الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب -مالفا MALVA- -بين صخب اللون وهمس الشعر-

عبدالرحمن محمد محمد

2021 / 1 / 31
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لعدةِ سنوات خَلتْ كان من المُستحيل بل هو ضربٌ من الجنون؛ أن تُفكر بنشر كتابٍ يتحدث عن شيء فيه اسم الكرد، أو ذكرٌ لكردستان والكردايتية، وكان الأمل دائما يراود العديدَ من الكُتاب والأدباء والشعراء، بأن تلك الغيمة السوداء وذاكَ الاستبداد بكل أشكاله زائل لا محالة.
في الأعوام القليلة الماضية، وفي ظل المتغيرات الشاملة كان الحراك الثقافي من أكثر جوانب الحياة تأثراً وتغيراً من حيث الكم والكيف، ومن حيث التوجهات والانفتاح على الثقافات الأخرى والنشر والإقبال على مناهل الثقافة، والاهتمام بها، وبخاصة الثقافات التي عانت طويلاً من محاولات الصهر في المنطقة وسوريا وبالأخص الكردية.
عشراتُ الكتب التي كانت مخطوطة أو تحت الطبع "كما يقال" أو تلك التي كانت أوراق مبعثرة في مكتبات وحقائب كتابها، باتت تخرجُ ككنوزٍ مخبأة، وترفد الحركة الثقافية والمكتبة الكردية والعربية بمناهل جديدة للثقافة والأدب.
ومن بين الكتب القيمة التي نشرت في الآونة الأخيرة كتاب بعنوان "مالفا" MALVA" وهو كتاب جدير بالاهتمام والقراءة وكان مميزاً بين الكتب الصادرة عام/2016/ في المنطقة، إنْ من حيث المحتوى أو من حيث التصميم والطبع، حيث يقدم بين دفتيه معلومات قيّمة ورسائل هامة في الفن التشكيلي والشعر، في عالمِ فنانٍ كردي، وابن مقاطعة الجزيرة، والعالمي من جهة أخرى، فنان من الطراز الأول-إن صح التعبير- هو الفنان والرسام العالمي "عمر حمدي – مالفا" الذي جاء عنوان الكتاب أيضاً باسمه، وفنياً جاءت طباعة الكتاب فريدة بشكلها حيث الصفحات من القطع المربع، وفي غلاف راقٍ وطبعة أنيقة.
كتاب "مالفا"-MALVA" يضم السيرة الذاتية وجوانب هامة من حياة هذا الفنان الراحل، ودراسة لفنه الفريد المميز بكل جوانبه، والذي أصبح مدرسةً فنية في عالم الفن التشكيلي، ومقالات نقدية لكبارِ النقادِ التشكيليين والمفكرين والفنانين، وحوارات ومقابلات وأحاديث عنه، ولعل المفاجأة فيه للكثيرين هي القصائد الشعرية التي كتبها "مالفا" الشاعر، فالكثيرون يجهلون هذا الجانب من حياة الفنان الكبير والشاعر الرقيق المرهف الإحساس.
"مالفا"؛عمر حمدي قصة حياة من تأليف وإعداد الشاعرة والكاتبة هناء داوود، والفنان التشكيلي عرفان حمدي شقيق الفنان "مالفا"، صدر الكتاب عن "دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر"، في 340 صفحة من القطع المربع21/21، ويضم عدداً من لوحات "مالفا" وصوراً شخصية له.
قصة حياة:
في الباب الأول من الكتاب وبعد خمس عشرة صفحةً حملت عدداً من لوحات الفنان "مالفا" تتحدث هناء داوود عن قصة تعرفها على الفنان عمر حمدي، وبلغتها الشاعرية وبأسلوب متفرد، وكيف لا؛ وهي شاعرة وتتحدث عن فنان بمعنى الكلمة، وتقدم لكتابها بقصيدة ترثي فيها صديقها الفنان، ثم تتحدث عن جوانب هامة في حياة "مالفا". طفولته وشبابه وتفاصيل دقيقة عن نشأته، وبأسلوب شاعري ولغة منمقة وتعابير شيقة، وكأنما تلقي قصيدة نثرية عن شاعر وفنان وموسيقي عجنته الحياة وعاندته الأيام فصارعها وحاربته الظروف فغلبها، وحاولت أن تزرع الفشل في طريقه لكنه حصد النجاح والشهرة، ولمع نجمه رغم كل الغيوم السوداء التي لبَّدت سماءَه.
تروي هناء داوود جوانب هامة من حياة "مالفا"، تفاصيل رسمت ملامحه ُوحَفرت في أديم أيامه، شقاءه وشقاوته، "مالفا" المولود في تل نايف بريف الحسكة في ليلة شتوية من عام 1951م، في بيت ريفي فقير، ثم انتقل إلى مدينة الحسكة وإلى حي تل حجر ملاذ الفقراء والطبقات الكادحة، ومدرسته ومدرّسيه وواقع التعليم آنذاك، يقول "مالفا": (إفطاري في المدرسة كان غالباً ضرباً من المعلم بعصاً من الخشب الطري، على يدي أو قدمي، كان بنطالي مبللاً كل يوم، ورفاقي في المدرسة يسمونني "العنزة" لأنني لم أكن نظيفاً، كنت كسولاً في كل شيء ماعدا الرسم).
هذه "الخربشات" التي تركتها الأيام على صفحات حياة "مالفا" ووشَمَتْ حياته بها، ليرفضها الفنان الصغير ويتمرد عليها بهدوء، فكلام والده يعود إلى مسمعه كل مرة و يهمس في أذنه (لن تكون يوماً سوى حمالٍ في سوق الخضرة لأنك من أم كهذه)، ويعود "مالفا" ويقول (صدق والدي فقد أمضيت حياتي وأنا أحمل لوحاتي وأدواتي من مكان لآخر).
في سرد سيرة حياة "مالفا" إضاءة على جوانب من حياة الآلاف بل الملايين من الكرد، تلك التفاصيل التي أدمنها الكردي في حياته، فـ"مالفا" يروي تفاصيل أيامه في بيع البوظة في الحواري وعمله في جني القطن وغيرها من الأعمال المرهقة، ودراسته في معهد المعلمين ومع الأساتذة القادمين من دمشق وغيرها من مدن الداخل، واستغلال الأجهزة الأمنية للبعض ليعملوا معها كمخبرين، والتسلط والاستبداد واستعباد المرأة والفقر والجهل ومفردات جمة من مفردات الشقاء الإنساني في تفاصيل تقلق وتؤلم حتى الحجر فسيرة حياة "مالفا" سيرة مآسٍ لا تنتهي.
"مالفا" البصمة الفنية المتفردة:
في القسم الثاني من الكتاب تضعنا هناء داوود أمام "مالفا" الفنان "حمال الأسية" الذي طالما حَملَ أوجاعهُ وحمَّلها على صدر لوحاته التي بدأت تقرع أبواب العواصم العالمية باباً فباباً، بعد أن تغرّب عن وطنه نهاية السبعينات، ليعود في بداية التسعينات إليه كضيف في مهرجان المحبة باللاذقية، بعد أن ارتبط بعقود عمل مع أضخم وأشهر صالات المعارض في أعرق عواصم العالم في أوربا وأمريكا.
من خلال عشرات المقالات التي ضمها الكتاب لنقاد في الفن وإعلاميين ومفكرين، يظهر تأثيره في الحركة الثقافية والفنية وقدرته على رسم طريقه الذاتي، وأسلوبه الخاص المميز، ليصبح "مالفا" مدرسة قائمة بحد ذاتها، ويُغدو معلماً بعد أن كان متعلماً وتحمل لوحاته بصمته في كل عمل له ويشهد القاصي والداني بعبقريته.
يقول محمد علي السعيد في مقال له بعنوان "عمر حمدي بين موسيقا الناي وموسيقا اللون": (اللون كان هاجسه وهو يستلقي على مربض قرية تل نايف الصحراوي؛ يقتل هندسة المسافة بين السطح والقمة، ويفرق بين المدخنة والريح، ويؤاخي بين المطر والأرض)، بينما يقول أسعد الكفري: (إنه تميز بعنف ألوانه وحيوية حقول اللون الموزعة في الفراغ، تحس بالخوف أمام لوحاته لكنها تمنحك دفئاً آخر مسالماً وشاعرياً وعاطفياً).
أما الدكتور "دير شرايكة" دكتوراة في النقد وعلم الجمال من متحف الفن الحديث، فقال عنه في أحد مقالاته ودراساته: (للوهلة الأولى للمتأمل لأعمال "مالفا" يشعر بهذا الفيضان اللوني المنساب من يده على اللوحات، وأهمية هذا اللون وحركته وتوزيعه، مما يدفعنا لمقارنتها بأعمال "كوكوشكا" و"فان كوخ" و"كيرستن" في النمسا).
وما بين سطور الآراء النقدية والحوارات وبعض التأمل الذاتي في لوحات "مالفا" نتعرف إليه أكثر فأكثر، ومن آراء الدارسين للفن والمختصين والمفكرين المتذوقين للون وحركة الريشة وعناقها اللوحة، يظهر عشق الفنان للفن واللوحة ومفرداته الخاصة التي لا يتقنها غيره، ونتعرف على "مالفا" الذي خرج من وطنه محملاً بالوجع والخيبات فنشر عطر بلده وأريج سهول الجزيرة وملامح كرديته وشرقيته في العالم، وأسس مدرسة عُرفت بمدرسة "مالفا" لأنه التلميذ النجيب لكل مدارسِ الفن التي أبدع فيها، فكانت مدرسته هو، وبصمته هو، التي ذاع صيتها في أرجاء الدنيا.
"مالفا" شاعر الريشة والقلم:
لم يكتفِ "مالفا" بغزله -الصاخب أحياناً- للوحة البيضاء، ولا بمعركتهِ التي كان يخوضها في كلِّ مرة، وبكل صولاته وجولاته في مرسمهِ، وفي غزواته الفنية في صالات الفن العالمية، والتي كان يخرج منها منتصراً دوماً وهو يمتشق ريشته، لم يكتفِ بكل ذلك النصر على ذاته أولاً وعلى أوجاعه ثانياً، فرسم على صفحات دفاتره لوحاتٍ أخرى ربما عجزت عن رسمها كل الألوان، ليرسم لوحة الكلمة والمفردة، فكان "مالفا" الشاعر الرقيق والحساس، المندفع والثائر، والعاشق المتيَّم، فأبدع بالريشة ورسم بالقلم أجمل اللوحات.
يقول "مالفا" في لوحة شعرية بعنوان "بكاء الأحرف الساكنة": (كشتاء قديم...يشعر بالنعاس آويت إلى يديك من جديد، وأنا أتطاول حزناً، يجلس بين يدي "فوست وسيزيف ولوركا"، ثم تتركني وحيداً)، وبأسلوب فريد ومفرداتٍ كأنه ابتكرها لذاته فقط، لم تصنع من قبل، يصوغ "مالفا" قصائد رُبما لم يصلنا منها إلا القليل، فإذا بالفنان الرسام يتحول إلى شاعر مبدع في المفردة، واللون الممزوج بين القصيدة واللوحة في ألوان لا يراها إلا فنان رقيق، وشاعر متقد البصيرة حاد الذاكرة ليرسم أجمل القصائد باللون والكلمة، وها هو ذا في قصيدة أخرى بعنوان "مالفا وسِفر الأنهار الطويلة" يهمس: (أنت يا ذات الوجه المسافر مرتين، أيتها الساكنة في الطرقات ومصابيح الليل، أيتها الواهبة الحياة).
يسافر "مالفا" ويَرتحل ما بين لوحة عذراء وقصيدة عصماء، فإذا به يثير زوبعة ألوان على أديم اللوحة ويخرج مزهواً بالنصر، ويقوم بثورة حروفٍ على الصفحات البِكر، فيرسم قصيدة جديدة، ويخط أبجدية لوحة ٍأخرى بحس الشاعر والفنان الإنسان.
-"مالفا"؛ "كتاب وفنان وشاعر"، كتاب عن حياة فنان، وفن إنسانٍ صمم على أن يهزم ضعفهُ، فهزم الأيام وانتَصَر، وانطلق من مجرد هاوٍ للفن ليغدو مدرسة للفن! وأسطورة فيه، لتبقى بصمته على لوحة الأيام وعلى عشرات بل مئات الأعمال، ويحتل مكانة مرموقة في صدارة الفنانين العالميين، وفي كتاب "مالفا" دراسة نقدية فنية قيمة جديرة بالقراءة وقصائد هي همساتُ عاشق مغترب، وفنان هائم وإنسانٍ صمم على أن يقدم خيراً للبشرية... فأبدع وعلا نجمُه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات