الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح 13

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 2 / 1
الادب والفن


أيام التيه

تركتني الأيام التي أعقبت أستشهاد أبن عمي طالب مثل قشة تتقاذفها الأمواج من غير أن تهدأ على حال، كثرت الأخبار السيئة وإزدادت قوائم القادمين إلينا وقد لفتهم أعلام العراق، نودع هذا وننتظر غيره ومقابرنا تقول هل من مزيد، لا صوت ولا صدى ولا همس حتى يقول ويصرخ أين أنتم ذاهبون بنا أيها الصاعدون على تلالها، وقد ملئت ظلما وموتا وأحزان تكفي كل هذا العالم وتزيد، ما من أمل في نهاية في الأفق لطريق الحرب والنار يلعب بها المتخاصمون الحقيقيون فوق، تأت وتذهب هذا يركلها لهذا وذاك يرد بركلة جواب، والشعبين مثل أبالسة المعبد يرون اللعنة ولا ينفذون، لم يعد التسكع والصعلكة تنفس عني هموم القلب ولا مرض العقل ولا وجع النفس، رباه أناجيك فهل تسمعني فلو كنا خرافا تجزر كل..... يوم حتى سكين الجزر تتعب وهؤلاء لا يتعبون، أفي الأمر إرادة أم أنك لا تدري بما يدور.
كلما أدركت أن وجودي في الجامعة هو لمجرد المحاولة الأخيرة لي من الهروب من ويلات الحرب ونارها أعود لرشدي وأحاول أن الم شتاتي وأعود للدرس، لكن هذا القرار لا يمكث كثيرا سرعان ما أنقلب عليه لأعود للتيه مرة أخرى، حضور في قاعة الدرس مشتت لا أبالي بما يجب أن يكون مهما أو أهم فقط حتى لا تتعاظم أيام غياباتي أو أجرد من حقي في البقاء على مقاعد الجامعة، بعد أنتهاء اليوم الدراسي ومن نادي الكلية أو من مطعم الطلبة في باب المعظم تبدأ مسيرة التيه اليومية لأعود للقسم الداخلي مع أخر باص حكومي، لم تبقى دار سينما رخيصة لم أدخلها حيث يسمح لك أن تشاهد ما تشاء ببطاقة واحدة بشرط أن لا تخرج من الصالة، بين المقاهي القديم ساعات أقضيها مستمعا ومتأملا لحديث الألم الذي يدور في كل مكان، أنقطعت كل علاقاتي بزملائي خارج أسوار الكلية إلا ما ندر، حتى سألني أحدهم يوما أين تختفي طول النهار؟ أجبته أطارده ويهرب مني كالجبان كي يأت الليل سريعا فترتاح أجساد المتعبين.
هكذا أنهيت الفصل الثاني والمرحلة الأولى من الدراسة الجامعية على مضض دون أن يكون معي ذلك الشوق والعزم الذي بدأته عامي الأول، المهم أنني نجوت عاما كاملا من الإقتراب من دائرة الحرب القريبة ولو أنها حطمت كل شيء كان معي رصيد كنت قد جمعته للحياة وليس لها، قد وهذا ما أفترضه أن كثيرا من كان في لجتها وسعيرها ولربما هم أقل مني تأثرا بها، لا أريد أن أجد لنفسي أعذار ولست مجبرا لأن أفسر الذي لا يفسر لكن ما كسبته خلال هذه السنه لم يساوي شيئا مما خططت له وتصورت أني أناله بهولة وأنا على مقاعد الدراسة الجامعية.
بدأت العطلة الصيفية التي تعني أنك أمام خيارين أما أن تنخرط في أي عمل لتنجح في جمع أي مبلغ ليكون عونا لك في العام القادم فلا أمان لأي وضع ولا ضامن أن الأمور ستسير كما يرام، أو تقضي العطلة بين القراءة وتنمية ما كان يجب أن يتابع من أمور الفكر والثقافة التي أهملتها بجد خاصة في الفصل الثاني وتنتظر ما يجود به الأهل عليك من قليل الدراهم، أخترت حلا وسطا بين الأثنين أن أعمل في المحل الذي هو مخرج من بيتنا نصف نهار على أن يكون لي النصف الأخر من اليوم حرا وبلا سؤال، تم الأتفاق وهو محاولة مني لتجاوز حالة هي أساسا مفترضة، فلا ينفع أن أجد عملا في الوقت الذي في العمالة العربية قد شغلت كل مكان، لا تجد أي محل أو شارع أو دائرة حكومية حتى لم يشغلها وافد عربي، كما أنني أصلا لم أتعود العمل خارج دائرة أعمال العائلة، هذا إن لم أكن مجبرا بطبيعة الحال أن لا أبقى عالة على أحد ولو كانوا أهلي.
خلال الثلاثة أشهر تقريبا قرأت الكثير وكتبت عشرات القصائد من الشعر الحر والمنثور، بعض البحوث التي كانت تدور تساؤلاتها في ذهني وضعتها موضع البحث والتسطير بناء على ما أملك من تراكم لقراءات سابقة ، لم تتوفر مصادر بحثية كافية ولم أرغب أصلا في أي قراءة جديدة وإن توفرت، هل هو إنكفاء أم مجرد غرور فكري يقودني نحو الهامش الأسفل، لاسيما وأن الكهرباء أصبحت أفضل بكثير بعد أن مدت الدولة شبكتها لكل الحي، والماء أيضا صار شبه يومي يصل كل الدور وإن بجهد جهيد وسهر ليالي أنتظارا لوصوله في لحظة ما لنقوم بالتعبئة في براميل وخزانات عديدة، المهم هناك حركة أفضل بكثير من ذي قبل، لكن شعوري العام هو ذاته أني غريب عن كل هذا الواقع وإحساس بعدم الأنتماء له بأي صورة أو حال.
تطورات الحرب تأخذ منحنى متصاعد بين كر وفر وأنتصار وهزيمة وقصف المدن وأستهداف الناس الأبرياء جاري من قبل الطرفين، لا تكفي ساحات المواجهة المباشرة بين الجيشين من أن تنفس أحقاد القادة وتطلعاتهم ليوم ترفع فيه يد وتخفض الأخرى دلالة الهزيمة والأنتصار، قرار من هنا وتصريح من هناك ووساطات ومساعي حميدة وأمال كاذبة وكلها تجري علنا وكأن الحرب ستضع أوزاها يعد ساعة أو بعد يوم، أما الحقيقة المرة والوحيدة والصحيحة كانت هنا، في مغتسلات الموتى وفي المقابر وفي دوائر الدولة التي تعتني بقضايا الشهداء وذويهم، المصرف العقاري والطابو والقاصرين وووو كلها تنبئ بحجم الفجيعة، والأفجع عندما يفرح ذوي القتلى بالسيارة الكرونا والخمسة ألاف دينار، ونزاع بين أم الشهيد وزوجته على الراتب والمكافأة، والنزاع بين أبن الشهيد وأبوه وأخوه للركوب في سيارة كرونا (أم التبريد) موديل 80.
الأحقر من الحرب من يجعلها سخرية تنتهك إنسانيتنا وتسلب منا روح البشر السوي تحت مسميات وأوهام وأحلام، حراس البوابة الشرقية... القادسية الثانية... أبو التحرير.... الشهداء أكرم منا جميعا....نوط الشجاعة.... زوجة شهيد ولعاب البعض يسيل جريا وراء الألاف التي تتجمع في جيبها... وحدها الأمهات التي فقدن الولد دون أمل بالرجوع يتألمن بصبر... صبر الأرض التي تحتضن ما زرع فها بالكاد وهي تعاني العطش، الزوج يكون أخر وأخر لكن الأبن والأب والأخ والخال والعم لا يمكن أن يكون مرة أخرى، ليس الذنب ذنب الأرامل بل ذنب من شجع على ترميلها وهو يرمي بالمال نحوها كما ترمى العواهر بالمال في مواخير الليل، حيث لا قيمة للإنسان بقدر ما للمال من قيمة باعها لها بنفسه.
لا مجال للحديث أكثر فيكفي أن جدتي مرة وصفت الحرب مثل عجوز عاهر وجدت من يبحث عنها في سوق الرذيلة، فتزينت وتصابت وأوهمت باحثي اللذة الرخيصة أنها ملكة جمال العالم، فتهافتوا عليها كتهافت الفراشات البريئة على النار...
كان قدري أن أولد في منتصف الطريق
بين الحرب والحب
الشمس في وسط السماء
والقمر أيضا يختبئ بزاوية منها
كل ذلك يحدث
وسط الظهيرة
*****
تحدثني مربيتي
أنها وجدتني في لفافة نظيفة جدا
لا يملك مثلها إلا الأغنياء
مرميا تحت ظل شجرة
ولدت ومعي ألف دينار
بين لفافتي والقماط
وعندما كبرت هكذا بدوت
كجنرال منتصر بزيه الرسمي
يشحذ في سوق المدينة
عن نياشين وأنواط بطولة....
كتبت هذه القطعة النثرية في الأيام الأولى من السنة الثانية من دراستي الجامعية، نشرتها لي أحدى الصحف المحلية، قرأها صديقي طارق أكثر من مرة وهو من أخبرني بنشرها، أنكرت أنني كتبتها ولربما كان ذلك تشابه بالأسماء، في البوم الثاني حضر الكلية شخص قصير ونحيل البنية جميل العينين بشاربين جميلين طويل الشعر، يبدو أنه غير متناسق مع الوضع العام، أبتسامته صادقة تماما كأنها توزع الفرح كله على العالم ويفيض، قال لي طارق نحن اليوم مع هاشم... ممازحا أليس ذلك بجد السادة في مكة.... قال لا هذا من قوم عكرمة بن أبي زولافة... ضحكنا سويا ونحن في طريقنا للقاء بالرجل الذي ما زال يرمق زميلاتنا بكلمات الإعجاب والنظرات الفاضحة، قلت له يا طارق هذا ابن عمك ام أني أرى أبي نؤاس في مرابع بني عبس، فلا أرى إلا شاعرا يتوج النساء كل النساء بلا تفرقة بكلمات من حرير وعطر.
أقلنا التكسي هذه المرة إلى الضفة الأخرى من دجلة وتحديدا عند مقهى البيروتي التي كانت رمزا لمثقفي البلد ومكانا هادئا يطل على دجلة فيمنحك حرية التأمل بلا حدود، في الطريق كانت كل ما فعلناه مزيدا من النكت الساخرة وحلم صديقي الجديد للحصول على جهاز فيديو ليشاهد فلما ثقافيا يحتفظ به من زمن، قال لي بسخريته الممتزجة مرارة..... أي بلدان أمريكا اللاتينية تعجبك؟ قلت أنا بلدان أمريكا السريالية كلها تعجبني.... قال حدد واحدة قلت بمثل لهجته أحب بلاد الواق واق!!!... قال أنا أحب البارغواي.... متعجبا ولماذا البارغواي تحديدا قال لأن عاصمتها نصفها فيديو والنصف الأخر موت... يعني ماذا؟ قال لأني أحب الفيديو لدرجة المونت.... ههههههه.
كان اللقاء ليس عفويا بعد أن عرفت لاحقا أن صديقي هاشم الذي لم يستأذن الدخول إلى عقلي، فقد أقتحم عالمي بكل براءة الطفولة وعشق المجانين أنه أستاذا للغة العربية، قضى وطرا كبيرا في حياته متنقلا بين المغرب وأسبانيا وعاد للعراق مؤخرا بسبب مرض الربو الذي عطل كل حياته هناك، توظف في التربية لينسب للعمل ككاتب في مديرية تربية الرصافة التي كانت بنايتها مقابل المقهى تماما، العجيب أستاذ لغة عربية وشاعر له وزنه يعين كاتبا إداريا؟.... زال عجبي عندما رد عليه بقوله... أنا مثل جنرالك الذي يشحذ الأوسمة والأنواط على رصيف الفقراء.... عندها قررت أن أبوح له بالسر.... هذه هلوسات رجل تائه وسط ظلام شارع فقير ومقفر إلا من أعمدة إنارة لا تحمل مصابيح، بلت حمل جثث الشعراء الصعاليك.
جلسة طويلة أمتدت حتى المساء بين الشعر والضحكات التي نداري بها عيون الرقيب الأمني الذي يتابع عن بعد حديثنا، كانت رائحتهم كما يقول هاشم أكبر من أن تغطيها حركاتهم ونظراتهم فهم مثل القرعة التي تحيط بها صويحباتها ذوات الشعر المنسدل، أنهم مثل الذباب تجدهم في كل مكان حتى في الأنظف محلا، كان حدسه في مكانه تماما فقد أدمن الملاحقة منذ أن وصل العراق فهو على قائمة الرادار الأمني دوما، عرفت أنه من عائلة أعتنقت الشيوعية وسرى فيهم داء الماركسية بالرغم من كونهم ذو انحدار طبقي أقطاعي من ريف الناصرية التي خالف كل قواعد الماركسية والصراع الطبقي ومقولات لينين وغيره، فالناصرية تحديدا ليست من خارطة العراق أنها تنتمي إلى عالم أخر قد يكون أنقرض منذ أن هجرتها ألهة المعبد المزيفة تحت صرخات المعذبون في الأرض.
وأخيرا وجدت ماركس عراقي أخر لكنه نموذج جديد يختلف كليا عن ماركسي الأول عبد أبو عيون، صديقي هاشم ماركس بزي السلاطين الكبار يعيش الحياة برؤية أخرى فيها الشعر أهم من السياسة والحب أهم من رأس المال، شيوعي يعيش الحياة بشكل طولي وقد ألغى حدود العقل المتحفظ على مقولات أعداء الشغيلة وصراع الشعوب، إنه نبي في زمن شياطين لا يقرون له بالولاء ومع ذلك لا يكره منهم أحد ولا يتجنبهم لأنهم نجس، هذا الماركس الجديد يستخدم جدل الفرح والحزن بدلا من جدل الديالكتيك التاريخي وسطوة المادية بوجهها البشع، شعاره الدائم الذي يتمتع به وجده صدفة مكتوبا خط ردئ على جدار في شارعهم ذات صباح، يردده في كل جلسة نجلسها لتكون مفتاح الداية (البول للحمير ... يسقط الخميني الدجال).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما