الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دماء على مسدس طارق*

ملهم الملائكة
(Mulham Al Malaika)

2021 / 2 / 8
أوراق كتبت في وعن السجن


فجأة وجدت نفسي في خضم طوفان من الذكريات الدامعة الحزينة، قصص بللها عرق الخوف، ورعب الهروب، وغبار الحرمان في لحظات المواجهة الصلفة مع الموت الداعشي الغادر المعتدي.
أيزيديات استرقهن الدواعش يروين للجمع تفاصيل مخزية عن "سبايا" الخلافة الإسلامية. قصص تعيد رسم ذاكرة الجموع عن فجر الإسلام الذي جاء به أعراب الجزيرة على ظهور الخيل إلى العراق قبل 14 قرناً. أثرياء وتجار ورجال أعمال يروون كيف أجبرهم التنظيم الإسلامي الظلامي على تمويله من خلال فرض أتاوات عليهم، قضاة ومحامون يروون قصص انتهاكات حقوقية لا تنتهي.
أشد قسوة من كل ذلك، جاءت مساعي الجمع لحل معضلة أطفال الدولة الإسلامية، مئاتٌ بل آلاف من الأطفال مجهولي الآباء، لا يملكون أي أوراق ثبوتية، وترفض كل دول العالم منحهم وأمهاتهم حق اللجوء، كما ترفض الدول التي تدّعي الأمهات الانتساب اليها استقبالهم باعتبارهم قنابل موقوتة. قضية سياسية بحتة، تختلط فيها الدماء بشهوات ومباذل القتلة وهم يتناسلون مع مجاهدات النكاح سيئات الصيت القادمات من أنحاء العالم.
كنت واحداً من ذلك الجمع وفيه، ناشطون مدنيون، صحافيون، اعلاميون، مستثمرون، مقاولون ورجال أعمال، عناصر أمن، عناصر من مختلف أجهزة مخابرات عبر العالم، ساسة من الخط الثاني والثالث ومعهم شخصيات اجتماعية ودينية اجتمعوا في أربيل عاصمة إقليم كردستان ليتدارسوا قضية إعادة تأهيل مدينة الموصل والمدن المرتبطة بها، إنّه مصير أكثر من 4 ملايين انسان دمرت حياتهم دولة الخلافة الإسلامية التي احتلت غرب العراق، والجميع يفكرون هنا في كيفية اصلاح النفوس والضمائر والعقول التي خرّبها الإرهابيون.
يوم الفعالية الرابع والأخير تقرر أن يقضيه الرجال في الموصل، ليقضوا بعده ليلة يرصدون من خلالها عن كثب ما خلفته حقبة دولة الخلافة الإسلامية من قروح في النفوس وخراب في المدينة. كان مقرراً أن يذهب المشاركون الرجال فحسب ليبيتوا ليلة في بيوت القرية السياحية في الغابات، ويلتقوا بأهل الموصل وجهاً لوجه.
في الليلة الثالثة، أقام مقاولون ورجال أعمال ومستثمرون دعوات عشاء باذخة للمجتمعين، كنوع من حفلات الوداع الساعية إلى حشد الأصوات لصالح منحهم عقود العمل الكبرى التي يجري الحديث عنها، وكان عدد من المتحدثين قد تكلموا عن خطة تأهيل بميزانية قدرها 4 مليارات دولار، تعهدت بتقديمها عدة دول غربية ونفطية عربية.
واستضافتني وليمة على إحدى تلك الموائد الباذخة، وقد أولمها المقاول ريكان الخالدي، وهو يجلس منتفخاً مثل طاووس أنيق، تفوح أعطافه بعطور باذخة، وتلمع بدلته الرمادية كأنها صنعت من نسيج المنيوم مكتوم اللون. بقي ريكان يتكلم بنبرة متعالية عن إعادة اللحمة الاجتماعية للنسيج الموصلي الذي مزقه الدواعش، وأطال الحديث عن ضرورة إعادة الأمن ونظام التعليم والمنظومة الاقتصادية والمالية للعمل. ثم تحدث بالأرقام عن جهود فردية بذلها لتوفير الأمن للنازحين وتمهيد الطريق لعودتهم لمناطقهم.
بعد حديثه، تشعّب الحوار بين الجالسين على المائدة الباذخة مثل عنكبوت يتدلى بحبال شياطينه الغائبة على جدران الوهم، وتحلق كل اثنين أو ثلاثة أشخاص يتشاركون في مناقشة قضية ما، فيما انشغل ريكان بالحديث مع بعض الجالسين قريباً منه، وبعد أكثر من ساعة، تقدم صديقي سامر وزوجته جنان وهما ناشطان مدنيان مقيمان في النرويج، من المقاول الخالدي، واستأذنا الجالسين بقربه، أن يأخذا مكانهما لمحاورة المقاول بشأن توحيد جهدهما مع جهده الواسع لإعادة تطبيع الحياة في الموصل وأطراف محافظة نينوى.
جلس الزوجان، وياللعجب انهمك الثلاثة في حوار مكتوم، لم يتناه لسمعي أي طرف منه. همس لا يشبه همس العاشقين، بل يقترب كثيراً من همس الجواسيس!
في عيون جنان اهتمام موغل في الغموض، هل تنتظر معجزة من المقاول الخالدي، أم أن اهتمامها ينبع من مصدر آخر، لعله قادم من برد النرويج ليتصل بحرّ أهل العراق!؟
الحقائق المطروحة تختلط بكثير من الرؤى السياسية، وتظهر فيها هنا وهناك ملامح التأثير الإقليمي على ديموغرافية العقل والوعي في هذه المنطقة. المفارقة أن كردستان التي شهدت أكبر الابادات في تاريخ المنطقة، تستضيف اليوم جهوداً دولية لإزالة آثار ذلك الخراب.
تحدث ناشطون ومتابعون في ورشات عمل ومؤتمرات وجلسات شارحين ما يمكن عمله نظرياً لإعادة الحياة للموصل. ومن عجائب العراق الجديد، أن فعاليات المجتمع المدني ومنظماته وما يتصل بالديمقراطية، تنأى بنفسها عن "كؤوس الراح مؤنس الأرواح" بكل أشكالها، بل هم لا يجرؤن أن يقدموا ماء الشعير الخالي من الكحول على موائد فعالياتهم، كما يفعل الإيرانيون وهم يتعايشون مع قوانين دولة ولاية الفقيه الاسلامية، وهذا التحريم العراقي نابع من خوف العراقيين المتصل من "أهل الله" وصرعاتهم العجيبة، سيدية كانت أم كيدية!
وهكذا بعد أن تطاول جلوس الناس إلى مائدة المقاول ريكان الخالدي، وأتخمت بطونهم اللحوم والمكسرات والمقبلات المبذولة والفواكه الملونة العطرة بلا حساب على الطاولة العامرة، وملّوا من العصائر وأقداح الشاي وفناجين القهوة، وقرفوا من التورتات والمعجنات الدسمة الأخرى، بدأوا يتفرقون عائدين إلى غرفهم بحثا عن تسالٍ تملأ غروب وليل ذاك اليوم الخريفي الجميل.
وتنادى الأصدقاء يدعون بعضهم لجلسات سمر في غرف الفندق الأنيق، فضمتني غرفة د. بديع إلى الصديق سامر والصديق عادل، وتحلقنا نحن الأربعة حول قنينة "دمبل" كأنها دمعة كرستال كبيرة ترقرقت فيها خيوط الكحول المحمر اللون غالي الثمن شديد الأثر، وتراصفت إلى جانبها قنينة "أولد بار" التي يسميها أهل العراق "أبو لحية" وهي قصيرة عتيقة الشكل نادرة المذاق، فيما تزاحمت الطاولة الواطئة الصغيرة بأنواع المكسرات والمخللات والمقبلات لتخفيف مذاق الكحول الأصهب الأنيق.
وكالعادة، سال حديث الذكريات رغم أنوفنا وساد المشهد، وبين فينة وأخرى، يقطعه أحدنا بحديث عن أعماله، وعن بناء البيوت، وعن أماكن قضاء العطل وذكرياتها. كان سامر يعب الكحول بشهية ملفتة للنظر، وهو ما يعني أن السكر سيدركه مبكراً، لكنه بقي حتى ساعة متأخرة صاحياً لم تطرحه الصهباء، ونحو الساعة الحادية عشرة ليلاً، غادرنا الصديق عادل إلى غرفته وهو يذكّرنا أنّ سفراً مبكراً ينتظرنا في الغداة، فبقينا أنا وبديع وسامر نتداول حديثاً عن صداقتنا التي تمتد إلى نحو نصف قرن.
سارع سامر يملأ الكؤوس وهو يقول: سأطلعكم الليلة على سر مخيف، هل نقرع الأنخاب أولاً، أم ابدأ في كشف المستور؟
قلت: كالعادة يا صديقي، اشرع في الحديث وسينتخب كل شخص رشفته المفضلة في اللحظة المناسبة.
قال سامر: ما سأقوله لكم هنا، خطير جداً، وأطالبكم قبل البوح بوعد قاطع ألا يتسرب عنكما أي شيء حول هذا السر، مهما كان الظرف! وحين أقول مهما كان الظرف فأنا أعنى ذلك حرفياً، أرجو أن تعداني انكما لن تبوحا بشيء حتى لو سألتكما سلطات الأمن!!
ضحك د. بديع وهو يقول: يا صديقي عليك أن تغادر هاجس تحقيقات الأمن الدموية، هذا زمن آخر، ونحن قد تغيرنا، لم يعد لنا موقف رافض معارض مسلح للسلطة في العراق، إذ لا أحد يدعي احتكار السلطة كما كان الأمر في زمن القائد الضرورة، فمقتدى الصدر سلطة، وهادي العامري سلطة، ونوري المالكي سلطة، وعمار الحكيم سلطة، والسيستاني سلطة، والحلبوسي سلطة، والنجيفيون سلطة، والبارزانيون سلطة، والطالبانيون سلطة، والعشائر سلطة، هذا التوزيع للسلطة يضمن ألا يلتف العراقيون مرة أخرى "كالسور حول عمود البيت" سيء الصيت! هات ما عندك، وثق أن صمتنا سيبقى بلا حدود.
سارعت أؤكد ما قاله د. بديع، متضاحكاً وأنا أطالب سامر أن ينسى سجون النظام وكفاح البيشمركة والأنصار في جبال كردستان، ويستمتع بما تبقى من عمرنا الذي بددته المنافي والهجرات، ثم قلت له: ومع ذلك إذا كنت تجد سرك خطيراً، فلا تبح به، خير من يكتم السر حامله!
ضحك سامر، وبانت نواجذه المعدنية وهي تقوّم فكه الأسفل الذي انكسر في معتقلات الأمن في ثمانينات القرن الماضي، ثم قال بلهجة تخنقها عبرة مكتومة: يجب أن أشارك القريبين مني هذا السر، لقد كتمته أربعين سنة، ولابد أن أكشف عن شيء منه، وأنتما الأقرب إلى نفسي لذا انصتا لي بوعد قاطع أن يبقى ما أقوله لكما في الصدور. استنشق بعمق، وقال بنبرة حزن خطير: المقاول ريكان الخالدي، هو ضابط الأمن الذي عذبني في مديرية أمن كركوك، ونقلني إلى سجن كاني بنكه ليصار إلى نقلي الى مديرية الأمن العامة في بغداد، لكن قيام انتفاضة عام 1991 حررني من مسيرة العذاب. هذا الكلب هو الذي كان يتحدث اليوم بفياشة عن إعادة الأمن والحياة إلى الموصل ومدن سهل نينوى، وهو الذي أطعمنا على مائدته الباذخة. لقد تعمدت أن اتقرّب منه ومعي جنان، للتأكد من ملامحه...هو بعينه.
ساد صمت بمدى مسيرة الحزن والعذاب المتطاول وهو يريم على كثير من أبناء بلاد الرافدين، كان العذاب يروي غالباً حكاية تعيسة، لكنه يتحول أحيانا إلى فنارات جراح تقاطر غيمها لأصفى مكوناته فبات يُكسّر الروح مثل ألواح الزجاج. يبدو التناغم واضحاً، بين القسوة والعذاب، لكن الحزن وعاء يحتوي مشاعر مختلطة، ويصعب أن تصنفها.
همس بديع متحدثاً بحزن عصفت به قسوة المفاجأة، وكأنه يخشى نفسه قال متسائلاً: صديقي سامر، هل أنت متأكد بعد هذا العمر المعتّق الذي رسمت مساره الهجرات؟
بقي سامر يحدق فينا وفي الفضاء الخالي حتى اكتسى ما بيننا بفيض ألم، وانتابه ارتجاف دفين مثل هنيهة تجمدت بين ضوء البرق وعصف الرعد، ثم قال بصوت يقترب من الفحيح: المصيبة أني متأكد مائة بالمئة، وهذا يحتم عليّ أن أفعل شيئاً حيال هذا الكشف المخيف!
أخلفت كلماته وراءها صمتاً ثلجياً شاسعاً، سارعت لأدفئه بلغة تعود بنا من سماء الرعب إلى أرض الوقائع: هل لك أن تروي لنا ما جرى منه، وكيف عادت القصة إلى ذاكرتك؟ أدرك أن ذلك مؤلم ومذلّ وتعيس، لكنّي أريد أن اشاركك حزن اللحظات، فاقتسم معك العذاب واللوعة.
رشف سامر جرعة من كأسه، واحتبس حرقة الكحول وهي تلسع جوفه، وتلهب تجاويف مخه فقال: اعتاد ذلك الكلب، وقد كان الجميع يخاطبونه بكنيته "أبو عبير"، أن يقرّب وجهه مني وهو يضربني أو يطفئ سجائره في ساعدي أو ركبتي، هل رأيتم آثار تلك السكائر القاسيات؟ وكشف عن ساعده لتظهر ندب سمراء انتشرت على ساعديه مثل آثار الجدري. ثم أسبل ذراعي قميصه على ساعديه، وعاد يروي لحظات الوجع: كان يقول لي: "قريباً أنيك اختك يا ابن العاهرة، لو كان عندك غيرة على عرضك لتحدثت، لكنك شيوعي سافل بلا غيرة، لذا سأبقى أطرق رأسك بالقندرة، حتى تقول كل ما عندك، أعرف أنك تخفي أسماء من قاتلوا معك في عملية البرق الساطع"، ويتبع ذلك بسيل من اللكمات والصفعات والركلات تنهال عليّ وانا أجلس على كرسي مثبّت في الأرض، فيما شُبك ساعدي بحبل عبر حلقة معدنية مثبتة على طاولة حديدة ثبتت أمام الكرسي. هذه الغرفة أعدت خصيصاً لعمليات أبي عبير وحفلاته الدموية.
وذات ليلة، كان أبو عبير سيء المزاج، وقد احتوت وجهه مساحة غضب قد يكون وريث خيبته في مكان ما، فربما اكتشف أن زوجته البيضاء الجميلة اليافعة يضاجعها آمرو أفواج الدفاع الوطني الكرد الأثرياء، ويغدقون عليها الذهب الجواهر، كما كان يهمس السجناء فيما بينهم في زنازين الرعب، وربما حرّك هذا الكشف المخزي في داخله أوتار الذل، فاندفع يجلدني ويضربني، ثم وفي لحظة غامضة، استل مسدسه من نوع طارق من غلافه الجلدي، ووضع فوهته على صدغي، ثم على جبيني، وهو يقول: هل تعتقد أنّ حياتك مهمة هنا؟ أنت مجهول، أنتَ أقل من كلب تائه، السلطة تعتبرك عدواً للثورة والقيادة، ولو متَّ أثناء التعذيب فلن يسائلني أحد عنك، ستُدفن في الوادي المظلم مع أزبال المديرية. وقرّب يده التي تحمل المسدس من وجهي الدامي وهو يفحّ بصوت تلوّن بالحنق والقسوة: اليوم ستكون الحفلة النهائية معك، يجب أن تقول من هي التي كانت مساعدة خلية ناهدة الرماح، وهي عنصر الارتباط مع خليتكم. ليلة عملية البرق الساطع، من هي التي كانت مساعدة ناهدة الرمّاح؟؟
لم أجب بكلمة، لأني لم أكن أعرف ما هي عملية البرق الساطع، وليس لي علم بنشاط خلية ناهدة الرماح، فالذي أعرفه أن الفنانة ناهدة الرماح أصيبت بالعمى على خشبة المسرح، وأرسلها أحمد حسن البكر إلى لندن للعلاج، ثم غادرت العراق مطلع ثمانينات القرن العشرين، فكيف تقاتل في كردستان العراق وتقود خلية أنصار؟؟ لكن الكلب أبو عبير كان مصرّاً على أن ناهدة الرماح تقود عمليات في مناطق كفري ومرتفعات جبال حمرين، وسط رعبي وعرقي ودموعي ودمي، لطمني أبو عبير بقوة بماسورة المسدس، وشعرت فجأة أنّ وجهي قد انتزع من رقبتي، ثم غبت عن الوعي، لا أدرى كم من الوقت بقيت غائباً عن الوعي، لكن حين أفقت وجدت نفسي في زنزانة مشتركة مع أربعة اشخاص، وهم يتولون العناية بي، وقد ربطوا فكي المهشم بجوارب عتيق إلى رأسي كي يلتئم ، فيما بقيت اسناني المهشمة تنزف من فمي المتراخي. وهكذا قضيت الأسابيع التالية صامتاً لا أتكلم، وهذا جعل أبو عبير يحقق معي عن طريق الكتابة، حيث يُفكّ وثاق يدي، وتوضع ورقة وقلم أمامي لأكتب إجاباتي عن اسئلته الخارقة الخانقة!
لم أعد أقوى على الأكل، فقد تكسّرت اسناني كلها تقريباً في جانب فمي الأيسر، واقتصرت تغذيتي على السوائل، وهي الماء وبلالة الشاي التي باتوا يجلبونها لي بدلاً عن الطعام، فصرت أغمس الصمون ببلالة الشاي الوسخة وألتقمه، شهور طويلة بقيت على هذا الحال، حتى سفّروني إلى سجن كاني بنكه، ولم أفهم لماذا نقلوني إلى هذا السجن، لكني سعدت بالخلاص من قبضة أبو عبير.
تلك اللحظات التي كان يعذبني فيها، كان يقرّب وجهه الكريه من وجهي حتى كنت أدرك أحيانا من أنفاسه ماذا أكلَ، فمرة تفوح منه رائحة الخيار، ومرة رائحة مخلل، ومرة رائحة الرقي، واللحمة حاضرت في أنفاسه دائما. ولشدة القرب رصدت آثر حبة بغداد مسمرّة على يمين شفته السفلى، ورصدت ندبة من جرح صغير فوق منتصف حاجبه الأيسر. واليوم ونحن نجلس على مائدته الباذخة، تعمدت التقرّب منه ومعي زوجتي لأرى عن كثب الأثرين الذين حفظتهما في وجهه الكريه.
وشهق سامر بالبكاء، وتناول كأسه محاولاً أن يطفئ حزنه برشفة من كحول أسكتلندي فاخر، لكنه بكى "وشبا دمعه لهيباً": إنه ابن القحبة نفسه، اليوم بات مقاولاً ثرياً يريد أن يعيد الحياة إلى الموصل وأهلها! أي قسمة ضيزى هذه، أنا ضاع عمري في المنافي، فلا أرض لي في العراق ولا راتب ولا حق، ولا أي شيء، والسفلة القتلة يتنعمون حتى اليوم بكل شيء! وتعالى نحيبه ففرض علينا صمتاً مشلولاً بكوارث تلكم اللحظات الداميات.
صوت نحيب سامر، يمزقني، فأبكي بدوري وقد ضاع اتصالي بالزمان والمكان، وبقيت معلقا في عفونة تلك السجون المظلمات، تذكرت لوعتي مع سجان لم يكن يتقن العربية ولم أكن اتقن لغته، وتذكرت زنزانات الصمت، التي يغادرها المرء وقد تيبّست حباله الصوتية. الحنجرة جهاز يتوقف عن العمل إن لم تستخدمه، هكذا تعلمت من زنزانات الصمت الموحشات في تسعينات القرن العشرين. ولمحت الدمع يسيل على وجه بديع، فهو الآخر كان سجيناً في أمن السليمانية لشهور طويلة، وبعدها قضى سنتين في سجن الناصرية، قبل هروبه من العراق منتصف ثمانيات القرن العشرين.
لا أعرف كم تطاولت لحظة البكاء الجماعي تلك، لكن بديع قطعها رافعاً كأسه وهو يرسم على وجهه بسمة تحدي قائلاً: دعكم من كل هذا، يا عزيزي لقد عشنا بعيداً عن صدام وهموم الحصار وزنزانات البعث وطغيانه، في ربوع أوروبا، وبنينا مستقبلنا ومستقبل عائلاتنا في ربوع السلام، فلا يحزنك ما فعله هذا السافل، ولا تفكر به!
قطع سامر فجأة نحيبه، ونظر في وجع بديع بعمق وقال: "ما يبقى حمل مطروح!"، وهو تعبير عراقي يدل على أن الأحوال تتبدل دائماً. وقام من جلسته الكئيبة الباكية، تاركاً كأسه وقال وهو يرحل متجنباً النظر في وجوهنا: غداً ينتظرنا سفر مبكر لا أريد أن اتأخر عنه، تصبحون على خير.
نحو العاشرة من صباح اليوم التالي نقلت حافلتان أنيقتان الضيوف القادمون من خارج العراق إلى مدينة الموصل، فيما سافر باقي الضيوف بسياراتهم الخاصة. وحللنا في بيوت القرية السياحية بالغابات، ثم كانت لنا جولة في الجانب الأيمن الذي شهد دماراً واسعاً، وتناولنا طعام الغداء في إحدى قاعات جامعة الموصل، التي أحرق الدواعش مكتبتها الفاخرة ذات المليوني عنوان. ثم اجتمعنا بعدد من أساتذة الجامعة، ورووا لنا تجاربهم المرة في ظل الدولة الإسلامية.
شهدنا غروب ذلك اليوم ونحن في بيوت الغابة. الظلام يعمّ المدينة التي خرجت تواً من عسف الدولة الإسلامية براياتها السود، والتأم شمل عدد من الأصدقاء في بيتي، وشرعنا نروي لبعض مشاهداتنا وحواراتنا مع أهل الموصل بلوعة امتزجت بالدهشة، وندّت عن صديقنا سامر عبارة تشي بنكهة تشفي وهو يقول "لحسن الحظ نحن لم نعش في ظل الدولة الإسلاميةّ! ربما كانت هذه فضيلة وحيدة أورثنا إياها صدام حسين دون إرادته، فغربتنا بحد ذاتها أنقذتنا من حراب داعش وسيوفهم الغادرة".
قبل الثانية عشرة غادرنا سامر وبضع أصدقاء وودعونا وهم ذاهبون إلى بيوتهم استعداداً لرحلة العودة إلى أربيل في اليوم التالي، حيث أن اغلب الضيوف سيغادرون إلى بلدانهم عصر يوم غد.
بانتظار طائرتي إلى فرانكفورت، التقيت عدداً من المشاركين في الفعالية في مطار أربيل في عصر ذلك اليوم، كان الجميع يتهامسون وقد علت وجوههم ملامح قلقٍ بادٍ، وفهمت من الهمس أنّ المقاول ريكان الخالدي قد عُثر عليه مقتولاً في سريره بأحد بيوت القرية السياحية، وأن أمن وشرطة الموصل قد انتبهوا لهذه الجريمة بعد أن غادر ضيوف الفعالية عائدين إلى أربيل، والمخاوف تنتاب الجميع أن يجري منعهم من السفر على خلفية التحقيق في مقتل المقاول الثري!
وهكذا بات كل منّا يحصي الدقائق بقلق شديد حتى يحين موعد إقلاع الطائرة التي ستقلّه إلى وطنه البديل! في الخامسة عصراً أقلعت طائرتنا إلى فرانكفورت، ولم يستقر بي الحال حتى غادرنا الأجواء العراقية، ويبدو أن هذا كان شعور صديقي آرام الجالس إلى جواري، اذ ما إن أمسينا نحلّق فوق الأراضي التركية، حتى دنا برأسه مني وهو يقول: سمعت أنّ المقاول ريكان الخالدي وجد مقتولاً وقد كُسر فكه وتناثرت أسنانه على السرير إثر ضربة بجسم ثقيل، وترجح الأقاويل أنها ضربة بمطرقة "تفليش" لا يقل وزنها عن 3 كيلوغرامات عثر عليها في حديقة البيت الذي كان يسكنه القتيل.
قلت هامساً: لا أجد هذا غريباً، ففي عالم رجال الأعمال والمقاولين تنافس خطير يصل إلى مستويات خطيرة، والقتل يندرج أحيانا ضمن خيارات التنافس.
أجاب آرام مبتسماً: أشاركك الرأي، وفي ظروف العراق الحالية، الطايح رايح! الحمد لله أن سفرنا لم يتأخر لأغراض التحقيق.
استقبلتني في مخرج مطار فرانكفورت المؤدي إلى محطة القطارات نفحة هواء خريفي باردة تعبق برائحة الديزل، وتنسمت رحيق الحرية وأنا استقل القطار الأبيض السريع الأنيق عائداً إلى مدينتي، وفي خاطري ينبض فرح مشوب بنكهة الدم لأنّ سامر استطاع حتماً أن يثأر لنفسه. لكن غصة خفية أطبقت على داخلي وأنا أسائل نفسي، متى سيتاح لي أن أثأر من ظلم سجاني؟!
بون / فبراير 2021
*هذه قصة من نسج الخيال، وكل شخوصها متخيلة، وأيّ تشابه في الأسماء أو السرد مع وقائع حقيقية سيكون مجرد مصادفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تاريخ من المطالبات بالاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في ا


.. فيتو أمريكي ضد منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم الم




.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية


.. تغطية خاصة | الفيتو الأميركي يُسقط مشروع قرار لمنح فلسطين ال




.. مشاهد لاقتحام قوات الاحتلال نابلس وتنفيذها حملة اعتقالات بال