الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لسعة السياط … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 2 / 8
الادب والفن


أصبح حيّنا باهتاً خجولاً ، فجارنا ابو وسن يبدو شاحباً ، وكأن الدم قد تسرب من شرايينه حتى نضب جسده .. وجهه متعب يقطر بالعرق ، يتحرك مثل قرد عجوز ، وهو يهمهم مع نفسه ، ويأخذ الحي طولاً وعرضا في حركة لا تهدء ، يرتعد عاجزاً حتى عن التقاط انفاسه ، ويدمدم بكلمات غاضبة مفزوعة .. لا احد يعرف ما الذي جرى له .. لم يُعرف عنه الاختلاط بالناس .. ولم يُعرف له اصدقاء .. يعيش مع بناته الاثنتين وسن وشقيقتها ملَك في شبه عزلة عن الناس ، ويحرِّم عليهن الخروج ، والاختلاط حتى مع الفتيات من اقرانهن …
بعد الابتدائية منعهن من تكملة الدراسة ، وحجزهن في البيت .. فكل شئ يطلبنه يأتيهن .. جعل من بيته سجناً للفتاتين .. يا ترى هل حانت اللحظة التي لم يكن يتوقعها ابداً طوال حياته ، وفرت الطيور من اقفاصها ، والطائر الذي يفر لا يعود ؟ هربن من سجنه بحثاً عن ضوء جديد ، نحو نوع جديد من الحياة بعيدة عن لسعة سياط الكبت والعبودية ، وهل يعود اي شئ يذهب ؟ كما علق احدهم قائلا بان هذا امر طبيعي ومتوقع ، فالضغط اكيد سينتج عنه انفجار ، وهكذا كان مع الفتاتين …
ربما كنتُ الوحيد الذي رأى الفتاتين مرات بحكم الجيرة ، والتصاق بيتينا ، وهن ينشرن الغسيل ، او يتسامرن فوق السطح .. ربما هرباً من هواء البيت الثقيل .. كانت ملَك اكثر جمالا ، وخفةً من اختها وسن ، احتفظتُ بسري الثمين هذا ، ولم ابوح به لاحد .. بقيتْ صورهن عالقة في ذاكرتي حتى وهنت ذكراهن بمرور الأيام ، وتدافع الذكريات ، وامتلاء خزانة الذاكرة بالغث والسمين .. ! أما الاب العجوز فقد كان الموت يزداد اقترابا منه .. ولم يمهله طويلاً ، اصابته سكتة دماغية انهت حياته ، وبقي مصير بناته المراهقات مجهولاً !
بعد ان لعبت الخمرة في عقولنا ، اقترح احد الاصدقاء ان نُكمل السهرة في ملهى الفارابي ، فثمة راقصة رائعة في رقصها الشرقي ، والاروع فيها جمالها الأخاذ .. بدءً من افخاذها البيضاء الجميلة ، وصدرها الناهد ، واستمر حتى اجزل في الوصف .. إعترضت وقررت ان اعتذر ، هتف صديقي بلسان ملتوٍ محاولاً اقناعي : سترى اكثر مما تتوقع ، واخذ يلح لعله يغير رأي قائلاً : سيفوتك ، لن تندم انا متأكد ..
اقول لنفسي : انها مجرد ليلة واحدة فلتكن على سبيل التجربة .. لعلي أفر من الضجيج الذي يعوي في داخلي .. دائماً ما كان مشهد الراقصات ، وعلى شاكلتهن تبعث في داخلي نوعا من القرف ، أخيراً أومأت برأسي موافقاً تحت الحاحه واغرائه ، يزفر صديقي بارتياح .. ذهبنا الى هناك بالباقي من وعينا ، كان الترقب هو الجو السائد ، والكل في انتظار وصلة الراقصة سوسو بفارغ الصبر .. تناولنا المزيد من الشراب حتى نسينا اسمائنا …
اخيراً ظهرت .. ناصعة ، غضة ، رقيقة الجلد ، قلت في نفسي : جميلة بالفعل كما قال صديقي .. جسدها يعلن عن وجوده المحسوس ، كل انحناءة او بروز منحوت بدقة متناهية .. ينفرج فمها عن ابتسامة مصطنعة .. تحيط بها العيون الجاحظة والفارغة من كل جانب .. تتقافز بخطوات رشيقة سريعة من فرط هرمونات الانوثة التي تفور في داخلها ، وكأنها تستعرض علينا جمالها الفتان اولاً ، تهفهف باجنحتها ، وهي تدور حول المسرح .. ثم اخذت تتلوى مع حركة الايقاع الصاخبة ، وتهز صدرها النافر باثارة مقصودة ، تدفع بمؤخرتها شيئاً فشيئا باتجاهنا ، وتتلاعب بها بغنج ، يعلو الصفير ، والتهليل ، وعواء السكارى ، تُحرك رأسها حركات هستيرية ايحائية فيتناثر شعرها المرسل في كل اتجاه معانقاً الهواء .. كان جسدها كله يشارك في الرقص .. كأن الطاقة التي تشع منها تملأ كل الفراغ حولها ، تتعالى الآهات واللوعات المحرومة ، ومنهم من يضرب جبهته حسرةً ومرارة ..
تستقبل هذه الانفعالات بالضحك في فرح حقيقي .. العيون مبحلقه تكشف عن نظرات الاشتهاء ، وجنون الرغبة ليس على روعة رقصها ، بقدر ما كان التركيز واضحاً من سيل لعاب الافواه الفاغرة ، والعيون التي تكاد تنط ، وتخرج من محاجرها على افخاذها ، وباقي مفاتنها .. يالها من امرأة ، صاح احدهم ، واو .. كم هي جميلة : هنيئاً لمن يمتطيها ، ويلتهم جسدها في نهلةٍ واحدة ، حاول البعض القفز الى المسرح بخطوات ثقيلة متعثرة ، ومترنحة .. تعرض لهم حراسها الشخصيين اصحاب العضلات المخيفة ، والشوارب المفتولة .. وعند انتهاء الوصلة ، يهدء الصخب ، ويسود سلام زائف على الجميع .. ثم تعود السهرة الى حالتها الطبيعية …
اما انا فتبسمرت نظراتي على المرأة ، ونسيت الراقصة ، طافت عيناي الغائمتان فوق وجهها ، وباقي جسدها .. قلت لنفسي : اين رأيتها يا ترى .. شكلها ليس غريباً علي ، يبدو ان ملامحها كانت مطبوعة في اعماقي دون ان ادري .. اختلج في اعماقي طيف بعيد .. لذكرى تأتي من لحظات باردة بعيدة .. ظللت أنظر في ذهول .. أتأمل وجهها ، واعصر ذهني ، واغمض عينيّ لعل الظلام يمنحني فرصة لافكر في هدوء ، واحاول ان انبش ذاكرتي ان كان عندي اصلاً ذاكرة في تلك اللحظة .. دخل قلبي يقين مؤكد بانني اعرف هذه المرأة .. !
وفي اليوم التالي عندما طارت السكرة ، وجاءت الصحوة ، بدءت البحث من جديد في أزبال الذاكرة التي كنت أوشك أن اختنق بتدافعها في داخلي .. ازحت اكوام الباهت منها ، واقصيت من شاخ ، قلبتها عاليها سافلها حتى عثرت على ضالتي .. يتشكل وجهها الجميل امامي فجأةً .. صرخت كالمجنون .. وجدتها ، وجدتها .. ملَك هي سوسو ، و سوسو هي ملَك !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة