الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فردريك نيتشه (1844 - 1900)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 2 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



حياته:
فريدريتش نيتشه، هو ابن كاهن لوثري، ترعرع في بيئة بيوريتانية تطهرية (Puritan)، وأظهر، وهو في سن مبكرة، اهتماماً بالفلسفة والموسيقى والأدب، وفي الرابعة والعشرين من عمره صار أستاذاً في جامعة بال (Basel)، وفي عام 1879، أضطر إلى الاستقالة بداعي المرض، وألف كتاباته الفلسفية في أحوال مالية وشخصية صعبة بالسرعة التي سمح بها مرضه بالسل الرئوي من عام 1878 إلى عام 1888.
يقول ول ديورانت : "كان نيتشه طفل "دارون" واخاً "لبسمارك" أو بعبارة أوضح، فقد تأثر إلى مدى واسع بنظرية دارون، وسياسة بسمارك، ولا يهمنا كثيراً سخريته من أتباع التطور في انجلترا وأنصار القومية في المانيا، فقد اعتاد ان يهاجم الذين أثرَّوا عليه أقوى الأثر، لقد كانت هذه طريقته اللاشعورية في تسديد ديونه لمن استمد منهم معظم افكاره وفلسفته"([1]).
في طفولته، "تميز نيتشه بحرصه على الاستمتاع منفرداً في عزلته عن الآخرين، وحرص مع العزلة على قراءة الانجيل لنفسه، وتأثر به لدرجة أنه كَرِهَ أبناء السوء من جيرانه حين كانوا يسرقون الطيور أو يمارسون الكذب، لدرجة أن زملائه في المدرسة أطلقوا عليه اسم القسيس الصغير، لكنه على العكس من ذلك امتلك نفساً غامرة بالكبرياء والفخر، إلى جانب قدرته الفائقة على كبح عواطفه، وعندما بلغ الثامنة عشرة –كما يقول ديورانت- فَقَدَ نيتشه ايمانه في إله آبائه وأمضى بقية حياته في البحث عن إله جديد، واعتقد انه وجده في السوبرمان (الانسان الاعلى)، كما عافت نفسه النساء والخمر والتدخين، واعتقد بعجز المدخنين أو المقبلين على شرب الجعة، عن صفاء الإدراك ووضوح الفكر"([2]).
وفي عام 1865 وقع في يده كتاب شوبنهور "العالم كإرادة وفكرة" ووجد فيه على حد قوله –كما يضيف ديورانت- "مرآة رأيتُ فيها العالم والحياة وطبيعة نفسي مُصَوَّرة في عَظَمة مخيفة، وذهب بهذا الكتاب إلى منزله، وراح يقرأ كل كلمة فيه في جوع ونهم، ويقول "لقد بدا لي ان شوبنهور كان يخاطبني شخصياً ويوجه كلامه لي، فقد شعرت بحماسته وخُيِّلَ لي أنه ماثلاً امامي، وعلى هذا الأساس امضى نيتشه حياته كلها في البحث عن الوسائل الجسدية والعقلية التي تُقَوِّي من نفسه، وتعزز إرادته ومثاليته، فقد أثَّر لون فلسفة شوبنهور الأسود القاتم على افكاره تأثيراً دائماً، ولم يقتصر تأثير هذه الفلسفة على نفسه ايام تحمسه لشوبنهور واعتباره مربياً ومثقفاً، بل لازمه حتى في الايام التي رفض فيها التشاؤم كعامل من عوامل الانحطاط والانحلال، فقد بقي تعيساً في قرارة نفسه، ويبدو ان جهازه العصبي كان مرهفاً إلى درجة كبيرة جعلته قابلاً للتأثر والالم، ولم يكن لينقذه من شوبنهور سوى مطالعته لسبينوزا وجوته، فقد كان ينقصه صفاء ذهن الحكيم وهدوء التوازن العقلي"([3]).
وفي عام 1870، وصلته أخبار اشتعال الحرب بين المانيا وفرنسا، وأثارت فيه كل نوازع الاعجاب بالعسكرية الألمانية، وهنا قفزت إلى رأسه فكرة كانت أساساً فيما بعد لفلسفته كلها، يقول نيتشه: "لقد شعرت للمرة الأولى أن اقوى وأسمى إرادة للحياة لا تجد تعبيراً لها في الصراع البائس من أجل البقاء، ولكن في إرادة الحرب، إرادة القوة، إرادة السيادة"([4]).
عاش نيتشه ثلاثة مراحل متميزة في حياته الفكرية يوردها د. فؤاد زكريا كما يلي([5]):
1.       مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد من 1869 إلى 1876، وهي المرحلة التي كان نيتشه فيها واقعاً تحت تأثير شوبنهور وفاجنر، وتنتهي بتخلصه منهما.
2.       مرحلة وضعية نقدية، وتمتد من 1876 إلى 1882، وفيها تميز تفكير نيتشه بالتأثر بالمنهج العلمي، بعد أن تَخَلَّصَ من المؤثرات الرومانتيكية السابقة، وتلك هي المرحلة التي حرص فيها نيتشه على أن يوجه أعنف نقد إلى مقومات الحياة الإنسانية في العصر الحديث.
3.       مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرادشت في 1883، وتستمر حتى 1888، وفيها يتميز تفكير نيتشه بالاستقلال التام، ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه شكل التدفق الصوفي، لا التحليل النقدي.
لم يكن نيتشه يهدف من فكرة "موت الإله" إلا إلى إفساح الطريق امام الإنسان، حتى يمكنه –كما يقول د.فؤاد زكريا- "أن يحقق كل ما تتسع له جهوده، أما إلتجاء كيركجورد إلى الدين، فهو أمر يستطيع نيتشه تفسيره: فمن الناس من يلجأ إلى الدين لأنه سئم غيره من الناس، ورأى حياته عاجزة فسعى إلى ما هو أعلى منها، وهو في هذا يقول: "إن العنصر الديني من أخطاء الطبائع العليا التي تعذبها صورة الإنسان المُنَفِّرةَ". ونيتشه، وإن كان يَنْفُر بدوره من الصورة الحالية للإنسان، فإنه لا يريد أن يكون ذلك النفور من أجل أية حقيقة عليا، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذاته بذاته فحسب، فهو ينظر إلى فكرة الله على أنها تمثل الحد النهائي الذي لا تستطيع قدرة الإنسان الخالقة أن تتعداه، فهي إذن عقبة ينبغي إزالتها، وذلك هو معنى كلمته المشهورة "لو كان هناك إله، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلهاً". ففي رأيه أن بين الله والإنسان في الخلق تعارضاً، ولابد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان الخالقة من أن تزاح كل العقبات من طريقه.
في كل هذا رأينا تفكير نيتشه يقترب – إذا فُهِمَ على نحو معين – من بعض المبادئ العامة للفلسفة الوجودية، على أن هذا التقارب إذا كان يرتبط بتفسير خاص لتفكير نيتشه الذي يَقْبَل عديداً من التفسيرات، فليس من شك في انه لن يكون حاسماً"([6]).
في حديثه عن نفسه –كما كتب هاشم صالح-  يقول نيتشه: "من يعرف كيف يتنفس هواء كتاباتي يعرف أنه هواء الأعالي، هواء لاذع يُعُضّ.. وينبغي على المرء أن يكون مهيئاً له، وإلا فإن الخطر عظيم في أن يصاب بالبرد… الصقيع اقترب، والوحدة مرعبة: ولكن كم تبدو الأشياء فيهما رائعة، وهي تسبح في بحر من الأنوار!… وكم يستطيع المرء أن يتنفس فيهما بحرية! وكم من الأشياء تَشْعُر وكأنها تحتك"([7]).
ثم "يصل نيتشه إلى الفلسفة وكيف يفهمها ويمارسها فيقول: "الفلسفة كما كنت قد فهمتها دائماً وعشتها تعني أن تعيش في الصقيع فوق القمم… إنها تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك، وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة، إنها تعني البحث عن كل ما حُذِف من قِبَلْ الأخلاق التقليدية، لقد اكْتَسَبْتُ تجربةً طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط.. وعندئذ اكتشفت الأسباب التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى، وعندئذ أيضاً تبدت لي الحياة المخبوءة للفلاسفة على حقيقتها، وفهمت نفسياتهم وشخصياتهم، واكتشفت فيما بعد أن المعيار الحقيقي للقيم هو التالي: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو من أجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية"([8]).
ما الذي يقصده نيتشه بهذا الكلام؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا التعريف الغريب والمفاجئ للفلسفة؟
يجيب هاشم صالح على هذا السؤال بقوله: "في الواقع إن نيتشه سمح لنفسه بأن يَشُكْ في كل شيء، وأن يدفع ثمن هذه الشكوك حتى انهار عقله أخيراً وجنّ، فقد شَكَّ في جميع العقائد التي توالت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى وقته. وكشف عن طابعها النسبي أو التاريخي في حين أنها كانت تُقَدِّم نفسها كحقائق مطلقة، مقدسة، متعالية. هذا ما فعله مع الافلاطونية أولاً ثم مع المسيحية ثانياً، هذه المسيحية التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لأن أباه كان كاهناً بروتستانتياً وكذلك جده وربما جد جده، ومعلوم أنه كان يدعوها بأفلاطونية الشعب، أي أفلاطونية سطحية مبتذلة! ومعلوم أيضا أنه أعلن عن موت الإله المسيحي القديم في نص مشهور "موت الإله"، والمقصود بذلك أن التدين المسيحي التقليدي قد انتهى في أوروبا بعد انتصار العلم والصناعة والفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر: أي في عصر نيتشه بالذات"([9]).
بالإضافة إلى تلك السمات، فقد كان نيتشه رافضاً للمسيحية، بل انه دعا إلى اجتثاث كل المعتقدات القديمة والاوهام المقدسة التي اعتبرها –كما يقول يوسف حسين- مصدراً لمكامن الضعف الانساني والخسة والدونيه التي حَوَّلَتْ الانسان إلى مجرد قطيع، فأطلق نيتشه صرخته لإيقاظ البشرية للخلاص من تلك الأوهام، وصولاً إلى الانسان القوي المتصالح مع ذاته ليكون نقيضاً للانسان الضعيف.
إن دعوة نيتشه إلى إجتثاث كل المعتقدات والأوهام، كان لها ما يبررها بالنسبة له، حيث أنه لم يعد قادراً على التواجد في محيط يجد نفسه فيه "محاصراً بسيل من الآراء المتفقة على مدح فكر قديم متخلف أو عقيدة قديمة تفوح منها رائحة عَفَن السنين، مما يجعله أمام خيارين أو موقفين أحلاهما مر، إما أن يتكلم، وسيجرفه بالتالي لا محالة تيار هيجان القطيع الثائر، وإما ان يلوذ بالصمت الممتلئ حسرة على ما يواجهه من قمع الجموع الغفيرة المغيبة العقل والارادة"([10]).
وليس أبلغ من نيتشه كي يصف لنا حالة هذا المفكر أو المثقف وغربته، كما كتب في رسالته لأخته اليزابيث ، فيقول: "يبدو لي أنني كنت أنتمي إلى عالم مختلف عما هو الآن، أشعر انني أصبحت غريباً عن اصدقائي القدامى، وأصبحت صامتاً، لأن لا أحد منهم يستطيع فهم ما أقول أو أكتب، انه لأمر رهيب ان ألتزم الصمت بينما لَدَيَّ الكثير لأقوله، هل خُلْقتُ لحياة العزله؟ إن عدم القدرة على تبادل أفكاري مع الآخرين هو أفظع وأسوأ أنواع العزلة على الإطلاق، وإن الاختلاف عن الآخرين هو أقسى وأفظع من أي قناع حديدي يمكن للفرد ان يُعْزَلْ بداخله"، هذا هو نيتشه –يضيف يوسف حسين- "إنسان جَنَىْ على عقله حينما دفعه بلا هوادة نحو اختراق معرفي واسع، بما لا يتفق أبداً وخصوصية انتماء مجتمعي أضيق من أن يستوعب عبقرية بحجمه أو بحجم موقفه وآراءه".
يقول في كتابه "هذا تكلم زرادشت" مخاطباً الانسان عموماً: "لقد سلكتم الطريق الطويلة من الدوده إلى الإنسان، لكنكم مازلتم تحملون الكثير من الدودة في داخلكم، كنتم قِرَدَة ذات يوم، وإلى الآن ما يزال الانسان أكثر قِرَدِية من أي قرد"، نلاحظ هنا تأثر نيتشه بنظرية داروين.
لذلك حمل نيتشه مطرقته الفكرية –كما يستطرد يوسف حسين- "لتقويض معتقدات الناس القديمه، خاصة حينما أعلن ان "الله قد مات" وقَصَدَ بذلك أن العقائد والاخلاق الدينية التي تستمد وجودها من هذا الإله، هي أصل العلة التي جعلت هذا الانسان ضعيفاً وبائساً ومستسلماً، وتصبح حياته كلها بلا معنى أو هدف، بسبب تلك الاخلاق الدينية التي أطلق عليها نيتشه "اخلاق العبيد"، وداعياً إلى اعتناق اخلاق وقيم جديدة لخلق انسان قوي أو إنسان أعلى يحتقر كل صفات الشفقة والضعف والنفاق.. انها اخلاق السادة – كما يسميها نيتشه- التي تجعل الانسان قوياً ومتمرداً وقادراً على الثورة من خلال "ارادة القوة" التي تجعل منه بديلاً للآلهة التي كان يعتقدها أو يؤمن بها"([11]).
لكن نيتشه –كما يرى يوسف حسين- لم يقدم رؤية واضحة أو بديل حقيقي يوفر أسس بناء أو ولادة الانسان الأعلى، سوى عبارة "ارادة القوة"، الأمر الذي جعل افكار نيتشه قابلة للتفسير وللتأويل وسوء الاستخدام بحيث يمكن استخدامها في إطار التعصب، كما جرى مع استخدام النازيين لأفكاره.
بالنسبة للانسان الأعلى، يقول نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" مخاطباً البشر: "انظروا، إنني أُعلِّمَكُم الانسان الأعلى الذي هو كنه الأرض، فلتعلن إرادتكم: ليكن الانسان الأعلى هو معنى الأرض.. أُناشدكم ان تظلوا أوفياء للأرض يا أخوتي، وألا تصدقوا أولئك الذين يحدثونكم عن آمال في السماء أو فوق أرضيه.. مُعِدُّوا سموم أولئك ، سواء اكانوا يعلمون أو لا يعلمون"، ويستطرد نيتشه قائلاً: لقد مضى الزمن الذي كان فيه الإثم تجاه الله أكبر الآثام، لكن الله مات ، وبهذا مات أيضاً كل اولئك الآثمين. نيتشه هنا يبشر بالانسان الأعلى، ويجسد أفكاره ضد الانسان الضعيف الذي يجب تجاوزه وانهائه لتكريس ولادة ونمو الانسان الاعلى، القوي، من خلال ارادة القوة.
نيتشه .. وموت الإله:
كان العقد الثامن من القرن التاسع عشر (1880) العقد الزمني للتفاؤل والتقدم والتطور، وضد تلك الخلفية ذاتها –كما يقول ديورانت- "أعلن نيتشه عن اكتشافه المروع، وهو: اعظم حدث في الأزمنة الحديثة، هو أن الله "مات"، وأن ذلك الإيمان بالإله المسيحي صار لا قيمة له – بدأ يلقي بظلاله على أوروبا.
واعتقد نيتشه أن تلك الرسالة المقلقة تحتاج إلى قرون عديدة حتى تصير جزءاً من التجربة الأوروبية، ولكن قبل ذلك ستفقد القيم التقليدية قوتها الملزمة، وستصير العدمية([12]) الأوروبية واقعاً.
رأى نيتشه أن العدمية نتيجة محتومة لإفلاس القيم والمثل العليا. فسقوط القيم، والكشف عن طبيعتها الخرافية دفعانا إلى الدخول في فراغ لم نختبره من قبل.
ورأى نيتشه أن نقطة التحول التاريخية حانت: إما أن يغرق الإنسان في بربرية حيوانية أو يتغلب على العدمية. غير أن العدمية لا يُقْضى عليها إلا إذا عِيْشَتْ حتى رمقها الأخير وتحولت من ثم إلى ضدها، كان المقصود من تفكير نيتشه أن يفتح الطريق أمام شيء مجهول سوف يأتي. لذا، يصعب تصنيف فكره. فهو في مرتبة مفكرين مثل باسكال وكيركيغارد وماركس ودوستويفسكي"([13]).
الجانب المعرفي لدى نيتشه:
يقول "سكيربك ونلز" في كتابهما "تاريخ الفكر الغربي": "رأى نيتشه أن جميع الأنظمة الميتافيزيقية تعابير عن إرادة القوة. والشيء ذاته ينطبق على العلوم. وهي، في الوقت ذاته، عبارة عن "خرافات"، نعني إنشاءات فكرية نفرضها على الواقع، وسريراً بروكروستيياً([14]) (Procrustean) بقياسه نحرف الواقع لخدمة حاجاتنا.
وتلك الأنظمة هي "مساعد فيزيولوجي لحفظ نوع معين من الحياة"، فكل شيء إن هو إلا وجهة نظر وخرافة، فقد اعتقد نيتشه بوجود رابطة بين المعرفة والمصلحة وفي الوقت ذاته اختزلت المسائل بمعنى طبيعي – بيولوجي، وثمة مسألة أخرى تنشأ أيضاً: ماذا عن نظريات نيتشه الخاصة ذاتها؟ هل هي الأخرى خرافات؟ وهل يمكن لنظريات نيتشه أن تتجنب الاتهام بأنها وجهات نظر نسبية، وتقدم لنا الحقيقة عن العالم بمعنى مطلق؟
نيتشه ينفي بقوة، الاحتمال الأخير، وقد ذهب بعيداً إلى حد الشك بالحقيقة. أليس الاعتقاد بوجود الحقيقة اعتقاداً ميتافيزيقياً؟ قال([15]):
"ثقتنا بالعلم تقوم دائماً على إيمان ميتافيزيقي. ونحن الذين نملك المعرفة، والذين لا يقولون بوجود آلهة، والمعادون للميتافيزيقا، نحن أيضاً أخذنا نارنا من المشعل ذاته الذي أشعل الإيمان القديم لألف سنة، الإيمان المسيحي الذي ينتمي أيضاً لأفلاطون، والذي قال بأن الله هو الحقيقة، وإن الحقيقة مقدسة. ولكن ماذا لو لم يعد أحد يؤمن بهذا المعتقد بشكل متزايد؟ .. ولو أن الله تبين أنه كذبتنا الأقدم؟".
وقال نيتشه أيضاً: "إننا في اللحظة التي ننكر فيها الإيمان بالمقدس فإن مسألة جديدة تنشأ: مسألة قيمة الحقيقة، "إذ ستوضع قيمة الحقيقة بشكل مؤقت موضع الشك". عندها ما يكون معيارنا إذا لم يكن الحقيقة ذاتها؟".
وهكذا يبدو أن لنيتشه تصورين للحقيقة، فمن الوجهة التقليدية، نحن نفهم الحقيقة بأنها مطابقة بين قول وواقع (وما تفيده هذه المطابقة كان مثار جدل منذ زمن أفلاطون).
وكل ما يدعى وقائع صافية أو "أوصاف حيادية" إن هو إلا تأويل خفي، ووجهة نظر إلى جانب سلسلة من التأويلات الأخرى، وبهذا المعنى لابد من أن تكون نظريات إرادة القوة والعود الأبدي خرافات، هي الأخرى، إذ ما الذي يميزها عن الخرافات الأخرى؟ وبأي معنى يعتقد نيتشه أن تلك النظريات حقيقية (إذا لم تكن هنا إمكانية للتطابق)؟ وكان الجواب هو أن بعض التأويلات "تخدم الحياة"، فهي نافعة للحياة ولتأكيد الحياة"([16]).
لقد وَجَدَ نيتشه نظرياته حقيقية بذلك المعنى، فهي ليست حقيقية بمعنى أنها تعبر عن حقيقة العالم (لأن نيتشه لا يعتقد بمثل تلك الحقيقة)، لكنها حقيقية بمعنى نفعها للحياة، وهذا ما يمكن أن نسميه التصور البراغماتي للحقيقة، وتلك هي الكيفية التي علينا أن نفهم بها تعريف نيتشه المشهور للحقيقة بوصفها "نوعاً من الخطأ لا يمكن لنوع معين من أنواع الحياة أن يعيش من دونه. فقيمة الحياة هي القول الفصل في نهاية المطاف"([17]).
إن فكرة الانسان الأعلى هنا –كما يقول يوسف حسين- "هي البديل الوحيد الذي يقدمه نيتشه كتجسيد أرضي لمفهوم الإله أو الميتافيزيقا، ومن ثم، تم تفسير هذه الفكرة من النازيين الذين وجدوا فيها ضالتهم وحديثهم عن التعصب العرقي، رغم ان نيتشه لم يقصد تحديداً الجنس الآري أو الألماني، بل خاطب الانسان البشري بالمعنى العام، أي انه خاطب البشر جميعاً ليجعل من الانسان صانعاً لواقعه عبر ارادته القوية التي تمجد حب الانتصار والتغلب على كل قيم الضعف والاستسلام، وفي هذا الجانب –كما يؤكد يوسف حسين- بقوله: "إن نيتشه لم يحترم ابداً المجرمين أو المتسلطين المستبدين، بل دعا إلى الانسان الاعلى الذي يتجاوز القيم القديمة صوب التطور المادي والاخلاقي المتوازن إدراكاً منه بحريته، وتوازنه النفسي، ككائن متكامل متصالح مع ذاته، ممجداً للقوة، ويسعى نحو الإنسانية بالمعنى الأخلاقي وليس بالمعنى العِرْقي الذي استخدمته الفاشيه والنازية وكافة المستبدين والطغاه"([18]).
في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" يقول نيتشه على لسان زرادشت مخاطباً الشعب: "جئت مبشراً لأُعَلِّمكم الانسان الأعلى، شرط امتلاككم لإرادة القوة، وأُناشدكم أن تَظَلّوا مخلصين للأرض بعيداً عن أوهام السماء وكل أحاديث رجال اللاهوت".
فكرة موت الإله هي الفكرة المركزية التي يستند اليها فكر نيتشه، والبديل الذي يقدمه نيتشه بعد موت الإله، هو الإنسان الأعلى كتجسيد أرضي للإله.. وهو –كما يقول نيتشه- "إنسان يعتمد على نفسه، سيد نفسه، وسيد مصيره، انسان نبيل صاحب فكر حر لا يأبه المخاطر، يبتكر من واقع إرادة القوة والاخلاق كل امكانات التغيير على الأرض".
إن إلهام نيتشه، وإبداعه، هبط عليه –كما يقول ديورانت- وهو على قمم جبال الألب وأوحى له باعظم كتاب: "هكذا تكلم زرادشت".
يقول نيتشه في كتابه هذا:
جلست هناك انتظر – ولا انتظر شيئاَ
وأنعم بما هو فوق الخير والشر
فأنعم بالضوء تارةً وبالظل طوراً
ولم أجد الا نهاراً وبحيرةً وظهيرةً وزماناً ابدياً
وفجأة يا صديقي أصبح الواحد اثنين .
ومر بي زرادشت.
وهنا ارتفعت روحه –يضيف ديورانت- "فقد وَجَدَ في زرادشت مُعَلِّماً جديداً وإلهاً جديداً، وهو السوبرمان والانسان الأعلى، كما وجد دينا جديداً وهو التكرار الابدي، لقد كان هذا الكتاب (هكذا تكلم زرادشت) آية في الابداع، وقد عرف نيتشه ذلك فقال، ان هذا الكتاب دُرَّةً وحيدة يعجز عن الاتيان بمثله الشعراء، ولا شيء يساويه في سحر الفاظه وعمق أفكاره، ولو جمعنا كل ما شاهده العالم من خير وروح في اعاظم الرجال، لما استطاعوا جميعهم ان يأتوا بحديث واحد من أحاديث زرادشت"([19]).
فيما يلي نقدم عرضاً مختصراً لموجز هذا الكتاب كما قدمه ول ديورانت:
ينزل زرادشت وهو في الثلاثين من عمره من جبله الذي آوي اليه واعتكف فيه، سابحاً في تأملاته وفكره، ليَعِظْ الجماهير، ويرشدها سواء السبيل، ولكن الجماهير تحولت عنه لانشغالها بمشاهدة رجل يرقص على الحبل، ولا يلبث هذا الراقص على الحبل أن يسقط من على الحبل ويموت، فيحمله زرادشت على كتفيه ويذهب به بعيداً، ويناجيه بقوله، ايها الراقص على الحبل، سأدفنك بيدي، لان حياتك كانت حافلة بالأخطار، وانا ادعو إلى حياة المخاطرة وأُقَدِّر البطولة، وأقول "عش في خطر، وَشِّيدْ مُدُنُكَ قرب بركان فيزوف، وأرسل سفنك لاكتشاف البحار المجهولة وعِشْ في حرب دائمة"، ولكن تذكر ان تكفر بالديانات جميعها.
ويقابل زرادشت وهو هابط من الجبل، ناسكاً هَرِماً، أخذ يحدثه عن الله، وانزوى زرادشت، وراح يخاطب نفسه بقول: "هل يمكن ان يكون ما قاله الناسك حقاً؟ يبدو أن هذا الناسك المُسِنْ لم يسمع بعد وهو في غابته ان الله قد مات!" ولكن الله قد مات حتماً، وماتت جميع الآلهة، فقد انتهت حياة الالهة منذ عهد بعيد، لم يتريثوا في موتهم في السحر، كما تخبرنا تلك الاكذوبة، وعلى النقيض، فقد اضحكوا انفسهم حتى الموت!، وقام اله فالقى كلمة أبعد ما تكون عن صفات الألوهية، اذ قال: "لا اله إلا الله ولا الهة من قبلي"، وضحك الالهة جميعاً حتى اهتزوا على عروشهم وصاحوا "اليس من الدين ان يكون هنالك آلهة عدة؟ "فليسمع كل من له آذان، هكذا يتحدث نيتشه بلسان زرادشت فيقول:
أي إلحاد طافح بالبشر والفرح هذا؟ اليس من التقوى ان لا يكون هنالك آلهة؟ اذ لو كان هنالك آلهة كيف أُطيق ألا أكون الها؟ لذلك لا وجود للآلهة. أي انسان أشد كفراً والحاداً مني لكي أُمَتِّع النفس بتعاليمه؟
"اناشدكم يا اخواني واستحلفكم ان تبقوا على اخلاصكم وولائكم لهذه الأرض، والا تصدقوا اولئك الذين يحدثونكم عن الآمال السماوية، انهم ينفثون فيكم السموم، سواء عَلِموا بذلك ام لم يعلموا"([20]).
ولكن زرادشت –كما يقول ديورانت- "يشكو من انه لم يعد بين الناس، من يعرف التوقير والتبجيل، ويَعتَبِر نفسه أتقى ممن لا يعتقدون في الله، وبعدئذ يعلن عن اسم الاله الجديد، فيقول:
"لقد ماتت جميع الالهة، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان "الانسان الاعلى"، إنني اعلِمَكُم عن الإنسان الاعلى، سينحدر من الإنسان من يفوقه ويسمو عليه"، وإن أعظم ما في الإنسان أنه جسر لا هدف، وما يحب في الإنسان انه انتقال وتدمير. انني أُحِبُّ أولئك الذين لا يعرفون الحياة إلا بالموت، فهؤلاء هم الذين يتسامون، أُحب المستهينين بالحياة، والمستخفين بالموت، لأنهم أعظم المتدينين والصالحين، فهم سهام تتوق إلى بلوغ حياة افضل، أُحب الذين يُضَحُّون بحياتهم من أجل هذه الأرض التي نعيش عليها، لا من أجل ما وراء النجوم، لكي تصبح الأرض يوماً مسكن الإنسان الأعلى، لقد حان للإنسان ان يعرف هدفه، لقد آن للإنسان ان يَبْذُر بذور أسمى آماله وغايته، أخبروني أليَست الانسانية ناقصة اذا كان ينقصها الهدف؟.."([21]).
تنبأ نيتشه –كما يرى ديورانت- "بأن كل قارئ سيظن نفسه بأنه الإنسان الأعلى، فأعلن بأن الإنسان الأعلى لم يولد بعد، ولم يَقْنَع نيتشه في خلق إله في صورة نفسه، بل أراد ان يكتب الخلود لنفسه، فقال: سيعود كل شيء في هذه الحياة بالتفصيل الدقيق مرة بعد مرة، ومرات لا نهاية لها، حتى نيتشه سيعود وستعود المانيا ذات الدم والحديد والحرب، والنار والرماد، كما ستعود كل جهود العقل البشري منذ بدأ في أزمنة الجهل إلى "زرادشت"، إنه لمبدأ مخيف ولكن كيف يمكن ألا يكون كذلك؟ إن أشكال الحقيقة محدودة، ولكن الزمان لا نهائي غير محدود، ولا بد أن تجتمع الحياة والمادة يوماً على صورة سَبَق لهما أن اجتمعاً بها، وهكذا سيعيد التاريخ نفسه مرة ثانية، وسيبدأ كما بدأ، وينتهي كما انتهى"([22]).
ويعلق ديورانت قائلاً: "لقد اتخذ نيتشه من كتابه زرادشت انجيلا له في حياته، ولم تكن كتبه التالية الا تعليقاً عليه، انه الان وحيد أكثر من أي وقت مضى، فقد بدا كتابه هذا شاذاً ومريبا في نظر اصدقائه، وناح عليه زملاؤه العلماء في جامعة بال الذين اظهروا تقديرهم واعجابهم بكتابه السابق، "مولد المأساة" وبكوا فيه عالما لغويا لا معاً، وشاعراً فاشلاً"([23]).
نيتشه والموقف من الأخلاق:
فلسفة نيتشه الأخلاقية هي: بشكل رئيسي، محاولة لشرح الظواهر الأخلاقية بطريقة بسيكولوجية، فهو لم يقل شيئاً عما يجب أن يحل محل الأخلاق المُدَمِّرة، وكيف تُؤَسَّس الأخلاق الجديدة، لكنه أكد القول بأن لا وجود لظواهر أخلاقية أو غير أخلاقية في ذاتها، وفي هذه النقطة يذكرنا موقفه بالفيلسوف هيوم: لا وجود إلا لتأويلين أخلاقيين للظواهر، وقد تباهي نيتشه لكونه أول من أدرك عدم وجود "حقائق أخلاقية" قائلاً: " لا تنفع صيغنا الأخلاقية في وصف العالم، فالأخلاق مثل سترة السجين أو المجنون: عبارة عن وسيلة مفيدة لحفظ المجتمع وتجنب القوى الهدامة، والأخلاق تَستَعْمِل فكرة الخوف وفكرة الأمل – ومن بين أقوى الاختراعات النعيم والجحيم، وفي نهاية المطاف استبطن الإنسان آليات القمع فصارت له ضميراً"([24]).
في كتابه ما وراء الخير والشر (Beyond Good and Evil) أعلن نيتشه عن اكتشافه نمطين أساسيين من الأخلاق هما: "أخلاق السيد" و"أخلاق العبد"، ويمكن وضع التمييز بشكل أساسي كما يأتي: في اخلاق السيد "الصالح" يعادل "النبيل" و"البارز" و"الشهم"، و"السيء" يعادل معنى "المحتقر"، أما في أخلاق العبد، فإن مسألة الصالح والطالح ذات صلة بما يخدم الضعفاء "وفقراء الروح"، إذ تُرْفَع صفات مثل العطف والتواضع والرحمة إلى فضائل، ويعد الفرد القوي والمستقل خطرأ و"شرا".
يقول نيشته: "لكنه على الرغم من أن الأسياد أقوياء، فإن العبيد أذكى منهم بكثير، ومع أن العبيد لا يتجاسرون على مواجهة الأسياد في الميدان المفتوح، فإنهم يحاولون ترويضهم بإبراز قيمهم الأخلاقية واعتبارها مطلقة: "فتكون بداية ثورة العبيد في الأخلاق عندما يتحول الاستياء ذاته إلى استياء خلاق ويُوَلِّدْ قيماً"([25]).
وهكذا، فإن العدوانية عند الفقراء المحرومين لا يُعَبَّر عنها بشكل مباشر، ولكن بشكل غير مباشر، وقد رأى نيتشه في المسيحية أَفْعَلْ مُدَمِّر لأخلاق السيد، فالمسيحيون –حسب نيتشه- يمتدحون صفات الضعف والتواضع والحلم، ليس لأن المسيحيين يحبونها، وإنما يعود ذلك إلى حقد دفين للقوة وللكبرياء في الحياة وللتأكيد للذات، وبسبب "الرعب الروحي" صارت أخلاق العبد، التي كانت أصلاً منظوراً واحداً، مقبولة من كل واحد كمقياس عالمي: الأسياد يتخذون مقياس العبيد لأنفسهم.
ذلك كله –كما يقول سكيربك ونلز- لا يعني أن نيتشه كان مدافعاً عن عدم العاطفة وعن الوحشية، فما أراد هو أن يبين مدى التعقيد الذي يمكن أن يكون عليه الكثير من رغباتنا، ومقدار الفرح الدفين الموجود في وعدنا خصومنا بعذاب أبدي!
لكن هل عنى نيتشه أن علينا أن نسمح لعواطفنا ودوافعنا أن تنطلق من عقالها وتتعدى الخير والشر؟ فهل علينا في المجال الأخلاقي أن نتبنى موقفاً يشبه موقف دعه يعمل؟
كان "نيتشه يرى أن الأخلاق كلها، بما فيها ما يتعدى الخير والشر، تتضمن بعض الطغيان على "الطبيعة"، وذلك ضروري، فمن دون الأخلاق لا وجود لما يستحق الحياة. فلا الفن ولا الشعر (ناهيك بالفلسفة الكبرى!) ممكن أن يكونا من دون مقدار معين من الإكراه، ومن دون موقف زهدي من الحياة، فالنقطة الأساسية هي في انضباط العواطف والرغبات، وليس في تجفيفها وإنما في تهذيبها، والتسامي هو المفتاح، وبالتالي لم يُرِدْ نيتشه "الرجوع إلى الطبيعة"، وإلى التعبير البدائي عن العواطف. ذلك كله يمهد الطريق لمثال نيتشه الأعلى وهو: الإنسان الأعلى"([26]).
يقول نيتشه: "إن فصاحة الأنبياء هي التي جعلت من أخلاق الطبقات المحكومة الضعيفة مقياساً للاخلاق العامة، واصبحت الدنيا والجسد عنوانا للشر، وأضحى الفقر برهاناً على الفضيلة، فقد بلغ هذا التقدير أو المقياس الاخلاقي ذروته في تعاليم المسيح، الذي نادى بالمساواة بين الناس في الاقدار والحقوق، وتفرعت عن تعاليمه ومبادئه المبادئ الديمقراطية والاشتراكية، وأصبحت هذه الفلسفات العامية الشعبية مقياساً وتعريفاً لكل تقدم، ورمزاً لكل مساواة، والواقع ان الحياة التي تقوم على مثل هذه المبادئ الشعبية هي حياة في طريق الانحلال والانحدار، وإن آخر مرحلة لهذا الانحلال والانحدار هي تمجيد الشفقة، وتعظيم التضحية بالنفس، والشعور بالعطف على المجرمين"([27]).
ويضيف نيتشه قائلاً: "ان العطف أمر مشروع إذا كان فعالاً، أما الشفقة فهي ضَرب من الشلل العقلي، ومضيعة للشعور في اصلاح من لا يرجى إصلاحهم من العَجَزَة والمشوهين والأشرار والمرضى والمجرمين، هذا بالاضافة إلى ما تنطوي عليه الشفقة من السماجة وقلة الادب، ان زيارتنا للمرضي هي نزعة إستعلاء منا نحو هؤلاء المرضى العاجزين، كما أن الاخلاق هي ارادة القوة، والحب ذاته رغبة في التملك، ومطارحة الغرام معركة، والزواج سيادة.ان العقل والاخلاق عاجزان امام ارادة القوة هذه، وهما سلاحان في يدها"([28]).
"تك النظم الفلسفية عنده –كما يقول ديورانت- ليست "إلا سرابا خادعاً، وما نراه ليس الحقيقة المنشودة التي طال بحثنا ولكنه إنعكاس لرغباتنا ليس إلا، هذه الرغبات الداخلية، هذه النبضات لإرادة القوة، هي التي تقرر افكارنا حيث "يستمر الشطر الأعظم من نشاطنا العقلي بطريقة لا شعورية لا نشعر بها، كما ان التفكير الشعوري هو اضعف التفكير، وذلك لان الغريزة وهي العملية المباشرة لإرادة القوة، لا يزعجها الإدراك الشعوري، والغريزة هي أعظم انواع الذكاء الذي عرفه الإنسان حتى الآن، لقد بالغ الإنسان في تقدير الإدراك العقلي، وليس الإدراك سوى عملية ثانوية لا أهمية لها ولا لزوم، كما أن الرغبة –يستطرد ديورانت- تبرر نفسها في النفوس القوية السليمة ذات السيادة والسيطرة التي لا نجد فيها الضمير والشفقة والندم منفذا ليدخلها، ولكن بعد ان سادت الاخلاق اليهودية المسيحية الديمقراطية في الأزمنة الحديثة، اصبح الاقوياء يخجلون من قوتهم وصحتهم، وراحوا يتلمسون الاسباب لما يبتغون، وبالتالي فإن الفضائل والقيم الارستقراطية آخذة في الانطفاء والاختفاء، وأوروبا يهددها غزو بوذي جديد، كما ان فضائل الطبقات السفلى من الشعب (عامة الشعب) لو انتقلت عدواها إلى الزعماء والقادة الاقوياء، وحولتهم إلى طينة عامة الشعب لكان ذلك بدء الانحلال والفساد"([29]).
لذلك "ينبغي قبل كل شيء –كما يضيف ديورانت- "ان نلزم مبادئ الاخلاق على الانحناء امام تدرج المراتب واختلاف الطبقات، ويجب على عامة الشعب ان تفهم تماماً انه مما ينافي الاخلاق ان نقول، ان ما يحق للفرد يحق للفرد الآخر، لان اختلاف الاعمال يقتضي اختلافاً في الصفات، والفضائل الشريرة التي يتميز بها الاقوياء ضرورية للمجتمع كالفضائل الخيرة التي يتصف بها الضعفاء، فالقسوة والعنف والخطر والحرب لها قيمتها كاللطف والشفقة والسلام، وأَعظم الرجال لا يظهرون إلا في أوقات الخطر والعنف والشدة والقسوة التي تستدعيها ضرورة الموقف، وأعظم ما في الإنسان هو قوة الإرادة وثبات العاطفة، اذ بدون العاطفة يكون الإنسان مائعاً وحليبا لا يصلح للعمل، كما ان الشره والحسد وحتى الكراهية أمور لابد منها في الكفاح واختيار الافضل وبقاء الاصلح، وعندما اخترع الإنسان فكرة عذاب جهنم، أراد أن يعزي نفسه بفكرة تعذيب اعدائه ومضطهدية وظالميه في الحياة الاخرى، فالأوروبي العامي في ايامنا هذه يمجد ويعظم صفاته الضعيفة، كالرقة والمساواة والاعتدال والشفقة، وانه لطيف وصبور ونافع للمجتمع، ويعتقد ان هذه الصفات من مميزات الانسانية"([30]).
نلاحظ هنا –كما يستطرد ديورانت- "أن نقد الاخلاق يهيمن على جل كتابات نيتشه وبصفة خاصة كتابيه "ما بعد الخيرو الشر" و"جينالوجيا الاخلاق"، ذلك إن ما يريد أن يوضحه نيتشه هو "أن الخضوع للاخلاق ليس في ذاته أخلاقياً"، بمعنى أن ما ينزع اليه نيتشه هو هدم القاعدة المعيارية المتعالية للقيم والمبادئ الأخلاقية، والقطيعة مع التراث الفلسفي الذي اتجه دوماً إلى بناء الاخلاق على الانسجام مع نظام الوجود ونظام العقل، ومن ثم تبيان النوازع الحيوية و"الغريزية" التي تختفي خلف سمو وقدسية تلك الأوامر والالتزامات السلوكية.
"إن كل الاخلاقيات السابقة تنطلق من الحكم المسبق الذي بفضله نعتقد أننا نعرف لماذا يوجد الانسان: وبالتالي نعرف مثاله: أن ذلك يؤول إلى فردية المثال ونفي الأخلاق الشمولية، "فالقوة عند نيتشه هي أساس الاخلاق، وبما ان القوة وحدها وليست الشفقة هي الاساس للأخلاق، لذلك ينبغي على الانسانية أَلا تتجه بجهودها إلى رفع طبقة العوام والأكثرية من الشعب، ولكن إلى النهوض بأقوى وأفضل الافراد في الشعب، "وان يكون هدف الانسانية هو الإنسان الأعلى وليس الجنس البشري بأسره"، وآخر ما ينبغي للعقلاء المفكرين ان يتصدوا له هو تحسين الانسانية واصلاحها، اذ لا صلاح للإنسانية، بل ليس للإنسانية وجود على الاطلاق، والافضل على المجتمع ان يَفْنَى إذا لم يعمل على بعث إنسان أسمى، المجتمع أداة لرفع قوة الفرد وشخصيته، والجماعة ليست غاية في حد ذاتها"([31]).
يبدو من حديث نيتشه أولاً بأنه "كان يرجو بعث نوع جديد من الانسان، ولكنه اخذ يفكر بعد ذلك في ان الإنسان الاعلى فرد متفوق يرتفع بشجاعته من وسط الشعب بفضل تربيته القوية لا بفضل الانتخاب الطبيعي، فالطبيعة اقسى ما تكون على افضل افرادها، انها تميل إلى الفرد المتوسط العادي وتعمل على حمايته، وفي الطبيعة ميل دائم إلى الهبوط بأفذاذ الرجال إلى مستوى عامة الشعب واخضاعهم لهم، فهي تنتصر دائماً للكثرة على الصفوة الممتازة، اذن لا أمل في ان تختار لنا هذه الطبيعة الإنسان الاعلى، وعلينا اختيار الإنسان الاعلى عن طريق وسائل تحسين النسل والتعليم الذي يرفع من قيم الرجال وأقدارهم"([32]).
يقول نيتشه: "إن النبل مستحيل بغير حُسْنْ المولد، والعقل وحده لا يؤدي إلى النبل، بل العكس هو الأصح، فالعقل يحتاج إلى ما يُشَرٍّفه ويرفع قدره، ماذا نريد اذن؟ نريد الدم .. (سلامة العنصر) وبعد توفير حسن المولد تحسين النسل، تكون الخطوة الثانية لصياغة الإنسان الاعلى، مدرسة عنيفة قاسية تستهدف الأخذ بيد التلاميذ نحو الكمال، حيث يتدربون على تحمل المسؤوليات الجسيمة، دون ان ينعموا بكثير من أسباب الراحة، وذلك بتدريب الاجسام على تحمل الالآم في صمت، وتدريب الإرادة على اطاعة الأوامر ومهام القيادة، وان تبتعد هذه المدرسة في نظامها عن التساهل والحرية التي تضعف القوة الجسدية والخلقية، وبمثل هذا المولد وهذه التربية يرتفع الإنسان فوق الخير والشر، ولا يتردد في اللجوء إلى العنف والقسوة في سبيل الوصول إلى غايته، بحيث يكون شجاعاً لا صالحا أو خيراً، "ما هو الخير؟ ... الخير هو الشجاعة". "ما هو الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة، هو ارادة القوة، هو القوة نفسها في الانسان، وما هو الشر، الشر هو كل ما ينشأ عن الشعف، قد يكون اميز ما يميز الإنسان الأعلى هو حبه للمخاطرة والكفاح، شريطة ان يكون لهما هدف، ولا يجوز له ان يسعى إلى السلام أولاً، وسيترك السعادة إلى عامة الناس، فالثوره خير،  ولكنها ليست خيراً في حد ذاتها، لانها تؤدي إلى سيادة الجماهير وعامة الشعب وهو أسوأ أنواع الحكم، ولكن الثورة كفاح، والكفاح يبرز العَظَمَة الكامنة في الرجال، التي لم تُصَادِفْ من قبل فرصة أو حافزاً للظهور"([33]).
فمن بين الفوضى يبزغ أعاظم الرجال كالنجوم اللامعة الراقصة، كما بزغ نابليون من بين انقاض وفوضى الثورة الفرنسية، كما خرج من فوضى عهد النهضة والعنف الذي رافقها شخصيات عظيمة قوية لم تشاهدها أوروبا أبداً، إذن، "الحيوية والعقل وعزة النفس هي التي تصنع الإنسان الأعلى، ولكن ينبغي ايجاد الإنسجام بينها، ولن تصبح العواطف قوة دافعة إلا إذا وَحَّدَ بينها هدف عظيم يصوغ شتات الرغبات في شخصية قوية. ويلٌ للمفكر الذي يكون أرضاً لأفكاره لا بستانيا منظماً ومشذباً لها.
ان من ينساق لعواطفه وغرائزه هو الضعيف الذي تنقصه قوة الكبت والكبح، والذي ليس لديه من القوة ليقول (لا) اذا استدعى الأمر إلى قولها"([34]).
نيتشه .. ضد الديمقراطية.. ومع  إرادة القوة الارستقراطية:
يقول نيتشه "لم يتخلف المفكرون الاحرار الفرنسيون من فولتير إلى أوجست كونت عن المَثل الاعلى للديانة المسيحية بل اضافوا عليها. فقد ذهب كومت إلى الدعوة إلى محبة الآخرين، وتكريس الحياة من أجل مساعدتهم، كما ذهب شوبنهور في المانيا، وجون ستيوارت مل في انجلترا، إلى الدعوة إلى نظرية الشفقة ومساعدة الآخرين، واعتبروها المبدأ الاساسي في العمل، كما وضع الاشتراكيون جميعهم افكارهم على أساس هذه المبادئ التي تحض على الشفقة والرحمة ومساعدة الغير"، لكن ما نحتاج إليه في هذه المعركة التي نسميها الحياة –كما يضيف نيتشه- هو القوة لا الطيبة، والكبرياء لا الخضوع، والذكاء الحازم لا حب الغير ومساعدة الناس، ذلك إن المساواة والديمقراطية مناقِضَةً لنظرية الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح التي تحدث عنها داروين، كما ان هدف التطور هو العباقرة لا جماهير الشعب، والحكم الفصل في جميع الخلافات ومصائر الأمور هو القوة لا العدالة، هذا هو ما اعتقده فردريك نيتشه، والآن، ان كان هذا حقاً، فليس اعظم من بسمارك ولا أكثر منه أهمية، اذ ينطبق عليه هذا الوصف الذي ذهب اليه نيتشه"([35]).
ويضيف نيتشه قائلاً: "لقد عرف بسمارك حقائق الحياة فأَعلن في خشونة "ان لا محبة للغير بين الأمم وان القضايا الحديثة في الدول، لا ينبغي ان تقررها أصوات الناخبين، ولا بلاغة الخُطَبْ، ولكن الذي يقررها هو الدم والحديد"... أي ريح عاتية كان بسمارك بالنسبة إلى أوروبا التي افسدتها الأوهام والديمقراطية والمثل العليا السائدة، فقد تمكن في شهور قليلة من فرض سيادته وزعامته على النمسا المتدهورة، وفي شهور قليلة أَخضع فرنسا التي كانت لا تزال تترنح نشوى باسطورة نابليون، كما أَجبر في هذه الشهور القليلة الدويلات الالمانية الصغيرة على دمج نفسها في امبراطورية قوية، لقد كان بسمارك رمزاً لهذه الاخلاق الجديدة التي دعا لها نيشته، الا وهي اخلاق القوة"([36]).
وفي هذا السياق، "فإن نيتشه يرفض الديمقراطية ويكرهها، فالديمقراطية عنده "معناها ان يسمح لكل جزء في الإنسان بالانطلاق في المسرات والرغبات، معناها انحلال التماسك وتبادل التعاون، وتتويج الفوضى والحرية، ومعناها عبادة أوساط الناس ومقت التفوق والنبوغ، ومعناها استحالة ظهور الرجال العظماء، اذ كيف يمكن لاعاظم الرجال الاذعان إلى غش واكاذيب الانتخابات؟ وكيف يمكن أن يترعرع الإنسان الاعلى في مثل هذه التربة؟ وكيف يمكن لامة بلوغ العظمة اذا لم تنتفع وتستخدم أعظم رجالها باثباط همتهم وتركهم لا يسمع بهم احد؟ ان مثل هذه الامة سرعان ما تفقد اخلاقها بتمجيدها صاحب أكثرية الاصوات في الانتخابات بدلاً من الموهوب المتفوق النابغ، في مثل هذا المجتمع، تتشابه الاشياء، وتتحول النساء إلى رجال، والرجال إلى نساء"([37]).
بناء على ما تقدم تكون "الطريق إلى الإنسان الأعلى هي الأرستقراطية، أما الديمقراطية وهي سخافة حكم الأكثرية والعدد فيجب استئصالها والقضاء عليها قبل فوات الفرصة وتأخر الوقت، وأول خطوة لتحقيق ذلك هي "تحطيم المسيحية، فقد كان انتصار المسيح بدء الديمقراطية "لقد كان المسيحي الأول في اعماق نفسه ثائراً على كل ضروب الامتياز، فقد عاش وكافح في سبيل المساواة يين الناس في الحقوق"، اليس هو القائل "سيد القوم خادمهم"، ان هذا قلب للحكمة السياسية والعقل السليم، والواقع ان من يقرأ هذا الانجيل يشعر بأنه يقرأ كتاباً روسيَّاً، وأن ما جاء فيه من آراء لا يمكن ان تتأصل وترسل جذورها إلا في الطبقات السفلى، وفي عصر إنحط فيه الحكام وعجزوا عن الحكم، وعندما يتربع العبد على عرش الحكم ينشأ التناقض ويصبح احقر الناس افضلهم، ولا صحة لما يقال من ان الدول نشأت بتعاقد الافراد فيما بينهم، ولكن الذي أنشأ الدول جبابرة من الغزاة العتاة والسادة الاقوياء، من ذوي المقدرة الحربية والتنظيم العسكري، الذي أَنشبوا مخالبهم المخيفة في سكان بلاد تفوقهم عدداً، اذ ما قيمة العقود مع من خلق بطبعه ليكون قائداً وسيداً وعنيفاً قوياً؟"([38]).
ولكن هذه الفئة الحاكمة –كما يقول نيتشه- "افسدتها الفضائل الكاثوليكية المخنثة الضعيفة أولاً، والمبادئ الشعبية العامية الناجمة عن الاصلاح الديني ثانياً، والتزاوج مع الطبقات السفلى ثالثاً، فقد افسدت البروتستانتية وشرب الجعة الذكاء الالماني، هذا بالاضافة إلى الأوبرا الفرنسية التي ساهمت أيضاً في افساد ذكاء الالمان، ونتيجة لذلك أصبحت بروسيا الالمانية اليوم أَلد أعداء الثقافة، ولاشك أن هذه الحالة الحاضرة في المانيا تقف عقبة امام تفهم الشعب لفلسفتي، فاذا كان الزمن الطويل وحده هو القادر على فناء العالم، فإن الزمن الطويل وحده سيقضي على الفكرة الباطلة التي تسود المانيا، ومع ذلك فإن الشعب الألماني يمتاز بطبيعة رزينة وعمق يبعث الامل في ان تنهض المانيا يوماً لتخليص العالم وانقاذه، اذ ان في الشعب الألماني من فضائل الرجولة أكثر مما في الشعب الفرنسي أو الانجليزي، هذا بالاضافة إلى اتصاف الالمان بالمثابرة والصبر والجد- مما أدى إلى تَبَحُّرِهم في العلم وإلى نظامهم العسكري، ومن الممتع ان نشاهد أوروبا كلها قلقة من قوة الجيش الالماني، ولو أمكن ايجاد تعاون بين قوة المانيا التنظيمية ومصادر الثروة والرجال في روسيا لبزغ فجر عصر سياسي عظيم" ([39]).
نيتشه ضد المساواة وضد الاشتراكية:
اتخذ نيتشه موقفاً صارماً ضد المساواة لأنها تشجع ولادة أو انبثاق الاشتراكية والفوضوية، وكلها متفرعة من الديمقراطية، فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً، فلماذا لا تساوي بين الناس في القوة الاقتصادية؟
وهنا يصرخ نيتشه ضد المساواة قائلاً: "اريد ان اكون واضحاً، وان لا أُحدث بلبلة حول موقفي من هؤلاء الذين ينادون بالمساواة، فأقول أن لا مساواة بين الناس "ان العدالة لتصرخ في دخيلتي ان لا مساواة بين الناس، ان طبيعة الإنسان تأبى عليه المساواة، وأولئك الذين يدعو إلى المساواة يَدْعونَ لها لعجزهم عن ان يكونوا جبابرة طغاة، ان الطبيعة تحب اختلاف الافراد والطبقات والانواع.
كما أن الاشتراكية تتنافى مع الأسس البيولوجية: ان عملية التطور تقتضي انتفاع الاقوياء بالضعفاء، إن الحياة استغلال، وتقوم كل حياة على افتراس حياة أخرى، فالسمك الكبير يبتلع الصغير وهذه هي الحياة بتمامها، وبالتالي فإن الاشتراكية –عند نيتشه- تعني الحسد، "والاشتراكيون يريدون انتزاع بعض ما في ايدينا، تثور الطبقات السفلى مطالبة بالاشتراكية ظناً منها أن هذه الثورة ستحررها من تبعيتها التي هي نتيجة طبيعية لضعفها وعدم كفايتها، ومع ذلك فإن العبد لا يكون نبيلاً الا إذا ثار".
ومهما يكن من أمر هؤلاء العبيد، فانهم خير من البورجوازيين سادة العصر الحديث، انه لمن علامة انحطاط ثقافة القرن التاسع عشر ان يكون رجل المال موضع هذا التقديس والتعظيم والحسد، كما ان افراد هذه الطبقة من رجال الاعمال عبيد ايضاً، فهم عبيد العمل الآلي الرتيب، وضحايا لعمل، وليس لديهم الوقت للاطلاع على الاراء الجديدة، والتفكير عندهم حرام"([40]).
"إن الحرب –لدى نيتشه- "أفضل علاج للشعوب التي دب فيها الشعف والترف والراحة والهوان والخسة، لانها تثير الغرائز التي افسدها السلام، وعندما تتحول الامة عن الحرب والغزو، فإن هذا من علامات انحطاط الأمة، وانها أصبحت ثمرة ناضجة للوقوع في يد الديمقراطية وحكم التجار، ومع هذا فإن اسباب الحروب الحديثة ابعد ما تكون عن النبل، والحروب التي اثارتها الخلافات الدينية والعائلات المالكة افضل قليلاً من لجوء التجار إلى المدافع والبنادق لحل الخلاف بينهم، لذا ينبغي على السياسة أن تعمل على إبعاد رجال الاعمال عن الحكم، لأن رجل الاعمال ينقصه بُعْد النظر واتساع المدى المتوفر في الارستقراطي، لان أرفع الرجال لهم حق مقدس في الحكم، وهو حق المقدرة السامية، وللرجل العامي مكانه، وليس مكانه العرش طبعاً، والرجل العامي سعيد في مكانه وفضائله ضرورية للمجتمع كفضائل الزعيم"([41]).
أما المدينة السامية عنده، فهي كالهرم، لا تستقر إلا على قاعدة فسيحة ضرورية من الطبقة الوسطى القوية السليمة المتماسكة، والناس أينما وجدوا، بعضهم خلقوا قادة وبعضهم اتباعاً، وسترضخ الأكثرية وتشعر بالسعادة في العمل تحت اشراف هؤلاء الزعماء الاقوياء وتوجيههم العقلي.
والمجتمع المثالي هو الذي ينقسم إلى ثلاث طبقات:
1-         طبقة المنتجين وتشمل المزارعين والعمال ورجال الاعمال.
2-         طبقة الموظفين وتشمل الجنود.
3-         وطبقة الحكام، وللحكام ان يديروا سياسة الدولة بان يكونوا ساسة وفلاسفة لا موظفين، لان عمل الموظفين عمل حقير لا يتناسب مع الحكام.
هل ينبغي أن تكون هذه الفئة الحاكمة طائفية وسلطتها وراثية؟ والجواب على هذا السؤال نعم إلى مدى كبير، والا تمزج دماً جديداً إلى دمها الا نادراً، اذ لا شيء يُضعِف الارستقراطية ويفسدها ويلوث دمها أكثر من الزواج من الاغنياء العوام السوقة، كما أننا –يقول نيتشه- لن نجد الشجاعة والبصيرة الا في هذه الطبقة الأرستقراطية التي ستوحد أوروبا، وتقضي على النزعات القومية السائدة، ولنكن أوروبيين صالحين كما كان نابليون، وجوته، وبيتهوفن، وشوبنهور، متى سيظهر هذا الجنس الجديد، والزعماء الجدد، متى ستولد أوروبا([42]).
إن نيتشه يرفض مفهوم المساواة من حيث المبدأ، إلى جانب رفضه للمساواة مع المرأة، فيقول: "إن مساواة المرأة بالرجل في الحقوق هي النتيجة الطبيعية للمبادئ الديمقراطية والديانة المسيحية. ومن الخطر مساواة الرجل بالمرأة لانها لن تسعد بذلك وتؤثر الخضوع إلى الرجل، هذا اذا كان الرجل رجلاً، لان سعادتها وكمالها تكمنان في الامومة، ان الرجل بالنسبة إلى المرأة وسيلة، والغاية هي الطفل دائماً، لكن ما هي المرأة بالنسبة إلى الرجل؟ .. انها لعبة خطيرة، يجب اعداد الرجل للحرب، والنساء للترفيه عن المحاربين وكل ما عدا ذلك فسخافة، مع ذلك فإن المرأة الكاملة اسمى انسانية من الرجل الكامل، ولكن هذه المرأة السامية في الانسانية امر نادر الوقوع.. ولا يستطيع الرجل أن يكون لطيفاً تماماً مع النساء"([43]).
نيتشه والثقافة الأوروبية:
كان نيتشه شديد الإعجاب بالثقافة الفرنسيه، فيقول: "أنا لا أومن إلا بالثقافة الفرنسية، وأعتَبِرُ كل ثقافة أوروبية أخرى بجانب الثقافة الفرنسية كلاماً فارغاً، وعندما يقرأ الإنسان كتب فرنسيين من امثال (مونتيني) و(لارشفوكو) يشعر الروح القديمة أكثر من قراءة أية جماعة أخرى من كتاب الشعوب الاخرى، أما فولتير فهو سيد العقل العظيم و(تين) أول المؤرخين المعاصرين، كما ان الكُتَّاب الحديثين منهم من امثال "فلوبير" و"بورجيه" و"اناتول فرانس" يفوقون غيرهم من الكتاب الأوروبيين في وضوح الفكرة واللغة، كما ان ما نجده في أوروبا، من سمو في الذوق، ونبل في الشعور والاخلاق، هو من صنع فرنسا، أعني فرنسا القديمة التي ازدهرت في القرنين السادس والسابع عشر، ولكن عندما حطمت الثورة الفرنسية الطبقة الارستقراطية حطمت معها دعائم الثقافة، وغدت الروح الفرنسية الآن هزيلة شاحبة بالمقارنة مع ما كانت عليه سابقاً"([44]).
أما روسيا فهي –كما يقول نيتشه- فهي "وحش أوروبا الاشقر... ويمتاز شعبها بعناد وإيمان بالقضاء والقَدَر تميزه عن الشعوب الغربية، وتحكم روسيا حكومة قوية لا تعرف هذه "الغباوة البرلمانية" وقد اجتمعت وتركزت فيها قوة الإرادة منذ مدة طويلة، وهي الآن تهدد لايجاد مَنْفَذ لها، ولن يكون عجيباً اذا وجدنا روسيا تبسط سلطانها وتصبح سيدة لأوروبا. أما الايطاليين، فهم أجمل الشعوب الأوروبية المعاصرة وأشدها عنفاً، اذ ان الإنسان ينمو قوياً شديداً في ايطاليا، وفي الايطاليين جلد الرجولة، وكبرياء الارستقراطية التي تجدها حتى في أقل الطبقات الايطالية. أما أسوأ الشعوب فهم الانجليز، وهم الذين افسدوا العقل الفرنسي بأوهام الديمقراطية والنفعية الانجليزية هي آفة الثقافة الاوروبية"([45]).
لقد تعرض نيتشه لحالة شديدة من ضعف البصر، "الذي أقعده عن تأليف الكتب واكتفى بكتابة الحكم الاخلاقية، وجمع هذه الحِكَم والمبادئ في كتابين أولهما تحت عنوان "ما فوق الخير والشر" عام (1886) وثانيهما "تاريخ تسلسل الاخلاق" عام (1887) وكان يرجو في هذين الكتابين تدمير الاخلاق القديمة، وتمهيد الطريق لأخلاق الإنسان الأعلى، إذ أن نيتشه رأى أن هناك تقديران متناقضان للسلوك الانساني، أو وجهتان للنظر في الأخلاق: أخلاق السادة، وأخلاق الطبقات العامة"([46]).
"ترك نيتشه مخطوطات ومذكرات عديدة غير منشورة عند موته، وبعد وفاته حررت أخته إليزابث فورستر نيتشه ونشرت تلك المخطوطات، وكانت إليزابث معادية للسامية، وفي ما بعد أصبحت نازية، فخلقت بشكل كبير الأسطورة التي تقول بأن نيتشه كان معادياً للسامية ومؤسساً للنازية وذلك عن طريق تزويرها لأعماله.
ولكن –كما يقول سامي خشبة- على الرغم مما قيل عن تبني النازيين الألمان لأفكاره، خاصة فكرة: "الإنسان الاسمى، أو السوبرمان" التي فسروها بطريقتهم، فالحقيقة أنه آدان العداء للسامية، رغم ازدرائه لدور اليهود في التاريخ (كتاب: عدو المسيح 1895) وأدان التعصب القومي الألماني (كتاب: حالة فاجنر 1877) والعنصرية القائمة على العرق ( كتاب: إرادة القوة، نشر بعد موته عام 1909"([47]).
أخيراً، نشير إلى أن شهرة نيتشه فلسفيا –كما يضيف سامي خشبة- "تقوم على عدة محاور؛ أولها كان هو قوله بوحدة الإنسان في الكون وحاجته رغم ذلك إلى الميتافيزيقا (في اهم كتبه: هكذا تكلم زرادشت – 1883 – 1894) وفكرته عن تغلب عوامل التحليل اللاعقلية أو المنسوبة إلى الاله الوثنى ديونيزيوس (رمز المجون واللاوعي والخمر والنزعة الشبقية عند الاغريق) في الثقافة الغربية وتاريخها الاجتماعي على النزعة العقلانية والفنية الراقية المنسوبة إلى ابوللو (رمز الشمس والتفكير الواعي والقانون والفنون عند الاغريق أيضاً) وذلك في كتابه : "مولد التراجيديا" ثم : "روح الموسيقى" عام 1872 وقوله بالتالي إن نوعية الحياة التي تطورت في الغرب وثقافته وتكوينه الاجتماعي هي نوعية هابطة سيطرت فيها خلطه مسمومة من أخلاقيات الضعفاء ودهائهم وفسادهم دون ميتافيزيقا حقيقية إضافة إلى النزعة الشبقية أو الحسية دون سيطرة حقيقية على الطبيعة (أي الجسد) اختلطت بها أنواع من الحرية الشكلية التي تخفى عبودية فعلية للقيم المادية، ولا عقلانية خالية من القدرة على الحدس ولا على التخيل، ورأى أن كل ذلك أدى إلى نوع من "العدمية" أو عدم الايمان بشئ مما يعني أن الحضارة الغربية وصلت إلى مشارف أزمة طاحنة (يقول مؤرخو الثقافة الغربية ان نيتشه تنبأ تقريباً بالازمة التي نشبت عام 1914 وأدت إلى الحرب العالمية الأولى وانهيار كبرى الامبراطوريات الاوروبية القديمة وانفجار الثورات السياسية والاجتماعية وما صاحبها من تغيرات فكرية وفنية جذرية)"([48]).
"بدأ تأثير نيتشه في الفكر الغربي المعاصر منذ بدايات القرن العشرين، حين أخذ عنه فيتجنشتاين– ثم الفلاسفة التحليليين الوضعيين، فكرة أن الفلسفة ينبغي أن تركز على تحليل اللغة ونقدها لتخليصها من الكلمات الفارغة من المعنى ومن المعاني غير الدالة على حقائق .. إلخ.
كما أولع بنيتشه عدد كبير من كبار مفكرو وفنانى وأدباء الغرب: من توماس مان وأندريه جيد وأندريه مالرو في الادب إلى ييتس وموير وريلكة في الشعر إلى هربرت ريد في التحليل الاجتماعي / الجمالي للفن وتاريخ الثقافة إلى جلاديس وألفريد أدلر في علم النفس وإلى ميشيل فوكو ودولوز وكلوسوفسكي في النقد والتأريخ للثقافة الحديثة"([49]).
في هذا السياق، يقول د. هشام غصيب: "نيتشه لم يكن ثورياً بمعنى ماركس أو داروين أو آينشتاين، لكنه اتسم بقحة فكرية قَلَّ نظيرها، وتجعل منه مثالا لفلسفة الحداثة بامتياز، ولكن بالنظر إلى قحته الفكرية غير المسبوقة ومنسوبه النقدي العالي وسعيه الدؤوب للغوص في أعماق الأعماق وتفكيك الأسس والمسلمات والأصول النهائية، فقد كان فيلسوفا بامتياز، لكنه لم يكن مجرد فيلسوف، وإنما كان أيضاً عالم نفس بمعنى من المعاني، وشاعراً متميزاً، وناثراً نادراً باللغة الألمانية، وموسيقاراً"([50]).
نقد فلسفة نيتشه :
تشكل آراء نيتشه الفلسفية، وتعاليمه الأخلاقية، ونظرياته السياسية "وحدة لا تنفصم، فقد انطلق نيتشه من تلك الأفكار الفلسفية والاجتماعية، التي بدأ يعبق بها جو عصر ما قبل الامبريالية، ومضى بها حتى نهايتها المنطقية المتطرفة، ولذا قوبلت آراؤه أحياناً، من قبل معاصريه، الذين كانوا لا يزالون يحتفظون بوفاء شكلي للتقاليد الليبرالية والعلمية، بفتور ظاهري، بل وتبرأوا منها، بالرغم من أنها لم تكن سوى خلاصة لآرائهم نفسها، لكن الشهرة والمجد سرعان ما أحاطا بنيتشه مع حلول عصر الامبريالية، فمن الآن وصاعدا ستلقى أفكاره قبولاً، وتبجيلاً لدى العديد من الفلاسفة البرجوازيين، من جيمس إلى شيلر، ومن اسبنجلر إلى هايدجر، وكثيرين غيرهم. كذلك غدت فلسفة نيتشه أحد أهم المصادر النظرية للإيديولوجية الفاشية، التي تبنت آراءها الرئيسية"([51]).
"ينطلق نيتشه من الاعتراف بأن حضارة أوروبا المعاصرة تسير إلى الهاوية، "إن حضارتنا الأوروبية كلها ... يبدو وكأنها تمضي لملاقاة الكارثة"، أما أعراض هذا الانحطاط فيراها نيتشه في الضعف العام، الذي انتاب الحياة الروحية، في انتشار التشاؤم والولع بالأفكار الانحطاطية، وفقدان الثقة بالقيم الروحية المقدسة سابقاً، أو –بكلمة واحدة- في العدمية Nihilism، التي غدت راية العصر"([52]).
فقد "زَعَمَ نيتشه أن هناك عِرْق السادة، المدعو لأن يامر وينهي، وعِرْق العبيد، الذي ينبغي عليه الخضوع للسادة، وأن المجتمع كان، وسيبقى إلى الأبد، موزعاً بين فئة أرستقراطية مسيطرة، وبين جماهير العبيد المحرومين من أية حقوق، إنه يطالب بإعادة العبودية والتقسيم المراتبيHerarchy للمجتمع، وتنشئة فئة جديدة من السادة، وتعزيز إرادة القوة عندهم، ولكي يحقق هؤلاء سيادتهم يجب أن يتم التخلي نهائياً عن الأخلاق المسيحية، "أخلاق العبيد"، وسيطرة " أخلاق السادة"، التي لا تعرف شفقة ولا رحمة، وتبيح للقوي بان يفعل ما يشاء، ولتحقيق هذا المثال الاجتماعي ينيط نيتشه دوراً كبيراً بالحروب، التي يرى فيها رسالة عرق السادة، وأحد شروط سيادته، كما ويعقد الآمال الكبيرة على تعزز النزعة العسكرية، ويتنبأ، بحفاوة، بان "المائة السنة القادمة ستحمل معها صراعاً قاسياً من أجل السيطجرة على الأرض"، وأنه "ستأتي حروب لم تشهد لها البشرية مثيلاً من قبل"([53]).
يجسد نيتشه مثال فئة السادة في "الانسان الأعلى" (السوبرمان) وذلك في مؤلفه "هكذا تكلم زرادشت"، ويحيط نيتشه هذا "السوبرمان" بهالة شاعرية أسطورية، ويسبغ عليه الفضائل والكمالات السامية.
هذه الأفكار تشكل لب مذهب نيتشه كله، الارادية، والاعتقاد بوهمية وبطلان كافة التصورات العلمية والاخلاقية، وإرادة القوة التي لا يكبح جماحها – تلك هي الأسس، التي يقيم عليها نيتشه فلسفته، فلسفة ترى أن "كل شيء باطل! كل شيء مباح!"([54]).
في تعليقه النقدي على فلسفة نيتشه، يقول "ول ديورانت": "جاءت فلسفة فريدريك نيتشه مفعمة بالتناقض وعدم الاتساق، لكنها – برغم تفككها المنطقي- تشكل وحدة تامة من حيث الروح والنزعة والهدف، كذلك جاءت فلسفته مشبعة بالهلع والذعر أمام الاشتراكية الصاعدة، وبالحقد القاتل على الجماهير الشعبية، وبالرغبة في إبعاد الخطر المحدق بالنظام البرجوازي مهما كلف الثمن.
إن نيتشه -كما يضيف ديورانت- يتطلع إلى التخلص من هذه العدمية، واحلال نزعة التفاؤل محلها، لكن التشاؤمية والعدمية، التي سيطرت على قسم كبير من المثقفين البرجوازيين في أواخر القرن التاسع عشر، كانت تعبيراً عن انهيار الآمال في تطور منسجم وهادئ للمجتمع الرأسمالي، كذلك كانت الآمال الجديدة، التي ظهرت مع بوادر عصر الامبريالية، آمالاً خداعة، لم تفلح في استعادة الثقة، ولذا فإن فلسفة نيتشه، التي كانت محاولة للخروج من هذا الانهيار المعنوي، ولإعادة الثقة إلى نفوس أفراد الطبقة السائدة، جاءت، هي الأخرى، انعكاساً لهذا الانهيار، ومن ثم أفسحت الطريق أمام الأفكار العنصرية، الفاشية والنازية للاستفادة من أفكار نيتشه أو تحريفها.
وفي كل الأحوال، فإن الحقيقة "تظل هي أن نيتشه أَثَّر في الفاشية بطرق متنوعة، وربما أساءت الفاشية استخدام كلمات نيتشه، بيد أنه يسهل إساءة استخدام كلماته على نحو لا مثيل له، فقد كان نيتشه متطرفاً، ولم يكن هناك أي شخص أكثر موهبة منه في تقديم رؤية متطرفة تبدو جذابة بتقديمها ببلاغة وجراءة.
كما إن الإنسان الذي ينصح الناس بأن يعيشوا على نحو خطر، لابد أن يتوقع أن يوجد أشخاص خطرون مثل موسوليني؛ لأن الشخص الذي يعلم أن حرباً جيدة تبرر أي قضية، لابد أن يتوقع سوء استخدام هذه التعاليم التي يقدم نصفها على سبيل المزاج، ولكن نصفها فقط على سبيل المزاج.
ويثني نيتشه على القسوة، ويزدري الشفقة، دون ان يفكر، بصورة كافية، فيما إذا كان لابد ان ينصح الإنسان، بالفعل، بان يكون أكثر قسوة مما هو عليه، أو ما هو الأكثر الذي يكون لوجهة النظر هذه على الأشخاص الذين يتصفون بالقسوة"([55]).
أخيراً أوافق الصديق المفكر هشام غصيب في قوله "إن من الأخطاء الشائعة في الأوساط الثقافية العربية أن نيتشه هو فيلسوف التشاؤم والعدمية بامتياز، لكنه في الواقع كان عكس ذلك تماماً، إذ كان فيلسوف الإحتفاء بالحياة والقوة بامتياز، أما فيلسوف التشاؤم المطلق، فكان آرتور شوبنهاور، وقد غرق نيتشه في مطلع شبابه في أعماق تشاؤمية شوبنهاور والموسيقار فاغنر، ودفعه ذلك إلى العدمية الانتحارية، لكن نيتشه – كما يستطرد د.هشام- "سرعان ما استجمع قواه الذاتية وتمرد على شوبنهاور وفاغنر وَطَّوَر فلسفة جديدة كانت بمثابة النقيض لفلسفة شوبنهاور وموسيقى فاغنر، وهي فلسفة تُعْلي من شأن الحياة والغرائز والقوة والألم واللحظة العابرة، والأهم من ذلك أن نيتشه كان مُحَطِّم المُثُل العليا والأخلاق الرائجة، وكان أبعد ما يكون عن الصورة المثالية الرومانسية، التي حاول جُل المفكرين العرب أن يلصقوها به".
مرض نيتشه وموته:
عام 1879 اصيب نيتشه وهو في زهرة عمره بمرض جسدي وأوشك على الموت، وأخذ يعد نفسه للنهاية بطريقة تنطوي على التحدي، فقال لاخته: "عديني إذا مت أن لا يقف حول جثماني إلا الاصدقاء، وأن لا يدخل الفضوليون من الناس، ولا تَدَعي قسيساً ينطق بالأباطيل والأكاذيب على قبري في وقت لا استطيع فيه الدفاع عن نفسي، أريد ان أُدفَن في قبري وثنياً شريفاً، ولكنه استعاد صحته وشفى من مرضه، ونهض من فراش المرض محباً للصحة والشمس والحياة والضحك والرقص وموسيقى الجنوب، كما خرج من المرض بإرادة أقوى بعد ان كافح الموت وانتصر عليه، وتمكن بعد ذلك من إصدار كتابين هما: "فجر اليوم" في عام 1881 و"الحكمة الفرحة" في عام 1882، وامتاز أسلوبه في هذين الكتابين برقة ووداعة مختلفة عن الكتب التي اصدرها بعد ذلك.
امامه الان فرصة زمنية يتمتع فيها ببهجة الحياة في هدوء، "ويعيش على معاش تقدمه له الجامعة، ووجَدَ نفسه يقع في الحب فجأة، ولكن من أحبها (زوجة فاجتر) لم تبادله الحب، وهنا انطلق نيتشه هائماً على وجهه من مكان إلى مكان، في حالة من اليأس الشديد، يرسل الحكمة تلو الحكمة ضد النساء أينما سار وأينما حل. والحقيقة انه كان ساذجاً بسيطاً، ومتحمساً خيالياً، لطيفاً ورقيقاً إلى حد البساطة، انه الآن لا يجد الوحدة والعزلة التي يريدها، اذ من الصعب عليه ان يعيش مع الناس، لان الصمت امر عسير، فانتقل من ايطاليا إلى قمم جبال الالب، لا يحمل في قلبه حباً لاحد من الرجال أو النساء، وراح يُصَلِّي من أجل تَفُوُّق الإنسان وبعث الإنسان الكامل الاعلى"([56]).
"وبعد انهيار عقله بدت العصبية جَلِيَّة حتى في ضحكه، ولا شيء يصور لنا مدى ما وصلت إليه حالته أكثر من قوله. "ربما اعلم اكثر من غيري السبب في ان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، لانه وحده الذي يتألم أشد الالم الذي اجبره على اختراع الضحك، لقد أثَّرَ مرضه وضعف بصره الذي أوشك ان يقترب به من العمى على انهيار عقله، واخذت تطارده أوهام العظمة والاضطهاد"([57]).
نزلت به الضربة الاخيرة في تورين في شهر يناير من عام 1889، لقد كانت ضربة الجنون، وراح يتعثر في غرفته، واخذ يكتب رسائل بدأ فيها الجنون واضحاً، فارسلوه إلى المارستان، ولكن سرعان ما جاءت أمه العجوز لتأخذه معها ليعيش تحت عنايتها، وبقي معها إلى أن توفيت واخذته اخته ليعيش معها في فيمار.
وفي تلك المرحلة من حياته -كما يقول د.فؤاد زكريا- "لم يَقْوَ عقله على المُضِي في طريقه، فإذا بأعراض الجنون الحقيقية تظهر عليه. ففي ديسمبر سنة 1888 وصلت منه إلى أصدقائه خطابات بإمضاء "نيتشه – قيصر"، وتلقت كوزيما، زوجة فاجنر، خطاباً منه يقول فيه "أريان – إنني احبك –ديونيزوس". وقضى نيتشه ما يقرب من اثنى عشر عاماً في فيمار بعيداً كل البعد عن عالم العقلاء، إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900"([58]).
ومن الظواهر المؤسفة -كما يضيف د. فؤاد زكريا-"أن جنون نيتشه الأخير قد استُغِل أسوأ استغلال، فذهب بعض الكتاب إلى أن مؤلفاته كلها تتسم بطابع الجنون، وأن اللوثة العقلية تظهر فيها كلها – بدرجات مختلفة- منذ البداية، لكن البحث الموضوعي الدقيق لكتابات نيتشه لا يؤدي إلى أي تأييد لهذا الادعاء الباطل. وكل ما في الأمر هو أن خصائصه النفسية، التي كانت تنعكس بوضوح على كتاباته، كانت ذات طابع فريد – ومَن مِن كبار الكتاب أو الفنانين لم يكن له طابع نفسي فريد؟، فالعزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعاً من الترفع والتعالي، غير أن هذا كله ليس جنوناً على الإطلاق، وما هو إلا تعبير عن النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نمط مألوف بين العقلاء، بل بين الكثيرين من أعمق العقلاء تفكيراً"([59]).
والحق -كما يستطرد د. زكريا- "أن المرض بوجه عام كان يؤثر دائماً في نيتشه تأثيراً عكسياً، أعنى أنه كلما اشتدت عليه وطأة المرض، كان يدعو إلى إنسانية سليمة صحيحة، وكانت نغمة الصحة والقوة تزداد وضوحاً في كتاباته، قد يكون هذا تعويضاً، ولكنه لا يؤثر مطلقاً في قوة الدعوة وروعة الهدف ذاته، ذلك إن نيتشه في نهاية فترة تفكيره الواعي، كان قد وصل في تفكيره إلى حد لا يستطيع أن يمضي بعده خطوة واحدة: فهو قد حلل نفسه، وحياته، تحليلاً عميقاً، ولخصها كلها في كتبه الأخيرة. وهو قد وصل في تفكيره إلى النقطة التي لا يكاد المرء يتصور بعدها مزيداً بالنسبة إليه: فهو يقف الآن ضد المسيح، وهو يمثل الدعوة الإيجابية إلى الحياة في مقابل الدعوة السلبية إلى التخلي عن الحياة، وحين تصل المشاكل الفكرية – أعني عناصر حياته- إلى نقطة التوتر هذه، يكون الانفجار أمراً محتوماً – وهكذا كان الجنون. ولسنا ندعي أن هذا التفسير هو وحده الصحيح، أو أنه يعلل كل الوقائع ولكنه لا يبدو مستحيلاً إذا فهمت حياة نيتشه على النحو الصحيح: حياة لا قوام فيها إلا للمشاكل الفكرية، ولا يستطيع أن يرتفع بها شيء أو يهبط بها شيء ما عدا الأفكار"([60]).
بعد وفاته "صنع له "كرامر" تمثالاً رقيقاً ظهر فيه ذلك العقل الجبار الذي امتاز به سابقاً ضعيفاً محطماً، ومع ذلك فإن المرحلة الاخيرة من حياته لم تكن كلها شقاء، فقد طبع السلام والهدوء الذي حرم منه دائماً حياته الآن، فقد رحمته الطبيعة بعد ان ألقته مجنوناً، وفي مرة لمح اخته تبكي وهي تنظر إليه ولم يستطع ان يفهم السبب في دموعها وسألها "لماذا تبكين يا اليزابيت؟ هل انت حزينة؟ وفي مرة سمعها تتحدث عن الكتب فأضاء وجهه الشاحب وقال، في تألق وبهجة، "آه ! لقد كتبت انا أيضاً كتباً حسنة" ومرت لحظة التألق، يبدو أننا لا نجد عبقرياً دفع ثمناً غالياً لعبقريته ما دفعه نيتشه"([61]).
قالوا عنه([62]):
·     "أنت الكسب الوحيد الذي عادت به الحياة عليَّ، وقد قرأتك من جديد واقسم لك أمام الله إنك الوحيد الذي يعرف ماذا أريد". (ريتشارد فاغنر) (رسالة إلى نيتشه عام 1872).
·     "كان نيتشه يغار من المسيح، يغار إلى حد الجنون.. يعود إلى نيتشه وحده أن يعيد اكتشاف مسيح حقيقي وأن يبعثه من جديد من كفنه.(اندريه جيد).
·     "هذا هو نيتشه وإنسانه الأعلى، الذي هو قوة متكبرة يسوقها هذيانها المتعجرف إلى القول بعبودية الجنس البشري وهوانه، لصالح من؟ لصالح الإنسان الأعلى، الذي هو .. مجنون بائس يصرخ ويستهل بين أيدي الممرضين" (اندريه سواريس).
·     "أرجح الظن أن نيتشه لم يعرف صفة مرضه، لكنه كان مدركاً تماماً لما هو مدين له به.. فمن خاصة هذا المرض أن يستحدث ثَمِلاً تنداح فيه أمواج من السعادة والقدرة وتنشي فيه قوى الحياة ذاتياً، قبل أن يغرق ضحيته في الليل العقلي ويقتله يمحضه تجارب وهمية من القدرة واليسر والوحي والاشراق.. ويقتاده إلى اعتبار نفسه أداة الإله ووعاء النعمة بل إلهاً متجسداً". (توماس مان).
·     "من الممكن أن نجد لدى نيتشه بصدد كل حكم نقيضه، فلكأن له في الأشياء طُراً رأيين، وقد أمكن لمعظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون والفرديون، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون واللاسياسيون، أحرار الفكر والمتعصبون" (كارل ياسبرز)
·     "مع نيتشه تغدو العدمية نبوية، وفيه تصير لأول مرة واعية ، وقد تفحصها وكأنها واقعة سريرية، وقد شَخَّصَ في نفسه ولدى الآخرين عجزاً عن الاعتقاد وزوال الأساس الأول لكل ايمان، أي الاعتقاد بالحياة، وبدلاً من الشك المنهجي، مارس النفي المنهجي والتدمير النظامي لكل ما يحجب العدمية عن نفسها. "ومن يشاء أن يكون خالقاً، سواء أفي الخير أم في الشر، فعليه أولاً أن يكون هداماً وأن يحطم القيم". (البير كامو).
·     "اعترض نيتشه على المسيحية لأنها هي السبب لما أسماه "أخلاق العبيد" وعنده أن المسحيية منحلة ومفعمة بالعناصر المُفْسِدة العفنة .. ومُنْكِرة لقيمة الكبرياء والاختلاف والمسؤولية العظمى والنزعة الحيوانية، الرائعة وغرائز الحرب وتأليه العاطفة والثأر والغضب والشهوانية والمغامرة والمعرفة، وكلها عناصر خير تقول عنها المسيحية إنها شر". (برتراند راسل).
·     "نيتشه مؤسس اللاعقلانية في المرحلة الامبريالية.. وربما كان، في تحليله السيكولوجي للحضارة وأفكاره الجمالية والأخلاقية، الممثل الأكثر موهبة والأغنى بالتلاوين لوعي المشكلة المركزية والظاهرة الأساسية لتاريخ بورجوازية عصره: الانحطاط ". (جورج لوكاتش).
 


([1]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص504
([2]) المرجع نفسه  –ص 508
([3]) المرجع نفسه - ص509
([4]) المرجع نفسه - ص511
([5]) د. فؤاد زكريا - نوابغ الفكر الغربي "نيتشه" – الطبعة الثانية – دار المعارف -  1966 – ص47
([6]) المرجع نفسه - ص 44
([7]) هاشم صالح – عندما يرثي نيتشه نفسه – موقع: الأوان – 8 ديسمبر 2013.
([8]) المرجع نفسه
([9]) المرجع نفسه
([10]) يوسف حسين – محاضرة في اليوتيوب – الانترنت.
([11]) المرجع نفسه.
([12]) نيتشه هو الذي عرف العدمية على أنها "الحال التي يغدو فيها كل شيء مباحاً.
([13]) غنارسكيربك و نلز غيلجي- مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي  - ص  733
([14])Procrustes  : كان لصاً يونانياً يمط أرجل ضحاياه أو يقطعها ليجعل طولهم منسجماً مع سريره. ومغزى التشبيه هو إحداث التناسب أو التجانس بوسائل عنفية أو اعتباطية من دون أي اعتبار للفروق الفردية والظروف الخاصة.
([15]) غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص  746
([16]) المرجع نفسه - ص  747
([17]) المرجع نفسه -  748-749
([18]) يوسف حسين – مرجع سبق ذكره .
([19]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة - ص519
([20]) المرجع نفسه - ص520
([21])المرجع نفسه - ص522
([22])المرجع نفسه - ص523
([23])المرجع نفسه - ص524
([24])غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 737
([25]) المرجع نفسه - ص 739
([26]) المرجع نفسه - ص 741
([27])ول ديورانت–  مرجع سبق ذكره -  قصة الفلسفة - ص526
([28])المرجع نفسه - ص526
([29])المرجع نفسه - ص527 / 528
([30])المرجع نفسه - ص529
([31]) السيد ولد أباه – التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو – دار المنتخب العربي – الطبعة الأولى – 1994 – ص 59
([32])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص532
([33])المرجع نفسه - ص533
([34])المرجع نفسه - ص534
([35])المرجع نفسه - ص505
([36])المرجع نفسه - ص506
([37])المرجع نفسه - ص541
([38])المرجع نفسه - ص536
([39])المرجع نفسه - ص537/538
([40])المرجع نفسه - ص544
([41])المرجع نفسه - ص545
([42])المرجع نفسه - ص546-547
([43])المرجع نفسه - ص542
([44])المرجع نفسه - ص538
([45])المرجع نفسه - ص539
([46]) المرجع نفسه -  ص525
([47]) سامى خشبة – مفكرون من عصرنا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة - 2008– ص 877-878
([48]) المرجع نفسه - ص 877
([49]) المرجع نفسه– ص 878
([50]) هشام غصيب – ملاحظات حول فلسفة نيتشه – الحوار المتمدن – العدد 3904- 7/11/2012
([51])  جماعة من الأساتذة السوفيات –  مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة – ص 749
([52]) المرجع نفسه – ص 744
([53]) المرجع نفسه - ص 745
([54]) المرجع نفسه - ص 748
([55]) دانهوزر – مقال بعنوان: نيتشه - تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين) – تحرير: ليوشتراوسوجوزيفكروبسى– ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – الجزء الثاني - 2005 – ص 530
([56]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة – ص516 / 518
([57]) المرجع نفسه - ص552
([58]) د. فؤاد زكريا - نوابغ الفكر الغربي " نيتشه " – الطبعة الثانية – دار المعارف -  1966 – ص23
([59]) المرجع نفسه –ص23.
([60]) المرجع نفسه – ص25.
([61])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص553
([62])  جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 679 - -680








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف