الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمريكا الريف وأمريكا المدينة, وبينهما كانت المنازلة.

جعفر المظفر

2021 / 2 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


حينما يُطلب من أحدهم أن يعطي وصفا سريعا للحالة الأمريكية المعاصرة فقد يقول لك أنها أزمة بين يمين ويسار, أو أزمة بين تيارات محافظة وتيارات ليبرالية, أو بين تيارات تقدمية إنسانية وأخرى عنصرية, أو بين جمهوريين مثلّهُم ترامب وديمقراطين مثلهم بايدن, فيظن البعض أنه أمام إنقسام عمودي بين فريقين كلٌ منهما يعيش همه الخاص ويسعى لتحقيق هدفه المختلف, وهذا الأمر قد يكون صحيحا, لكن محاولة التأسيس عليه لتجميع نظرية إستراتيجية هو أمر فيه من الخطأ أكبر بكثير مما فيه من الصحة خاصة وأن المجتمع الأمريكي وعلى خلاف المجتمعات الأوروبية هو مجتمع ما زال تحت التكوين وسيظل تحت التكوين إلى أمد مفتوح, بل لعل سر تفوقه إنه ما زال تحت التكوين لأن مُسْتَحدَثَه أكبر من موروثِه, فهو دائم الحركة, دائم التغيير, دائم الإبتكار, دائم الإنتاج, وحينما يُنهي هذا المجتمع تكوينه ويكون الموروث فيه أكبر من المُسْتحدث فهو سيشهد بداية توقفه ولا أقول بداية إنهياره.
إن التحولات المتسارعة قد غيرت معادلات المكان والزمان والجغرافيا وخلقت وسطا منفتحا على ثقافات متعددة جاذبة تسعى لتشكيل إنسان كوني بمواصفات خاصة بعصر آتْ.
ان أمريكا, ربما, ستتفكك حينما تكف عن الحركة, وربما ستتخلف حينما يصير موروثها أقوى من مُسْتَحدثها, لكنها حتما ستتراجع حينما تنسحب من عصر بيل جيت السايببري لتعود إلى عصر ترامب العقاري, وستنهار حينما تنكمش على ذاتها وتترك العالم مفتوحا لإستقبال أقطاب آخرين يملئون الفراغ الذي تتركه , وهذا ما أراد ترامب أن يفعله ظنا منه أن بإمكان نجاحه في مرحلة سابقة أن يمتد لكي يغطي كل المراحل القادمة بذات الشروط وذات الإمكانات و بنفس عوامل النجاح.
لعل من ضمن المسلمات التي يجب تشخيصها في المشهد الأمريكي أن حالة التناقضات والمواجهات الإجتماعية والفكرية سوف تبقى مستمرة. المجتمعات الأوروبية أقدم من المجتمع الأمريكي بمرات متعددة لذلك إستطاعت هذه المجتمعات إرساء قيم وتقاليد أصبح الموروث منها مستقرا وذا مقامٍ متقدمٍ في تشكيل المشهد الآني. أما المجتمع الأمريكي الحديث الولادة فلم يتشكل موروثه الإجتماعي والفكري ليكون له عامل الحسم على تشكيل المشهد الحياتي. إن تأثير المُسْتحدَث في المجتمع الأمريكي يتفوق كثيرا على تأثير الموروث, وإن أول ما نبتدئ به من مفترقات وإختلافات أن هذا المجتمع الأمريكي هو مجتمع مهاجرين. وعلى عكس الغرب فإن كثيرا من المهاجرين إلى أمريكا هم من أصحاب الكفاءات.
هنا يمكن أن نضع يدنا على لب المشكلة, ومن خلال هذا التوصيف يمكننا أن نعثر على مفتاح الدخول.
في مدن الحقول الكبرى الممتدة بلا نهايات منظورة, حيث زراعة الكروم والذرة والطماطم والخيار وما شابه, وتربية الدجاج والخنازير والخراف والبقر وما شابه, ظل الإنسان الأمريكي الأبيض غير ذي حاجة إلى متابعة علوم الفضاء والسايبر, وربما غير مهتم على الإطلاق بوسائل التواصل الإجتماعي.
لقد ظلت همومه محصورة بزراعة الأرض وتربية الحيوانات ولم يكن إنجازه لهذا الأمر يجعله بحاجة إلى أن يكون جزءا من عملية التطور السريع الذي تشهده المدن, وظلت بعض هذه الولايات مثل ويست فرجينيا مثلا تعيش على إستخراج الفحم الحجري, لذلك فإن أصدقاء البيئة هم أعداء لها, وربما صار أكثر ما يهتم به مواطن هذه الأنحاء هو صناعة الواين والمحافظة على تراكتوره من التلف والعطب وضمان حصوله عصرا على مشروب البيرة الذي يعشقه ثم التوجه يوم الأحد إلى الكنيسة التي تكون مهمتها في العادة المحافظة على الأصول الأنجيليكانية للمجتمع الأمريكي والذي قد يلجأ ريفيوه, حتى لا تخرج أمريكا من يدهم وتكون ملكا للمهاجرين, إلى أن يتطرف في أنجيليكانيته وصولا إلى إلى الإيمان بالمسيحية الصهيونية. وهنا حدث الشرخ الأمريكي الكبير. بين مدينة تواصل التكوين وبين ريف أنجز تكوينه, وبين هذا وذاك صار هناك فرق في طريقة الحياة وفي نوعية الإعتقاد, وحين أفاقت الأرياف وجدت أن أمريكا لم تعد أمريكا الريف الذي يرفض الحركة وإنما أصبحت هي أمريكا المدن التي ترفض التوقف, وصار الصراع يدور بين مدن ريفية زراعية قد أكملت تكوينها وبين مُدن مُدنية ترفض التوقف وتستمر في التكون.
والحال أن أمريكا لم تعد تخضع لذات القوانين والنظريات التي تخضع لها أوروبا حتى تشتق نظريات وأحكام بذات المساطر وذات الفراجيل. سياقات التطور الأمريكي هي غير سياقات غيرها من المجتمعات, فإذا نويت أن تحقق إقترابا مدروسا فعليك بتشخيص الظاهرة الجاهزة للتشغيل السياسي في بلد يلجأ كل أربعة سنوات لإنتخاب رئيسه وكل سنتين لإختيار نوابه وكل ست سنوات لإختيار شيوخه, والشاطر في هذا البلد هو من يصطاد السمكة الكبيرة, وصادف أن كان ذلك الشاطر هو دونالد ترامب الذي افلح في تفعيل الصراع بين أمريكا التي أنجزت تكوينها وبين أمريكا التي ترفض التوقف عند حد. بين الأولى التي لم تعد بحاجة إلى أحد فأغلقت على نفسها الأبواب والجدران وقررت أن تنسحب من الإتفاقات والمواثيق وأن لا تتحدث مع العالم بغير لغة العقوبات حتى كأنها ألغت وجود الأمم المتحدة كما وقررت أن يدفع حلفاؤها الجزية وهم صاغرون.
تاجر العقارات إستعمل اللعبة بتطرف, إستعمل خطابه الديني المتحفظ الذي خاطب من خلاله المحافظين وجعلهم يتجمعون في كتلة صلبة واحدة لكي تمنع المدن الأمريكية المنفتحة على المهاجرين من سرقة أمريكا ! وتحت شعار (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) كان الرجل يبشر بإعادة هيمنة الخطاب العنصري الذي يستهوي أنصار أمريكا القديمة حيث ثقافة حزب الشاي الضاربة في عمقها الإنجلوساكسوني وخطاب تفوق الرجل الأبيض وثقافة الصهيونية المسيحية التي تبشر بضهور المسيح مرة ثانية بعد أن تحقق إسرائيل إنتصاراتها العظمى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد