الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أيام الحصار … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 2 / 2
الادب والفن


صعدت الشمس الى منتصف السماء ، الجو حار خانق ، رجل شاحب هزيل تبدو تفاحة آدم في عنقه بارزة ، مشدود الجلد ، داكن البشرة من أثر الشمس .. يخيم عليه وجوم غريب ، ولمسة حادة من الاسى .. ملابسه رثة ، تبدو عليه سمات الجوع ، والبؤس .. محملاً باثقال خفية .. يتطلع في عقل شارد الى حافة الافق ، بقلب حزين ، وبعينين اشد حزناً ، متعب وناقم وغاضب .. يجلس على حافة النهر الممدد امامه ، ويترك ساقيه تتدلى بلامبالاة .. يسمع وشيشه الهادئ ، ويشم رائحته ، يبدو النهر ذلك اليوم شديد الدعة ، تداخلت رطوبة المكان في عظامه ، وزادت من اختناقه ، يمد يد معروقة في جيبه ، ويتناول زجاجة صغيرة معبأة بخمر من النوع الردئ ، يأخذ جرعة صغيرة ، يتبعها بأخرى ، ثم يخرج من جيبه كيساً صغيراً فيه ملح .. يبلل طرف اصبعه بلسانه ، ثم يغمسه في الملح ، ويمص اصبعه ليطرد المذاق المر .. يرفع يده الى الاعلى ، ويقرِّب الزجاجة الى عيونه الغائمة ، ويلقي نظرة على السائل السحري في احشائها .. الذي أخذ يتناقص مع تناقص وعيه … يمر الوقت عليه بطيئاً ثقيلا ، وهو مستغرق في تفكير عميق !
تنازل عن كل شئ في حياته حتى اصبح يعيش حياة الزهاد رغماً عنه كي يوفر ما يسد الرمق ، وشئ من هذا الخمر الرخيص الذي حاول اكثر من مرة ان يتركه ، كيف يترك من ينتشله سويعات من عذاب هذه الدنيا .. هذه الاكذوبة .. الى نعيم الوهم والخيال ؟ يمسح حبات العرق المتصببة من جبهته التي زادها المشروب سخونة بخرقة وسخة ينتزعها من جيبه ..
تستيقظ في داخله كل الذكريات المريرة والمؤلمة ، يغمض عينيه ، ويرحل بعيدا عبر بحور ومحيطات ، ذكريات غارقة .. رغبات مكبوتة ، وعمر لم يبقى منه الا فتات لا قيمة لها ، يبدو اكبر من عمره بسنين رغم انه في عقده الرابع .. حياة سحقتها المعاناة وحولتها الى تراب تافه !
هامات منحنية ، مطأطأة ، عاجزة ، واصوات متوسلة ، وانات شاكية ! هكذا كان الناس ايام الحصار الذي بات ينشب اظفاره في لحمهم العاري ، وأمات قلوبهم جميعا .. ما افظعه ! أصبح الراتب لا قيمة له .. وجوده والعدم سواء ، كله على بعضة يعجز عن تدبير البيت بالكاد اسبوع رغم محاولاته ، ومحاولات زوجته ، واطفاله ان يمطوا فيه ، ويطولوا في عمره .. تنازلوا عن كل شئ الا ما يسد الرمق ، ويبقي الاود من فتات مهما كان .. ليس لهم فيه حتى خيار التذوق .. قوت لا يموت … يحتاجون الى اكثر من معجزة حتى ينتهي الشهر لتبدء المعاناة من جديد مع شهر جديد آخر .. دورة عنكبوتية ملعونة لها بداية ، وليس لها نهاية !
تحولت كل الضروريات الى كماليات يمكن الاستغناء عنها تحت وطأة الجوع الذي لا يرحم .. كومة من الثياب المهلهلة ترقّع ، ويعاد تدويرها حتى الرمق الاخير ، وتورث من الكبير الى الصغير مع قليل من التعديل ، وعندما يلبسها صاحبها يبدو كمهرج في سيرك ، يرتدي ما ليس له .. الاحذية لم يعد لها لزوم ، تُستبدل بالنعل لانها ارخص .. المواصلات هي الاخرى اصبحت ترفاً لا يستخدمها الا القلة من الاوغاد المنتفعين من المأساة ، والمتاجرين بها !
يزفر انفاسه الماً ، وغضباً ، يتناول ثلاث رشفات متتابعة . يتذكر كيف كان يذوب في تلك المجاميع من البشر التي كانت تتحرك كأنها كتلة من الظلام تتدافع من اجل خبز مصنوع من خلطة غريبة من الذرة ، ونشارة الخشب ، وقليل من الطحين العفن ، والغير صالح للاستهلاك الادمي … كانت أيام لا يمر فيها الزمن .. حولت الناس الى نوع من الموتى بسبب جرثومة مؤذية ، ومميتة عجز الكل عن اقتلاعها !!
يبدء مفعول الخمرة بالعمل ، وهو ما كان ينتظره ، ولكن ليس بأحر من الجمر ، فهو ليس في عجلة من امره ، فالنهاية قادمة قادمة ، خطط لها ، واستقر رأيه على تنفيذها ، فلم يعد بالامكان التراجع ، ولم التراجع ؟ هل يوجد ما يأسف عليه في هذه الدنيا ؟ هذا الوهم البراق .. ! امسك بحجر ، وقذف به بعنف في وجه النهر ، وكأنه يصوبه في وجه الدنيا كلها ، ليفرغ شحنة الغضب التي تملكته فجأةً .. تبدء طاقته بالتلاشي تدريجياً وتتراخى قبضته على كل شئ ، ولم يبقى لديه غير قدرةْ حركة واحدة وفرها للنهاية .. !!
اولاده عبودي وكرومي يغسلون سيارات على قارعة الطريق في حالة انتظار وترقب دائمين .. بين كل حين ومين يأتي بطران ليغسل سيارته ، يقف على جنب واضعاً يده على وسطه ، وهو يراقبهم كيف يهينون ، ويمتهنون طفولتهم من اجل دنانير تبقيهم ، واسرتهم احياء ، وابنته الغالية فطومة التي تخدم في بيت احدى الرفيقات ، فتاة صغيرة دُفعت قسرا الى العمل .. في الصباح تلتصق بأمها مثل قطة تلتمس الدفء .. ترفض الذهاب .. الله وحده يعلم كيف كانوا يعاملونها ، وتحت اي عذاب كانت تعيش .. وزوجته التي تجرأت الكهولة المبكرة على جسدها الغض ، وهي في عز شبابها .. وتكالبت عليها الامراض !
يعصره الالم على زوجته المسكينة ، واطفاله الذين تشكل مصيرهم دون خيار منهم في هذا البلد الخالي من الأحلام ، والملئ بالانذال .. يتذكر كيف طلبت منه هذا الصباح ان يشتري كيلو سكر لان الذي عندهم قد نفذ ، يجيبها : لحين عودتي ان كانت لي عودة .. لم تفهم المسكينة .. يبتسم في مرارة !
غابت الشمس مؤقتاً وراء سحابة راحلة ، يرى جمع من العصافير تتقافز قريبة منه غير مبالية لوجوده ، وكأنه لم يعد له وجود حقيقي ، يرمي آخر فتات من الخبز لديه ، تتزاحم عليه الطيور ، وتتقارب رؤوسها كأنها تتهامس .. تدمع عيونه .. لم يعد قادراً حتى على البكاء ، وهو يتذكر اطفاله ، وصورة ابنته جوهرته الغالية .. آخر صورة تمر في خياله ، ثم تسمع صوت شئ يسقط في النهر .. يهتف طفل في ذعر : سقط رجل في النهر ، سقط رجل في النهر .. ! لا احد يبالي ، ولا احد يهتم .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد