الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب ضد العدم

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 2 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١٣ - الحرب ضد العدم
نستطيع أن نفترض بطريقة ليست بعيدة عن المنطق السليم، حتى بدون تقديم أدلة دامغة، بأن العدو الحقيقي للنظام الرأسمالي الذي أكتسح كل بقاع الدنيا، هو ظاهرة "الضجر". وربما تكون هذه الظاهرة وراء العديد من الأزمات العالمية والحروب المتعددة التي يشنها هذا النظام من حين لآخر، للقضاء على هذه الظاهرة من ناحية، فالجيوش الرأسمالية المتعددة لا بد لها من حروب على فترات زمنية متقاربة نسبيا ومدروسة لملأ وقت فراغ الجنود والجنرالات، وكذلك لإختبار والتدرب على الأسلحة الجديدة على أرض المعركة الحقيقية. ومن ناحية أخرى لإكتشاف مناجم وآبار الضجر المنشرة في العالم واستغلالها إقتصاديا وإيديولوجيا. أمريكا على سبيل المثال لا الحصر، تمكنت في السنوات الأخيرة من تحويل هذا العدو الذي حاربته داخليا بكل قوة لدرجة الإبادة، إلى حليف خارجي ضروري لتسويق صناعاتها المختلفة وفكرها الإنساني الشديد الديموقراطية. فمن منكم لم ير صورة المكسيكي المتكيء على الحائط يستمتع بالشمس مغطيا وجهه بقبعته العريضة الحواف"سومبريرو"، ومن منكم رأى أمريكيا يتثائب؟ الصورة الأولى هي صورة العدو الأمريكي الخارجي، أما الصورة الثانية فيبدو أنها صورة محرمة وخطيئة الخطايا في الدين الرأسمالي الذي تنظم طقوسه حياة المواطنين بحيت تمتليء كل دقيقة وكل ثانية بشيء ما وبطريقة ما. إن الرجل الجالس تحت شجرة يستمع إلى زقزقة العصافير أو متأملا المنظر الطبيعي أمامه في صمت، هو إنسان غير مسؤول ومذنب وعدو للمجتمع وللنظام بأكمله، إنه إنسان خطير ويمكن أن يتهم بأي تهمة قد تصل إلى إتهامه بالخيانة العظمى. ليس فقط لأسباب أيديولوجية، حيث أن هذا الإنسان يمكن أن ينزلق وعيه إلى ظاهرة أخرى أكثر خطورة مثل "التفكير" أو "الخيال"، وإن لم يكن هذا النشاط الذهني محرما رسميا إلا أنه يفضل عدم تشجيعه ومحاربته بقدر الإمكان، لكونه نشاطا غير قابل للقياس أو التسجيل أو المراقبة بدقة كافية، وإنما لأسباب إقتصادية بحثة، فهذا الإنسان يعيش خارج وحدات الزمن الإقتصادية المتعارف عليها، كما أنه لا يساهم في دفع عجلة الإقتصاد الوطني، إنه عبء على المجتمع وعلى بقية المواطنين الذين يواصلون دفع العجلة بدلا من الإستماع إلى تغريد العصافير. إن التقدم العلمي الرائع الذي ذكرناه سابقا، قادر اليوم، بالإضافة إلى صناعة الكوكا كولا والآيباد، على برمجة حياة أي فرد من بدايتها إلى نهايتها، أي الفترة الممتدة قبل ميلاده بقليل، حتى بعد أن يترك هذا العالم الأرضي. يستطيع العلم الحديث أن يقرر تاريخ ميلاد أية عينة بشرية، اليوم والساعة، ويقرر كونه ذكرا أو أنثى، وفي صحة جيدة خاليا من كل الأمراض المعروفة، ويعمل له جدولا زمنيا شديد الدقة يبرمج حياته المستقبلة يوما بيوم. فالإنسان ما يزال هو "المادة الأولية" المتوفرة مجانا في كل أنحاء الأرض، وجاهزه للإستغلال من قبل النظام الحر في كل لحظة. الإنسان آلة يجب أن لا تكف عن الدوران، إنه هو ذاته عجلة الإقتصاد التي يجب أن تستمر في التدحرج ولا تتوقف أبدا. الإنسان هو آلة الإنتاج الرئيسية، منذ السنوات الأولى يبدأ في تهيئته لدوره ومكانه في المصنع الكبير، ويتم صقله تدريجيا وطوال سنوات عديدة بواسطة المدارس والجامعات والمعاهد المتعددة، ويدخل معترك الحياة العملية في سن الرشد ويتركها في سن السرطان والباركنسون. وإذا حدث خلل ما لأي سبب من الأسباب، في فترة نشاطه الإنتاجي، يمنع الإنسان من مواصلة عمله، فإن ورش الصيانة، كالمستشفيات والعيادات والمؤسسات الصحية المختلفة تتكفل بإصلاح الأجزاء المكسورة أو حل بها العطب أو الصدأ واستبدالها إذا لزم الأمر بقطع الغيار المناسبة، حتى يعود في أسرع وقت ممكن لدفع عجلة الإنتاج بكامل قوته وطاقته. هذه الحياة الممتلئة حتى الحافة، لا يجب أن تتخللها ولو ذرة واحدة من الفراغ أو العدم، ذلك أن الوحدات الزمنية الغير مستهلكة في العمل والإنتاج، تعتبرتبذيرا للطاقة وخسارة لا يمكن تعويضها، نتيجة أن عجلة الزمن - الإنتاج لا يمكن إعادة توجيهها لتعود إلى الوراء. غير أن الفراغ والذي يسمونه أحيانا بالعدم، مستمر في تسميم أدمغة مهندسي الحياة البرجوازية والرأسمالية، ذلك أنه في الحياة اليومية الواقعية، هناك بالضرورة ثوان ودقائق وأيام تهرب من الرقابة العامة، هناك لحظات المرض والنقاهة والعطلات الوطنية والدينية وعطلة نهاية الأسبوع والإجازات السنوية وإجازات الزواج والولادة والوفاة .. إلخ، بالإضافة إلى أن الآلة الإنسانية لا يمكنها أن تكون في نشاط مستمر أكثر من إثنى عشرة ساعة في اليوم الواحد دون أن تنفجر، لا بد من فترات للراحة والنوم والجلوس تحت شجرة ومراقبة العلم الأمريكي يرفرف على سطح القمر. لذلك تفنن مهندسوا حضارة الحديد والبلاستيك في خلق وإبداع الملايين من المنتوجات التي يبدو في الظاهر أنها لا تفيد البشرية في كثير ولا قليل، ولكنها في حقيقة الأمر موجهة أساسا لتفادي هذه اللحظات المسروقة من الفراغ وللقضاء على العدم. فالجرائد والمجلات وأجهزة التلفزيون وآلات التصوير والتلفونات النقالة والثابتة والكمبيوتر والويب وكذلك السيارات والطائرات والدراجات والبواخر والقوارب، والمطاعم والمقاهي والبارات والنوادي بكل أنواعها، الرياضية والثقافية والإجتماعية، والمتاجر والمحلات والأسواق وصالونات الحلاقة والتجميل، وأيضا الكنائس والمساجد والمعابد المختلفة، المكتبات ودور النشر وصالات السينما والمسارح والمعارض والملاهي وصالات الموسيقى وصالات الأفراح والإحتفالات .. والآلاف المؤلفة من النشاطات الأخرى التي يمارسها المواطن كلما وجد قليلا من وقت الفراغ، وهو عموما ما يسمى "الحياة"، أي ملء الفراغ الأصلي للإنسان بأي نشاط مهما كان نوعه، وجعله يتحرك دون أن يتوقف من الدقائق الأولى لميلاده حتى تناله المنية ذات يوم في حادث سيارة أو بشظية قنبلة في حرب من الحروب أو بتوقف القلب أو بإنفجار شريان في الدماغ بفعل الويسكي أو التبغ وما شابه. إنه تطور نوعي للبشرية ندين به لهذه الحضارة المميزة، فبدلا من قتل الوقت كما كان يفعل أجدادنا الجهلة، اليوم تتحول هذه الوحدات الزمنية العقيمة إلى وحدات نقدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س