الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام مستحيلة … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 30
الادب والفن


في نهاية الزقاق الضيق الذي يقع فيه بيتنا ، يربض بيت كبير يختلف عن بقية البيوت في الحي ، فهو الوحيد المبني من الطابوق بناءً رصيناً وجميلاً ، تتقدمه حديقة زاهية مرتبة بعناية ، يلفها سياج من القصب المشبّك بطريقة فنية رائعة يمكن للناظر ان يرى ما في هذه الحديقة من اشجار الرمان ، والتين ، والبرتقال ، والرارنج .. اغصانها المثمرة نافرة الى الخارج تتدلى على السياج .. يسكن في هذا البيت رجل لوحده بعد وفاة زوجته ، لم نكن نراه الا ما ندر ، يخرج صباحاً ، ولا ندري متى يعود ، الباب مغلق دائماً ، و لا احد يقترب من هذا البيت الموحش ، كنا نحسبه بحكم الفارغ ، ونخشى صاحبه العبوس ، والغامض .. يقولون بأنه تاجر ، وعنده خان كبير في قلب المدينة … !
… كنت طالب اعدادية ، لا اعرف غير دراستي ، والذهاب الى السينما كلما سنحت الفرصة بذلك .. وفي يوم قائظ كنت جالساً مسترخياً في ظل ذلك البيت ، استظل باشجاره ، واتمتع بما يأتيني من حديقته من انسام باردة تدفع عني حرارة الجو اللاهبة .. سمعت وانا مستغرق في خيالاتي ، واوهامي .. نداءً يُستخدم عادةً للقطط : بس بس ، لم التفت لان الصوت كان خافتاً عجز سمعي على حدته عن التقاطه ، ثم كنت احسب نفسي انساناً ، ولست قطة لأستجيب لهكذا بسبسة ، عاد الصوت وتكرر .. بوتيرة أعلى هذه المرة ، وكأن مُطلقه يستعجل لفت انتباهي ، استدرت .. ولدهشتي رأيت باب البيت الذي كنت احسبه فارغاً مفتوح قليلاً .. تجرأت ، واقتربت من مصدر الصوت .. ويا ليتني لم التفت ، ولم البي النداء !
رأيتُ امامي شابة مستندة الى الباب ، لم ارى لها نظيراً في حياتي القصيرة آنذاك جمالاً ونضارةً .. أتاملها ، وأقف امامها كالابله ، اشم رائحة عطر منعش تنبعث منها .. كانت في بداية العشرينات من عمرها .. ربما اكبر مني بثلاث أو اربع سنوات ، ملامح دقيقة منحوتة بدقة متناهية ، بشرة صافية .. وجه مضئ .. يميل قليلا للشحوب ، شعر قصير فاحم يكشف عن شئ من نحرها الابيض الناصع .. لا اثر للزينة او مساحيق التجميل ، فهذه الاشياء لم تكن رائجة كثيرا في ذلك الزمان ، كان الجمال فيه طبيعي ، وحقيقي في معظمه … !
لم استطع الكلام ، وكأن الخرس تملكني .. هي التي تكلمت .. قالت بسرعة وبايجاز ، وهي تصارع ترددها للحظات ، وكأنها تصدر امراً : كوكاكولا باردة .. واعطتني النقود .. بقيتُ مزروعاً كتمثال لم اتحرك .. احدق فيها حائراً ، كأنني لم أفهم .. كانت متخففة من ملابسها الا من ثوب خفيف مفتوح من الامام يظهر مفاتن حسنها الذي تركز كله في صدرها البارز الى الامام ، واكاد ارى قممه الاثنين ، ولونهما الوردي من وراء ذلك الثوب الذي لا يصلح الا للنوم ، واكاد اسمع صوت ترددات انفاسها ، وكأنها خائفة او متوجسة من شئ لا ادري ما هو !
كنت انظر اليها كمن ينظر الى طيف ، حلم .. او وهم ، لان الدهشة لم تعقد لساني فقط ، وانما تكاد تشل كل حركة في جسدي ، الذي احسست بانه انتفض رغماً عني ، وان شيئاً بدء يتسلل الى داخل عروقي لم اعهده سابقاً .. أنقضت تلك اللحظات بسرعة ، كم كنت اتمنى لو طالت العمر كله ، لابد انها قد قرأت ما كان يجول في خاطري من دهشة ، ومفاجأة ، وفضول …
استعجلتني بحركة من يدها ، وتقطيبة خفيفة من بين حاجبيها المرسومين بعناية .. كم احببت تلك التقطيبة التي بقيتْ ترافقني سنين طويلة في حياتي .. تحركتُ دون رغبة حقيقية مني .. وانطلقتُ بسرعة الى البسطة الوحيدة في الحي ، اعطيت صاحبها الفلوس ، وفتحت الصندوق الخشبي الملئ بالثلج ، وقناني البيبسي ، والكوكا الباردة ، اختطفت الابرد ، وعدت مسرعاً ، رأيت الباب موارباً ، وكأنه مغلق تنحنحت بصوت خافت مرتعش ، خرجتْ .. اختطفتْ الزجاجة مني ، وكأنها اختطفت قلبي البرئ والبكر ، واغلقت الباب بسرعة !
بقيتُ لحظات مزروع امام الباب كأني جثة محنطة ، لم اتحرك من مكاني ، اختلطت عندي المشاعر ، واجهت صعوبة لأعيد لنفسي توازنها الاعتيادي ، حيرني هذا الغموض الذي يحيط بكل شئ في هذا البيت الغريب ، وهذه الفتاة الغامضة ! أصبح المكان على وسعه ضيقاً ، والهواء شحيحاً ، وأوشكت على الاختناق ، ربما من المفاجأة ، ربما من الخوف او ربما من شئ آخر ، لا ادري … !
مرت أيام وليالي طويلة ، وصورة وجها الجميل تلاحقني ، اراها في كل شئ ، وفي كل وقت .. استيقظ في الليل متخيلاً انها امامي .. بقيت اكتوي بسري هذا لوحدي ، فانا لا استطيع ان ابوح بما جرى ، وان فعلت ، فمن سيصدقني ، والكل متيقنين بان لا احد في هذا المنزل الموحش الا الرجل العجوز فقط ..
كنت اغرق في احلام غامضة غموض ذاك البيت الذي يُجهز بجدرانه الكونكريتية على الانسانة التي فتحت عيني في لحظات قليلة على حياة جديدة .. على عوالم أخرى كنت اتصور ان وقتها لم يحن بعد .. كنت متخوفاً من أن أكون ضحية لقصة حب مستحيلة الوقوع .. لانها ستكون بالتأكيد من طرف واحد .. يأتيني صوتها الذي لا تزال رنته مغروسة في وعيي حتى الان من كل مكان .. مشبعا بالشجن ، وبالغموض ، وبالرغبة .. فيرتعش جسدي وينتفض .. يدخل جسدها الجميل مع دفقة من هواء الليل الندي الى احلامي ، وخيالاتي .. فيبعث فيَّ رعدة شديدة ، وألم مستحيل تحمله .. كنت في حاجة ماسة الى شئ من النسيان لالتفت الى حياتي ، ودراستي ، وكيف لي بذلك ، وهل الامر بيدي ؟!
واظبت على الجلوس كل يوم في مكاني بانتظار ان تناديني يوماً ، وانا احلم بكلمة بس هذه .. وكل حواسي متعلقة بحركة من ذلك الباب .. وعندما يخيم الظلام ، أرجع الى البيت حزيناً دون ان اظفر بشئ .. حتى كان يوما ، وانا راجع من المدرسة ظهراً .. قاصداً المرور من أمام هذا البيت اللغز كما كل يوم لعلني اراها ، وما ان وصلت الى الباب ، ولدهشتي رايتها واقفة كأنها تنتظرني ، فتحتْ الباب على مصراعيه ، وقالت همساً : ادخل بسرعة .. ! لم أستطيع التغلب على ذهولي وتوجسي ، تركتْ لي ثواني امارس فيها صنوف حيرتي ودهشتي ، لا حظتْ ترددي فكررت النداء باصرار .. لم اتردد هذه المرة ، وكأن شيطاناً كان يحركني .. دخلتُ دون وعي كامل مني .. وجدتُ نفسي في فناء البيت الواسع ، كانت في كامل ثيابها ، وكأنها تروم الخروج ! جميلة كعادتها .. قوية ، ومؤثرة … !
طلبتْ مني ان اجلس .. يبدو عليها التوتر ، والقلق ، والخوف .. تتأملني بعينيها المضيئتين في اصرار .. اقف متلكئاً لا ادري ماذا افعل .. مغمورا بالعرق ، والفزع ، والقلق أنا الآخر كأن العدوى وصلتني .. تسري رعدة في مفاصلي من الخوف ، ومن الرغبة الطبيعية عندما تجد نفسك مع هذا الجمال الآسر .. نجلس متقابلين .. تمسك يدي بينما كان وجهها يحمل تضرعاً خفياً ، وقالت في توسل : اريدك ان تساعدني … تبدو ولد طيب .. انا ضائعة ، واجهشت في بكاء حقيقي حار ، وهي ترتعد بشدة .. ازداد ارتباكي .. ربتُ على يدها بحنان ، وانا ازفر انفاسي حيرةً ، شعرتُ برثاء حقيقي لها .. لعلمي بامكانياتي المحدودة للخوض في هكذا مغامرة مجهولة تحتاج الى شخص اكثر مني جرأةً وإقداماً .. بقيت محتضناً يدها بكلتا يدي ، وقلت لها برفق : ماذا بامكاني ان افعل ؟
شرحتْ لي ظروفها بأن الرجل الغامض الذي تعيش معه قد اشتراها من اهلها .. وتزوجها ، وهي تعيش جحيما مع رجل لا تحبه ، وتفضل الموت على تكملة المشوار معه ، ثم كشفت عن طلبها ، تريدني ان آخذها الى أهلها في قرية بعيدة عن المدينة ، ولا تريد العيش مع هذا الانسان الذي يسئ معاملتها ، وتفضل الموت على العودة الى هذا السجن ! وضعت رزمة كبيرة من الاوراق النقدية على الطاولة ، وقالت : لا تهتم للمصاريف !
تراجعتْ ، ووقفت منتصبة ، وهي تبتلع عبراتها ، وأنا أكاد أذوب حباً ، وشغفاً بهذا الكائن اللطيف الذي يقف امامي .. لم نكن نصدر صوتاً حتى لا نخدش الصمت الثقيل الرابض على المكان ، رغم عدم وجود احد معنا نحن الاثنين .. يبدو ان الخوف ، والصمت كانا القاسم المشترك لكل شئ في ذلك البيت .. تمسح عينيها ، وتعدل شعرها ، وثوبها محاولةً التظاهر بالثبات ، والتماسك ، تصمت قليلاً .. تنتظم انفاسها ، وتعود عيناها للتألق مرة اخرى ..
ربما شعرتْ بأن الوقت غير مناسب الان ، ولكنها ارادت ان تاخذ مني وعداً بمساعدتها ، وموعداً لتنفيذ ما عزمتْ عليه ، فهي ليست على عجلة من امرها كما قالت ، ولكنها مصرة على انجاح الخطة لان فشلها يعني هلاكها ، أردتُ إعادة تجميع كلماتها في ذهني المتعب والمضطرب ، فطلبتُ منها وقتاً أُفكر فيه ، لانني كنت مفزوعاً من تلك المغامرة .. وقلت لها من خلال حلقي الجاف : ان كل ما استطيع ان افعله هو ان اوصلها الى الگراج ، وعليها تدبير امرها من هناك ، استحسنت الفكرة بابتسامة أشرق بها وجهها الرائع ، وبقي اليوم الذي ننفذ فيه الخطة !
كانت تبتسم في فتور ، وتربت بالمنديل على عينيها ، وانفها ، وتبدو دائمة التفكير ، ثم قالت ، وقد ازدادت ملامح وجهها صلادةً ، وتصميماً : لنجعلها بعد غد العاشرة صباحاً .. قلت متفكراً : ساتخلى اذن عن السفرة المدرسية التي تصادف مع هذا الموعد .. قبلتني على خدي ، وأعربتْ عن اسفها ، وانها لن تنسى لي هذا الجميل ! تمنيت لو اضمها الى احضاني ، واقبلها لكن لم يكن هذا وقتاً للحب ، ولا للرغبة .. ! وعندما هممت بالمغادرة مدت يدها ، ولمست كتفي كأنها تريد ان تعرب مقدماً عن شكرها وامتنانها ، ثم مالت عليَّ ، ومست وجهي بشفتيها .. فسرى بيننا نوع نادر من دفء التواصل هز كل كياني !
هجرني النوم في تلك الليلة ، وتنازعتني المخاوف والرغبات ، وراودتني احلاماً مزعجة ، وكوابيس لسيناريوهات مرعبة لا يتحملها عمري ، ولا قدراتي الشخصية التي اعرفها جيداً …
وفي اليوم الموعود كنت اراقب ضوء الصباح ، وهو يواصل الانتشار ، تعاود فيه الحياة يقظتها من جديد ، وضربات قلبي لا تكف عن التدافع ، قلت في نفسي : لقد بدءت لحظات الجنون .. كنت متوجسا من لحظة انكشاف سرنا .. أتأوه في صوت عالٍ كأني اريد اخراج ما في قلبي من توتر ، واستدعي كل ما عندي من شجاعة ، وعزيمة لمساعدة هذه الانسانة التي احتلت مكاناً خاصاً في نفسي .. سيبقى آثره لفترة طويلة …
مع ذلك .. نفذنا الخطة بهدوء ، ودقة .. وكم كانت شجاعة ، وجريئة .. ربما كان اليأس ، والاحباط هما دافعاها في ذلك ، وعندما جاء زوجها ، ولم يجدها جن جنونه ، ولم ادري ما الذي حدث بعد ذلك .. سمعت بعد اسبوع .. كانت أيامه .. ايام انتظار باردة ومملة .. لم اواجه مثلها من قبل .. بأنه قد ذهب الى اهلها ليعيدها عنوةً ، لكنها اختصرت المسافة عليه ، وعلى نفسها ، فقيل انها انتحرت .. ! تألمتُ كثيراً ، وتخيلت المشهد الذي زفرت فيه روحها وحيدة ، وربما على وجهها طيف ابتسامة ، وتسائلت هل ابدت المسكينة مقاومة ، أم لم تبدي اي مقاومة عندما أنتُزعت منها الحياة لأنها كانت زاهدةً فيها .. كل ذلك .. أبكاني حسرةً وألماً !
حتى يومنا هذا .. رغم مرور سنين طويلة .. يختلج في اعماقي أحياناً طيف بعيد .. لتلك الذكرى البعيدة ، والمؤلمة .. !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته


.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202