الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح 9

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 1 / 29
الادب والفن


هدأت فورة الترحيب ونشوة الأنتصار السريع وتيقنت بعض العقول التي تقرأ الحدث جدا أننا أمام كارثة كبرى لو أستمرت الحرب إلى الشتاء القادم، فالبرد وعوامل جغرافية وبيئية سوف لن تكون في صالح بقاء الجيش بعيدا عن مراكز المدن والقرى والطرق المعبدة، هذا إذا ما أضفنا أن هناك قواعد في العلم العسكري تؤكد أن البقاء في أرض لا تدرك تماما كيف تتعامل معها في تقلبات المناخ تمنح خصمك قدرة أكبر على المناورة واستيعاب الضربة، هذا ما كنا نلمسه بالفعل بعد مرور أكثر من شهر على بداية الحرب، صدر قرار رئاسي بإعادة أفتتاح المدارس والجامعات المعطلة مما يساهم بجعل الأوضاع الأجتماعية أقل توترا وكأن هناك إقرار فعلي على أعلى المستويات بأن الحرب قد تأخذ وقتا أضافيا.
كان الخبر بقدر ما جلب لي سعادة شخصية فأنه من جهى ثانية أكد لي مخاوفي من أننا أمام مأزق قد لا تكون له نهاية معلومة وفق قراءات الواقع، ذهبت في اليوم التالي إلى بغداد مررت في جانب الكرخ حيث شارع حيفا التي أنتصبت فيع عمارة حديثة وبنايات شاهقة تدغدغ الحلم بوطن مفتون بالبناء والأعمار بدل الحرب والدماء، كانت خالتي الصغرى معلمة في إحدى مدارس الكرخ الأبتدائية لترافقني إلى كلية القانون في أول مرة نطأ بها قدمي مبنى جامعي سيحدد لاحقا شكل حياتي ووجودي في هذا العالم.
في الطريق ونحن نعبر دجلة نحو رصافة بغداد وفي منتصف الجسر تماما وبالقرب من بناية مدينة الطب، سمعنا صوت صفارة الإنذار التي تحذر من وجود غارة قادمة، من باب السخرية المرة قلت لخالتي (لا تهتمي الأمر بسيط جدا فنحن أمام أكبر مستشفى في الشرق الأوسط، سيأتون لإنقاذنا سريعا وسنحصل على أفضل علاج)، المهم أن لا نتأخر على تسليم ملف الأوراق لعمادة الكلية، ألا تكفيني خيبات السلام حتى تلاحقني خيبات الحرب! إنها السلسلة المقيتة في حياتي، كلما أقتربت من الفرح يستأذن في الحال ويقول أعذروني فأنا مدعو في مكان أخر، ويتركني ويذهب.
عند مدخل الكلية في الوزيرية تبدلت الأجواء مع أنتهاء صفارة الإنذار والبدء بتقديم الأوراق التي لم تأخذ وقتا طويلا، كان الطلبة الأسبق منا يملئون طرق الكلية وممراتها بفرح غامر، لا شيء هنا يوحي بالحرب والدم والألم والدخان ولوعة من يخوض غمارها في نهاية سريعة، أه كم قاسي هذا العالم ولكنه أيضا عادل، فالكل لهم عالمهم الخاص وقد لا تتداخل العوالم وقد ينسف أحدهما ما عداه لو أضطرت الظروف لأن يفعل ذلك، الخوف هنا ليس فقط من بقاء نيران الحرب مستعرة خارجا، بل الخوف متجسد في أن تتوقف الدراسة تحت أي مبرر وفي لحظة ما، طالما أن من يقرر ذلك لا مصلحة له إلا بالنصر الذي يخطط له.
أسررت بهذه المخاوف لخالتي والتي أعادت علي فكرتها التي ذكرتني بها صباحا (عليك أن تفعل ما يمكنه وأترك ما لا تدركه لمن يدبر الأمر)، الشيء الأهم أن لا تتأخر في دراستك، كن كواحد من هذا الحشر وامضي بينهم بسرعة، قد تجد نفسك في لحظة تتقدم الصفوف، الحياة ليست مخاوف وخيبات فقط بل هي أكبر من أن نستوعب درسها بجيل أو عدة أجيال، الحياة لعبة بين القدر والمقدر له، فلا تكن خارج قوانينه لأنك ستتعب وسيكون عليك أن تدفع الثمن أكثر من غيرك.
أستلمت أستمارة القبول وذهبت إلى مجانية التعليم لأستلام الكتب والتهيؤ للدوام بعد يومين حيث سيعلن عن جدول الدروس وما إلى ذلك من لوازم، كان أيضا هناك مراجعة لدائرة الأقسام الداخلية لغرض توزعينا على السكن الجامعي، أنجزنا كل ذلك بسرعة، من باب المعظم حيث دائرة الأقسام الداخلية مشيا على الأقدام إلى أورزدي باك الرشيد، نشتري الزي الموحد وهو عبارة عن قميص أبيض وبنطال رصاصي، لم يكن لأمر معقدا ولا يحتاج لخبرة خاصة كنت متهيأ لها بأفضل صورة، في أحد مطاعم شارع الرشيد تناولنا الغداء سويا ثم قررت السفر رجوعا إلى كربلاء، كان يلزمني أيضا بعض القرطاسية الجامعة مثل (ليفكس) وأوراق لكتابة المحاضرات، أجلت الشراء الآن لأن ما بقي معي يكفي فقط للوصول إلى كربلاء.
أن تكون قد أستثمرت يومك بدون تفريط بالوقت وتساعدك الظروف أن تعمل بشكل إيجابي فذلك واحدة من نعم الرب عليك، كنت فيما مضى عندما أريد أن أسدد ديني لله وأشكره على المساعدة أذهب إلى صحن سيدنا العباس الذي تولدت في داخلي وأنا طفل صغير عقدة الخوف من غضبه وسرعة إجابته لكل فعل مخالف أو فيه أذى للأخرين، وبالرغم من أنني ولدت في مكان لا يبعد عن جدار الصحن إلا أمتار قليلة، ولكن هذا لا يمنع أن تتشكل علاقة رعب بيني وبينه، دخلت من الاب الشمالي الشرقي قاطعا الصحن بوجل بأتجاه البال الجنوبي الغربي وأنا أقرأ سورة الحمد مرارا وتكرارا، كنت أسمع همسات الرب لي وأمانيه بالنجاح، ولكن أيضا كنت أحس بأن هناك عيون تراقبني من بعد، قد تكون عيون حراسي الذين زعمت والدتي أنهما ولدا معي ليحرسوني من الشياطين عندما أكون خيرا ومتسامحا ومحبا للحياة.
ودعت سيدنا العباس وداع من تعزه ولا تحسب وداعه إلا أمل بلقاء، وتوجهت صوب السيد الأكبر معلمي وصديقي والحزن الأعظم الذي علمني قضية أن تكون مصلحا لذات الإصلاح أفضل من أن تكون مصلحا لطلب الجنة لنفسك، أحس أن بيني وبين الحسين علاقة أبوة وتبني وأنتماء روحي أكثر من علاقة سيد ومسيد عليه، ولا هي علاقة عبد مأمور للإمام واجب الطاعة، فأنا أعرف الطاعة تأتي من الحرية كونها قرار عقلي محض، أما المجبورة فهي إستذلال وفرض قهري لا يمكن أن أبدا تكون صحيحة وسليمة وإيجابية هكذا، فمن يقدم كل هذا الثمن من الدماء والألم لا يمكنه أن يكون قاهرا للناس على طاعته بالرغم من أنوفهم، كان يكفيه أن يأمرهم ومن يخالف فالنار مثواه، لذا كنت مؤمنا بالحسين صديقا وأبا ومعلما يمنحك الدرس مجانا وحبا كلما أقتربت خطواتك منه.
في طريقي نحو كراج السيارات التي تقلني إلى لبيت ألتقيت صدفة بأحد زملائي الذين لم يوفقوا بالنجاح، حاولت أن لا أجرح مشاعره وهو يراني عائدا من بغداد وقد علم كغيره أني قبلت طالبا في كلية القانون، تظاهرت بعدم الأنتباه وحاولت أن أشغل نفسي بقضية ما، لكنه بادرني فورا وبلغة حادة قد تشم منها روح الكراهية (على مهلك لم تصبح محاميا بعد فما زال الطريق طويل وقد لا تصل طالما أن الحرب ستنال منك)، ذكر الحرب دوما يستفزني وخاصة ممن يروجون لها أو يفتخرون بها، قلت.... كنت حريصا على مراعاة مشاعرك ولكنني كنت واهما... الأفضل لك بدل هذا الكلام أن تتحدى نفسك وتعقد العزم أن تلحق بي لنكون محامين غدا كما كنا زملاء في الأمس... أجاب بنبرة ساخرة... الفقراء والمعدمين من أمثالك هم من يسعون لأن يكونوا خدما عند الناس... نحن يكفينا أن نصف أملاك كربلاء لنا ولعائلتنا وسنستعين بكم لتخدموننا .... وذهب مغاضبا.
وصلت البيت قبيل المغرب بدقائق وكان هناك أكثر من خبر ينتظرني، اليوم جاء عمال البلدية وألياتها لغرض مد شبكة ماء للمنطقة، خبر ثاني أن أبن عمي كان اليوم ضيفا عندنا هو شقيقتي زوجته وأنتظر عودتي لكن الوقت تأخر، كان لا بد أن أراه فهو وإن كان أكبر عمرا مني ولا يعرف في السياسة ولا الفكر إلا بحدود تجربتي في العسكرية، فقد تطوع وهو لم يبلغ الثامنة عشر من عمره كسائق في صنف التموين والنقل، ومن ذلك الوقت أنخرط كليا في عالمه الجديد، ما يقربني منه تلك الروح الحانية والشعور بقرابة الدم الحقيقية فهو لا يمكنه أن يترك مناسبة وإلا كان قريبا منا، له قلب تستطيع أن تسمع دقاته عن بعد، كان خلاصة من طين الفطرة ووفاء الدم وحب الحياة له ولغيره، تأسف كثيرا إني لم أره ولكن غدا جمعه وسأذهب من الصباح لألتقيه وأقص له ما جرى في رحلتي لبغداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا