الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصداقة والصندوق

هيثم بن محمد شطورو

2021 / 1 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بين الأصدقاء عادة ما تنشأ رابطة روحية. روحية بمعنى في كونها لا تتعلق بروابط الدم، ولا بروابط المصلحة المشتركة، وإنما بروابط المشاركة في الوعي. هذه الرابطة تتجوهر في كونها تـنبثـق من حقيقة النسيج الخفي في عمق الوجود. ذاك النسيج الهلامي ولكنه الحقيقي. انه الروحي.
ولا معنى هنا لاختـزال الوجود الإنساني في ماديته، سوى في كونه إفـقار لهذا الوجود، روحيا وأخلاقيا وقيميا. ولكن ربما قيمة هذه الزاوية في النظر أنها تؤشر إلى التـقارب الطبقي بين الأصدقاء، برغم أن علاقات الصداقة قد تتجاوزها بمثل ما تتجاوز رابطة الدم، فالصديق اليوم هو أقرب إليك من الأخ أو ابن العم، وهي تلك الرابطة الدموية التي خلقت نسيج العلاقات ضمن الواقع القبلي العشائري. ومن خلال المقاربة الماركسية، لا يمكن أن نفكر من خلالها إلا بشكل نسبي إذن، مع النفي لأسبقية المادي على المثالي، وهي القاعدة الماركسية المعروفة بصياغتها للبنية الفوقية كانعكاس للبنية التحتية. هذه القاعدة ليست حقيقية، وليست زائفة في نفس الوقت، ولكنها قائمة على طريقة التـفكير التي تـفصل الطبيعة عن الثـقافة، والروحي عن الجسدي، و هو الفصل التجريدي الصالح لتبين المسائل نظريا وتبين تميزاتها، ولكن في الوجود الحي، يبدو هذا الفصل اسقاطيا وعاملا في إفـقار النظر إلى الوجود.
فالمقاربة الماركسية نسبية ومحدودة، وهو لم يتحدث عن الفاعل القبلي في التاريخ، وهو الفاعل الأساسي خاصة في التاريخ السياسي العربي بمثل ما حلل ذلك بكل براعة العلامة "ابن خلدون". وإننا إزاء ذلك نتراوح في النظر وفق مبدأ عدم الفصل بين المادي والروحي، وننظر إلى الصداقة كرابطة روحية تتعين في الواقع وفق الوضعية التي تساعد على بناء الرابطة. فهذه الرابطة قائمة على التشارك السيكولوجي والأخلاقي والعقلي. فالنفس الكريمة لا تصادق إلا النفس الكريمة. فالطيور على أشكالها تـقع، مثلما قال المتـنبي.
وحين ننحو في التفكير خارج المحددات الماركسية الضيقة، فإننا نبحر في الوجود ونكاد نلفه لفا. فالإصرار الماركسي على وصف نفسه بالعلمية، وبالتالي إعلائه لطريقة التـفكير العلمية، يبدو ماركسيا أكبر عملية إجهاض للتـفكير العلمي. فالتـفكير العلمي قائم على ملاحظة الظاهرة في ذاتها ومن ثم الاستـنـتاج الذي يمر عبر التجربة تـقـليديا وعبر الافتراض والاحتمال حديثا.
نلاحظ من خلال فظاءات المقاهي، وتلاقي وجوه معينة باستمرار مع بعضها، سواء بالنسبة للإناث أو الذكور، أن ذاك التلاقي يعبر عن لحظة تحرر معينة. يتم وصفها بلحظة التحرر من المشاغل ومن البيت، برغم أنها قد تـشكل جزءا من الحديث الدائر فيما بينهم. إنها أوقات الاسترخاء النفسي عامة، والتي تعبر عن الالتـقاء بالذات في الالتـقاء بالصديق أو الأصدقاء. إنها إذن، أوقات تجاوز الاغتراب عن الذات، لذلك تستـشعر الزوجات والأزواج الغيرة من بعضهما تجاه لقاءات الأصدقاء من كليهما.. وانك في عصر الضجيج والصخب هذا، تلاحظ وجود مؤسسة هامة ومحورية فيه، وهي المقهى. المقهى، عنصر أساسي في الحياة المعاصرة. أنها فضاء التلاقي الحر. انه فضاء مديني يتوفر على الطاولات والكراسي والنادل الذي يحضر لك قهوتك أو شربك، والوجوه المتعودة على الالتقاء لرواد المقهى الذي يشكل رابطة تعارفية وتمييزية معينة. فمثلا، حين تستـذكر شخصا تقول انه من رواد مقهى معين. فالمقهى إذن عنوان. فمقهى معروف برواده المحترمين بشكل عام، وآخر معروف برواده من السوقة، وآخر يخلط بين جميع الفئات، ومقهى للنساء ومقهى مختلط ومقهى للرجال. فالمقهى عنوان ولكنه في نفس الوقت فضاء التلاقي الحر، فبإمكانك تغييره متى ما شئت، وبإمكانك التغيب متى ما شئت، ويمكنك مجالسة من تحب. إذن فهو فضاء التحرر من قيود العالم.
قيود العالم هذه، هي بيت السكنى، ومؤسسة العمل. كليهما يفرض عليك تـقيـيد حريتك ويفرض عليك واجبات ويطلب منك تـنـفيذ واجبات ويفرض عليك مشاغل معينة ومسئولية معينة. في نفس الوقت، فكليهما هو مكان للاعتـزال عن الناس بشكل عام، لأن موضوع الفعل الرئيسي هو تلك المشاغل التي يفرضها عليك الالتـزام الأسري أو المهني. كليهما كذلك هو عبارة عن صندوق، أو سجن لأنك أصلا لا تتكلم بحرية ولا تتصرف بحرية.
أنظر كيف يناضل الإنسان المعاصر لأجل امتلاك بيت للسكن، أو كيف يخصص جزءا من راتبه لأجل تأجيره، وأنظر كيف يعتبر السعادة في العمل في مؤسسة والاستـقرار في العمل، وأنظر كيف ينزلق إلى العزلة بواسطة من ناضل لأجله، وكيف يتحول ما اعتبره انجازا إلى صندوق يحشر فيه نفسه حشرا. وانظر هنا، كيف يغترب عن ذاته، وكيف يتمادى ذاك الاغتراب بالشخص إلى درجة المماهاة واعتباره الحالة الطبـيعية، وكيف يستكن إلى محو الذات وإسكات نباح كلاب الحرية داخله. وانظر إلى خروجه السعيد من الصناديق إلى المقهى، ليتحدث في أي شيء دون إلزام، وليلتـقي أصدقاء المقهى دون التـزام كذلك. انظر كيف يتحرر من الصناديق بواسطة المقهى. مقهى التحرر مقابل صناديق القيد. مقهى الالتـقاء الفعلي بالناس لأنه التـقاء حر مقابل العزلة عن الناس وان كان بالصناديق أنس.
وتـقول انه عالم الرأسمالية الذي كرس حياة الأسرة الضيقة وعبادة العمل. تقول انه عالم الاصطناع المضاد للطبيعة. تقول كذلك انه عالم تـزيـيف الوعي وعالم الاغتراب الرأسمالي. ومن خلال ذلك يتم التحكم في كل شيء. يعمل ويستهلك دون روح. يذهب ويؤوب دون روح. يتحرك كـدمية مربوطة بخيط خفي يحركها نظام رأسمالي وسط ضجيج وصفات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أقول أنها نقطة الوصول تاريخيا عبر منحنيات التدحرج ليتعمق عبث الانوجاد الإنساني الغير معقول تجاه الحقيقة التي تقول بالفناء والزوال. كم مدينة وجدناها اليوم تحت التراب؟ كم أناس قد عاشوا وامتلكوا وانمحوا كليا؟ واليوم مثل الأمس يعرف الجميع أنهم كائـنات زائـلة وانه لن يتبقى أي شيء مما يهرولون لأجله ومما يشقون في اكتسابه ومما يطمئـنون إليه. فكله آيل إلى التراب. المسكن الذي تسكنه بعد عدد من السنين ربما يأخذ البحر المدينة التي تقطن فيها برمتها ويـبتـلعها في جوفه. يـبتلع مسراتك وذكرياتـك وأشخاصك وكل شيء. كأن شيئا لم يكن. الجميع يعـرف ذلك ولكن الجميع لا يعيش حياته وفق هذه الحقيقة. إنها ليست الحقيقة ما يؤلم ولكن تجاهلها هو الذي يؤلم من حيث فرض نمط حياة غير حقيقي. يبلغ الزيف منـتهاه في اعتبار نمط حياة بكونه حر وهو يعزل الإنسان عن حقيقة الوجود هذه.
ألا تعني الحرية هي فكرة حياة المقهى. الصديق الحر والالتـقاء الحر والكلام الحر وانعدام الالتـزام إلا بالأخلاق المتأسسة على احترام الآخر مهما كان. بما أن كل شيء سيذوب في مجرى الزمن، فأليس جديرا بالإنسان أن يعمم فكرة المقهى ويجعلها نمط الحياة ككل.. لماذا نناضل لأجل أسرة ومنزل صندوقي يعزلني حتى عن جيراني في العمارة أو في الحي، ولماذا أعجن نفسي في العمل في مؤسسة، لأقوم بما لا علاقة ذاتية لي به؟

المسألة ليست اختيارا فرديا، فمنطق الوعاض لا ينم إلا عن البلادة في التـفكير. الفرد يعيش وفق ما تضطره إليه الحياة الواقعية. من يـبني الحياة الواقعية؟ الإنسان كنمط حياة الذي هو تـفكير عام واختيارات سياسية وتـفاهمات عامة وأمال عامة ومنطق صراعات بين البشر والى غير ذلك..
فكيف لنا أن نفكر في بناء عالم جديد يحقق السعادة للإنسان؟ إنها أولا عمل المفكرين والفلاسفة أي المبدعين في الفكر. السؤال كيف نخرج من المنظومة الرأسمالية التي هي في النهاية قاع المنحدر لمسيرة الإنسان التاريخية وفق الرغبة في نسيان الذات، ونسيان الحقيقة والعيش خارج هول الأزلية الماحقة.
لنعد إلى هذا التحدي الأساسي مرة أخرى، خاصة وأننا كعرب نملك تاريخا وخطابا يربطنا مباشرة بالأبدي. لنعد إلى هذا التحدي في الوقت الذي تـثور فيه الروح العربية في مختلف الساحات وبمختلف الأوجه.
لنفكر كيف نهندس لبناء عالم قائم على فكرة المقهى. عالم لم نعد نحتمل فيه حياة الصناديق. عالم لا نلتـقي فيه بذواتـنا إلا مع الصديق بحرية في كلام حر وتواشج وتفاعل وجداني ووعيوي حر. يمكننا أن نبعث من جديد بدويتنا القديمة وبيدائنا القديمة ونصيغها في صياغات جديدة تمدنية ولكن بروحية منطلقة وثـقافة جديدة عمقها ذاك التداعي الحر بإطلاق في صحراء لانهائية متحدة مع سماء لانهائية. ففي وجه من وجوه ثورة الحرية بل ربما عمقها الأصيل هو استـنهاض ذاك البدوي الصحراوي الحر المفعم بالحرية والذي لا يهاب شيئا في سبيل الحرية متعة المتع وركيزة ثقافته برمتها، فالإباء حرية والوفاء بالعهد حرية وإلزام الإنسان نفسه بنفسه حرية والغيرة على مصلحة المجموع حرية والتضحية بالنفس حرية والإقبال على الموت حرية..
مادام كل شيء سيزول، فلنحاول أن نكون ذواتـنا. لنحاول أن نتحرر من صناديقـنا وعزلتـنا. لنحاول أن نرتـفع إلى العـقل السابح في الوجود بحرية وطلاقة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يوقع حزم المساعدات الخارجية.. فهل ستمثل دفعة سياسية له


.. شهيد برصاص الاحتلال الإسرائيلي بعد اقتحامها مدينة رام الله ف




.. بايدن يسخر من ترمب ومن -صبغ شعره- خلال حفل انتخابي


.. أب يبكي بحرقة في وداع طفلته التي قتلها القصف الإسرائيلي




.. -الأسوأ في العالم-.. مرض مهاجم أتليتيكو مدريد ألفارو موراتا