أي مضمون موضوعي، لاصلة لها بالظواهر، التي عنها تتحدث، إلا كصلة الرموز الاختزالية بالمفاهيم التي عليها تدل: انها نتاج للعقل، وجدت لا لتعكس الواقع، وانما لتلبية حاجة الذات العارفة، وهنا يؤكد ماخ أن "لا سبب ولا نتيجة في الطبيعة"، لان "السبب والنتيجة مجرد نتاج لفكرنا".

كذلك الامر بالنسبة لقوانين الطبيعة، فهي تولد من حاجتنا النفسية، ولا تعبر عن أية روابط موضوعية بين الاشياء؛ انها نتاج للروح الانسانية، لامعنى لها الا بالنسبة للإنسان.

يرى ماخ أن أشياء العالم الواقعي ليست هي مايثير الاحاسيس فينا، بل، على العكس، فان "مركبات الاحاسيس (مركبات العناصر) هي التي تشكل الاجسام"، وهذه الاخيرة – أي الاجسام ليست سوى "رموز منطقية" لهذه المركبات الذرة، والجزيء، والكتلة، وغيرها – ليست، أبداً، حقائق موضوعية، بل مجرد رموز للوصف المقتصد للاحاسيس، وهكذا فان "ما ندعوه مادة، ليس إلا رابطة قانونية معينة للعناصر (للاحاسيس)"، ولتجنب الانزلاق إلى مستنقع الانفرادية، ولاضفاء نوع من الموضوعية على آرائه، يعلن ماخ، في مؤلفاته المتأخرة، أن هذه العناصر (الاحاسيس) ليست فيزيائية ولا نفسية، لاذاتية ولا موضوعية – انها "حيادية"([4]).

من وراء هذا الطرح لحيادية "العناصر" "يأمل ماخ بالتخلص من "ميتافيزيقية" المادية والمثالية على السواء، لكنه، باعلانه الاحاسيس عناصر حيادية للعالم، يسير في طريق "الميتافيزيقا" المثالية، لانه يفترض ماهيات ميتافيزيقية جديدة، لا يمكن الكشف عنها بالتجربة، وتشكل، مع ذلك، أساس هذه التجربة.

إن البشر يتعاملون، في تجربتهم العلمية واليومية، مع أشياء وعمليات موضوعية، من جهة، ومع أحاسيس الذات المتعرفة، التي لا تنفصم عن نشاط الحواس والجملة العصبية من جهة ثانية، لكن ماخ، الذي يجد نفسه مضطرا للاعتراف، بقوله أن الاشياء كلها مجرد مركبات أحاسيس، وقد انتقده لينين بقسوة في كتابه "المادية والتجريبية النقدية"، حيث بَيَّنَ أن إرجاع جميع الاشياء إلى مركبات الاحاسيس هو احياء لفلسفة بيركلي المثالية الذاتية الرجعية، الأمر الذي سيقود حتما إلى القول بأن العالم كله ليس إلا تصوراتي الخاصة، أي إلى الانفرادية (الأناوحدية).

كما "بين لينين أن النظرة الماخية لم تؤد إلى التخلص من "احادية الجانب" لدى كل من المادية المثالية، كما كان يزعم أصحابها لانفسهم، وإنما قادت إلى الخلط والتخبط بين وجهات نظر فلسفية متعارضة، فاذا كانت "العناصر" احاسيسا –كما يقول لينين- فان ماخ لا يملك الحق في التسليم بوجود "العناصر" خارج أعصاب الذات ووعيها، واذا كان يسلم بوجود موضوعات فيزيائية، مستقلة عن الاعصاب والاحاسيس، فانه، بذلك، يهجر مواقع المثالية، لينتقل، خلسة، إلى مواقع المادية""([5]).

لكن "ماخ لا يتراجع عن موضوعته المثالية – الذاتية الاساسية في ان العالم مركب من الاحاسيس، وهكذا يتخلى ماخ، الذي لم يفلح في حل هذا التناقض، عن كل محاولة في صياغة رؤية فكرية متكاملة، ليجمع في مذهبه، بشكل آلي، النظرة البركلية المثالية – الذاتية إلى العالم الخارجي، والتسليم ببعض الموضوعات المادية لعلوم الطبيعة، ومع ذلك بقيت فلسفة ماخ تمارس تأثيرها على عدد من علماء الطبيعة، تأثيراً تعزز في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بظهور مذهب النقد التجريبي، مذهب ريتشارد أفيناريوس، الذي جاء قريباً للغاية من الماخية، مع أنه ظهر بشكل مستقل عنها"([6])، وقد أثَّرت فلسفة ماخ في تشكيل الوضعيه الجديدة، وكذلك في التحريف الماخي للماركسية.

من مؤلفاته الرئيسية([7]):

"تحليل العناصر والروابط في المادية والنفسي" (1886) – "الادراك والخطأ" (1905).




([1]) الفلسفة التجريبية النقدية : تذهب هذه الفلسفة إلى أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد، وتؤكد أن كل معرفة تقوم على أساس التجربة ويتم بلوغها عن طريق التجربة. والتجريبية المثالية (بركلي وهيوم وماخ وافيناربوس وبوغدانوف، والتجريبية المنطقية الحديثة، إلخ) تُقْصِرْ التجربة على المجموع الكلي للإحساسات أو الأفكار، مُنْكِرةً ان التجربة تقوم على أساس من العالم الموضوعي، أما التجريبيون الماديون (فرانسيس بيكون وهوبز ولوك والماديون الفرنسيون في القرن الثامن عشر) فيعتقدون أن العالم الخارجي الموجود موضوعياً هو أصل التجربة الحسية.. التجريبية لا تستنبط الطابع العام والضروري للمعرفة من العقل وانما من التجربة، وقد توصل بعض التجريبيين (مثل هوبز وهيوم) – تحت تأثير المذهب العقلي- إلى نتيجة تقول بان التجربة لا يمكن أن تعطي المعرفة أي معنى ضروري وعام، وأوجه النقص في التجريبية هي: المبالغة الميتافيزيقية في دور التجربة، والتقليل من أهمية دور التجريدات والنظريات العلمية في المعرفة، وانكار الدور الايجابي والاستقلال النسبي للفكر، وقد تغلبت الفلسفة الماركسية على هذه النواقص بدراسة مشكلات نظرية المعرفة، من وجهة نظر جدل الممارسة. (م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية –دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 110)

([2]) م م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية – دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص428

([3])جماعة من الأساتذة السوفيات – موجز تاريخ الفلسفة - تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 729

([4]) المرجع نفسه - ص 730

([5]) المرجع نفسه – ص 731

([6]) المرجع نفسه - ص 732

([7])م. روزنتال و ب. يودين -الموسوعة الفلسفية –دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 427








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار