الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رحاب -السيد- .. القادم إلى البيت الأبيض ! (1)

محمد البسفي

2021 / 2 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


ها قد انتهت الانتخابات الأميركية لعام 2020؛ وإن بقيت أصدائها حائرة.. وجاء المرشح الديمقراطي، "جو بايدن"، رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية؛ وإن كان ليس بشكل نهائي.. وتبارت وسائل الإعلام والمنصات العربية، والناطقة باللغة العربية، في استباق سنواته الأربعة القادمة من ولايته الأولى بسيول من التحليلات والتكهنات من قِبل متخصصين ومعلقين؛ منطلقين من قواعد التشظي ومشاعر الانسحاق والدونية أمام "سيد البيت الأبيض الجديد" و"حاكم العالم" وغيرها من توصيفات أطلقتها نخبة عربية لم يتوقف بها جرف انسحاقها عند التهليل بمقدم "بايدن"؛ الذي سوف يُعيد لواشنطن سطوتها العالمية الأولى بما يليق ومكانة قوة مسيطرة على الخريطة الكونية - بعد سياسة "ترامب" القومية/الإنعزالية الرعناء - وآمالها التي عقدتها عليه في استرداد حريات وحقوق شعوبها !!
1 - في انتخاب "سيد" العالم..
وإن كان يعلل الباحث الأكاديمي المغربي، "د. إدريس لكريني"، مشاعر الحماس والترحيب التي يُبديها المجتمع الدولي، والعربي في جوانب منه، برحيل شخص "دونالد ترامب" عن البيت الأبيض؛ فمردها أن الأخير أدار سياسة بلاده الخارجية - المؤثرة بالطبع - خلال سنوات ولايته الأربعة من منطلق شعاره: "أميركا أولاً"، حيث أصدر مجموعة من القرارات القاسية، كما هو الشأن بالنسبة للانسحاب من بعض المنظمات الدولية، كـ (اليونسكو) بذرائع واهية أهمها إنحيازها ضد إسرائيل، ومن بعض الاتفاقيات المهمة كـ"اتفاقية باريس للمناخ"، و"اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهاديء"، إضافة إلى الاعتراف بـ"القدس" عاصمة لـ"إسرائيل"، ونقل السفارة الأميركية إليها، ثم قطع المساعدات عن (الإونروا)، واعتماد تدابير صارمة بخصوص استقبال اللاجئين، ومنع دخول رعايا عدد من دول العالم إلى التراب الأميركي، كما غيرت الإدارة الأميركية من سياساتها حتى تجاه حلفائها التقليديين، بعد توجهها نحو ترشيد نفقاتها داخل "حلف الأطلسي"، والدعوة المتكررة لأعضائه بتحمل المزيد من النفقات في هذا السياق؛ بل وأصبح واضحًا أن السياسة الأميركية أصبحت تعاكس بشكل واضح سياسة عدد من دول "الاتحاد الأوروبي"، وبخاصة فيما يتعلق بـ"الملف النووي الإيراني".
موضحًا الأكاديمي المغربي؛ أنه لا يخفي الكثيرون تفاؤلهم من الرئيس الجديد، الذي بعث عددًا من الإشارات الإيجابية إلى المجتمع الدولي، وبخاصة على مستوى المساهمة في تعزيز السلم والأمن الدوليين، وفي المنطقة العربية، التي حظيت فيها الانتخابات الأخيرة بمتابعة إعلامية وشعبية واسعة، تباينت الرؤى والمواقف بشأن النتائج التي أسفرت عنها، بين التفاؤل تارة والتشاؤم تارة أخرى.
إلا ويقر "د. لكريني" في نهاية تحليله: إن "المراهنة على هذا الرئيس الأميركي أو ذاك، في السعي لخدمة عدد من المصالح والقضايا العربية، تنطوي على قدر كبير من المبالغة، وعدم استيعاب كيفية اتخاذ القرارات الخارجية داخل الولايات المتحدة؛ حيث يُعد الرئيس فاعلاً في هذا الخصوص إلى جانب عدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. فالرئيس (ترامب)، لم يكن أسوأ من سابقيه، وهو ما يؤكده احتلال العراق، وفرض الحصار على ليبيا والسودان..، واستهداف عدد من المصالح في المنطقة، والتساهل مع إسرائيل في فترات سابقة".
مبررًا الحالة الشعورية الآنية لمجتمعات المنطقة العربية، حيال انتخابات واشنطن 2020؛ بإن: "الظروف الصعبة التي تعيش على إيقاعها المنطقة العربية في الوقت الراهن، من حيث تردي الأوضاع الأمنية في عدد من الدول، وتمدد الجماعات الإرهابية في مناطق شتى، وضعف العمل المشترك، وتصاعد الخلافات البينية، ثم تباين المواقف إزاء عدد من القضايا الإقليمية والدولية، إضافة إلى الفراغ الذي أحدثه إنهيار النظام الإقليمي العربي بكل مكوناته ومقوماته، ما فتح المجال لعدد من القوى الإقليمية والدولية لتلعب أدوارًا سيئة في المنطقة.. كلها عوامل تجعل من هذه الأخيرة فضاءً مفتوحًا على كل الاحتمالات، بما في ذلك تنفيذ إستراتيجيات وأجندات أميركية علنية أو خفية، لن تكون بالضرورة لصالح الأقطار العربية وشعوبها".
ولم تكن هذه كل مبررات النخبة العربية - الممثلة لأغلب أطيافها السياسية من ليبرالية وإسلامية ويسار ليبرالي - المشيعة "ترامب" مهللة والمستقبلة "بايدن" بورود آمالها؛ بل ذهب بعضًا من محللي اليسار الديمقراطي العربي، في موجة من الطموح الساذج أو جنوح الحالم، بالتعويل على القادم إلى المكتب البيضاوي، "جو بايدن"، كممثل لجناح يساري بازغ داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، إن لم يمثله، "بايدن"، بشكل رسمي فمن المؤكد سيصبح له عنوانًا لنشاطه وتقويته.. هيأت لذلك الطموح اليساري الليبرالي الحالم بعض العوامل والتفاعلات المباشرة وغير المباشرة، كان من أقربها تفاعلات التصويت الانتخابي الذي شهد نسب كبيرة لا يستهان بها من أصوات فقراء الولايات الأميركية وعاطليها وأصحاب المهن والمشاريع الصغيرة تذهب إلى "بايدن"؛ بالإضافة إلى إنحياز النقابات العمالية إليه؛ وكذا السود والملونون وأبناء الأقليات المتنوعة..
يستند الدبلوماسي الأميركي السابق، من أصل عربي، "مفيد الديك"، إلى بعض الوقائع التي شهدتها الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، صيف 2020، التي يؤكد أنها كشفت عن موجة من اليساريين التقدميين داخل الحزب؛ و"التي قد تُفسر بأنها ردة فعل مباشرة على تجربة حكم ترمب المدمرة لأميركا ومكانتها في العالم".
مستشهدًا "الديك" بانتخابات إحدى المناطق الهامة بولاية "نيويورك" في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي؛ التي فاز بها رجل أسود يدعى، "جمال بومان"، أمام منافسه، "إليوت إنغل"، عضو الكونغرس الأميركي اليهودي المخضرم ورئيس لجنة العلاقات الخارجية فيه وأحد أهم أعمدة دعم "إسرائيل"، خصوصًا اليمين الإسرائيلي، في واشنطن، الذي انتُخب لأول مرة عضوًا في الكونغرس العام 1989.
معتبرًا الدبلوماسي الأميركي: أن انتصار بومان "وهو الذي كان مدير مدرسة متوسطة وتربى دون أب في مشروع سكني للفقراء، يؤكد أن المشهد السياسي الأميركي قد يكون دخل حقبة جديدة، حقبة لا تكون فيها قوة المنصب ودعم المؤسسة - بما في ذلك المجموعات الرئيسة الموالية لإسرائيل والمعروفة بنفوذها الهائل على المشهد السياسي الأميركي خصوصًا لناحية سياسات الولايات المتحدة الخارجية في الشرق الأوسط - كافية لدرء التحديات الأساسية. وبدلاً من ذلك، يظهر انتصار بومان أن بناء التحالفات الإستراتيجية عبر المجتمعات الأميركية التي بدأت تتصدر المسرح السياسي في الآونة الأخيرة، ووجود مرشح كاريزمي متحالف مع حركات العدالة الاجتماعية في أميركا، يمثل تهديدًا صارخًا للحرس الديمقراطي القديم".
ورغم ما يبديه "الديك" من تفائل، فيستطرد مُقرًا بأنه: "لعقود طويلة، اتخذ المرشحون الأميركيون للمناصب الحكومية - الرئاسة، الكونغرس، حكام الولايات، الخ، الطريق الأقل مقاومة عندما يتعلق الأمر بصياغة مواقف سياسية بشأن إسرائيل. وهذا الطريق للمرشحين الذين لا يعرفون سوى القليل عن إسرائيل يتمثل عادة في العمل مع مجموعات الضغط السياسي الموالية لإسرائيل مثل (إيباك)، التي تزودهم بالكتيبات البسيطة عن كيفية صوغ برامجهم السياسية التي عليهم التعهد بتطبيقها للفوز بتأييد أنصار إسرائيل، لا في الجالية اليهودية الأميركية فحسب، بل وفي دوائر أخرى تؤيد إسرائيل مثل الإنجيليين. ومقابل ذلك، تصدر هذه الجماعات الموالية لإسرائيل بيانات التأييد لهؤلاء المرشحين وتلمعهم لدى قيادات حزبهم وتجمع لهم الأموال لضمان الفوز بالانتخابات. هذه هي طريقة عمل اللوبيات السياسية في الأنظمة الديمقراطية، شئنا أم أبينا" !!.
ليعود قائلاً: "بومان، الذي سيكون العضو المقبل في الكونغرس، خلفًا لمؤيد إسرائيل المخضرم إنغل، اتخذ موقفًا مختلفًا تمامًا عن مواقف إنغل؛ وربما عن مواقف الكثير من زملائه الديمقراطيين المؤيدين لإسرائيل، بشأن قضايا السياسة الخارجية، بما في ذلك إسرائيل. فمثلاً، يؤيد بومان بفرض شروط على التمويل العسكري الأميركي لإسرائيل تقوم على ضمان احترام إسرائيل لحقوق الإنسان في تعاملها مع الفلسطينيين، وهو الموقف الذي وصفه إنغل في حملته الانتخابية بأنه (غبي)".
ويستمر في توضيح وجهة نظره؛ قائلاً: "إضافة إلى بومان وكورتيز وإلهان عمر ورشيدة طليب - الفلسطينية من ولاية مشيغان، التي فازت مع عمر في العام 2018، لتصبحا أول امرأتين مسلمتين تصلان إلى عضوية الكونغرس في التاريخ، هناك الكثير من المرشحين التقدميين الذين فازوا أو سيفوزون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وهؤلاء سيصبحون أعضاء كونغرس أقوياء يمكن الاعتماد عليهم، ولو جزئيًا، في إثارة النقاش حول القضايا التي تهم العرب في علاقتهم مع أميركا، أو على الأقل بطريقة أكثر موضوعية مما كان حتى الآن".
2 - "السيد" بايدن والذين معه..
وأكثر ما تؤشر عليه كل تلك الآراء والرؤى، من أصحاب أغلب الاتجاهات السياسية، هي درجة الانسحاق والتماهي في شخص "السيد" القابع هناك في المكتب البيضاوي كمسيطر "أوحد" على مصائر الدول وشعوبها؛ أو حتى كـ"مركز إتزان" بين قوى فرعية أخرى تحاول تقاسم بعضًا من حيويته.. غير مبالية، أصحاب تلك النظرة من النخب العربية، أن ما يسوقونه من مبررات ضعف الأنظمة العربية الحالية - بكل ما تعانيه من مشاكل ذاتية من استبداد وفساد الخ - وقوة إسرائيل كفاعل رئيس مؤثر في المنطقة يتم توفير أجواء تقويتها باستمرار بتسخين المنطقة وتلغيمها بالمشاكل والكوارث - حتى الذاتية منها والموضوعية - في ظل أجواء تنمية "الإسلام السياسي"، (السُني بزعامة تركية؛ أو الشيعي بقيادة إيرانية)، يخدم ويفيد بشكل أو بآخر الرصيد الإسرائيلي المتنامي في المنطقة، من عدة أوجه من أهمها حصر الصراع دائمًا في شكله الديني البحت وإخراجه من واقعه الحقيقي كـ"احتلال استعماري لأراضي شعوب مستضعفة يتم سلبها سُبل ومصادر قوتها بشكل يومي وعلنًا".. وجل تركيب هذا المشهد اليومي للمنطقة هو من فعل "السيد" القابع في البيت الأبيض، "والذين معه"، من مؤسسات وكارتيلات وأجهزة نجحت في تغيير مفاهيم "السيادة الوطنية" و"الوطن"؛ وشوشت معاني الاستعمار والاحتلال؛ وشوهت مباديء النضال والمقاومة، حتى لا يبقى سوى "التوحد" في شخص "السيد".. توحد العبد في كينونة سيده !
ولكن.. بعيدًا عن القراءات السياسية للانتخابات الأميركية 2020 - وأي انتحابات رئاسية أميركية من أي مستوى إداري داخل الولايات الأميركية - والتي تعمل دائمًا على تسطيح الرأي العام - رغم ما تجتهد بعضها في رصد حقائق ومعلومات - وتُجهل عوامل أخرى أكثر تأثيرًا وفاعلية في مسار تلك الانتخابات وتحديد مصيرها النهائي، تنشط القوى المُشّكلة لدولة العمق في صنعها والتحكم فيها باستمرار..
ونظرًا للطبيعة الاقتصادية للدولة العميقة الأميركية، فالمتتبع للميكانزمية الحقيقية لانتخاباتها الرئاسية، التي تتحكم الكارتيلات الاحتكارية الاقتصادية في حركتها وآلياتها، يجد أنها تشبه "السوق" في حركاته، من حركة طرح "المرشح" لنفسه عبر إحدى الحزبين فاتحًا باب التبرع لحملته الانتخابية في محاكاة للإكتتاب العام الذي يُسيطر عليه الكارتيلات التي تختار في الواقع أحد المرشحين (المعروضين على منصة البيع) لكي يتم صقله سياسيًا واجتماعيًا وطرحه للتسويق الإعلامي والإعلاني في مراحل تسويقية تتحكم فيها بقدر الإمكان قوانين العرض والطلب، (ما يحتاجه الوطن الأميركي "كسوق مستهلك سياسيًا" داخليًا وخارجيًا) حتى تأتي لحظة طرحه لمنصة البيع الرئيسة (الصندوق) الانتخابي وتغليفه بما يليق ببضاعة قد حازت على ثقة وإعجاب المستهلك وتوصيلها إلى البيت الأبيض.
الخبير الاقتصادي، "سيد البدري"، كان أكثر تحديدًا في وصف تلك الحركية الانتخابية؛ في قوله: "بيرني ساندرز؛ انتقد الإعفاءات الضريبية للشركات الكبرى مثل: (آمازون ونت فليكس وفايس بوك وتويتر وغوغل)؛ وشركات (سيلكون فالي) الكبرى، وأيضًا وول ستريت، وهي نفسها الشركات والمؤسسات التي قادت حملة دعاية تنشيطية لصالح بايدن، واستمرت في شيطنة ضد ترامب، على الرغم من أن تشريعات ترامب الضريبية كانت تفيدها، ولكنها وقفت ضد ترامب من أجل مسألة أخرى، ليس من بينها القبح والشعبوية، كما يروج تلاميذ النيوليبرالية المصرية، بل من أجل الحفاظ على نفوذها فى العالم، والذي هدده ترامب بسياسته التي تطالب بإنكفاء أميركا على نفسها، واستعادة نفوذها الصناعي وعودة أسلوب التصنيع لما قبل العولمة، ومن هنا يتضح لماذا أيدت قطاعات من الطبقة العاملة الأميركية ترامب".
ويستمر "البدري" في توضيح طبيعة الصراع الآني: "أنه صراع بين نمطين للإنتاج.. أحدهما معولم والآخر تقليدي، ومثلما دفعت وول ستريت بنيكسون لفك روابط وإلتزامات بريتون وودز، أميركا تنتظر بايدن ليفك الإرتباط على مستوى الداخل، بالاعتماد على العولمة والقوة المسلحة لفرض إعادة الهيكلة لإحداث تراكم داخلي في قطاع الخدمات الجديدة اللاصناعية، واحتكار التكنولوجيا الجديدة في مجال الإلكترونيات الرقمية، لتكون المتحكم والقائد للصناعة الجديدة التي تغل فائض قيمة أعلى، وتترك جزءً من فائض القيمة للتصنيع، وهذا هو عنوان الفترة القادمة من الهيمنة التي تعتمد العالم للتصنيع وأميركا للتحكم في التصنيع وغل فائض قيمة مكثف، ومن أجل ذلك تم استغلال كامل تناقضات أميركا للتبشير بالعهد الجديد الذي قطع تولي ترامب سيرورته، ولهذا تم تجييش الدولة العميقة الأميركية والإعلام؛ لاستعادة الحكم ولإكمال خطة القرن الأميركي الجديد، والتي قررتها مجموعة هارفارد سابقًا".
ويتساءل الخبير الاقتصادي: "فهل سيتحمل الداخل الأميركي هذا التحول الكبير ؟.. وهل ستستخدم مشكلات الأقليات والعنصرية، وكثير من روافد التفتيت، للتمويه على الصراع الطبقي الداخلي بين رأسمالية عصر العولمة والأُجراء، بعد أن انتهى الحلم الأميركي ودولة الرفاه ؟.. أم إن اقتصاد الخدمات الجديد سيضخ نهب الخارج لكي ينتعش الداخل من جديد ؟.. أسئلة تنتظر البحث".
3 - في تمهيد المسرح لـ"القادم" !
اقتصاد الحرب .. طريق إجباري
وبين رغبة الكارتيلات الاحتكارية وأباطرة الشركات متعددة الجنسيات، التي تتحكم وتشرف على عملية اختيار القادم إلى "البيت الأبيض"، وذلك الصراع - المستعر تحت الجمر الأميركي - بين نمطي الإنتاج المعولم بصيغته النيوليبرالية من ناحية أو العودة إلى نمط التصنيع القومي ما قبل العولمي من ناحية أخرى، والذي حسم - مؤقتًا - لصالح النمط الأول بفوز "جو بايدن".. يظهر المشهد الدولي المترقب لسيد "المكتب البيضاوي" ببعض التفصيلات المنطلقة من أرضية عالمية محترقة بـ"معضلاتها" الاقتصادية الخانقة لنظامها الرأسمالي الحالي الذي أجهزت عليه حظوظه العاثرة - منذ عقود - كان آخرها أزمة جائحة (كوفيد-19) التي وضعته أمام مرآة تأزمه القاسية بفعل "الصدمة".. فمهما لجأ النظام النيوليبرالي العالمي إلى استدعاء بعضًا من سمات "كينزية" لمعالجة تفاقم الرعاية الاجتماعية - أو ما يسميه الاقتصاديون بالأجر الاجتماعي - برعاية جزء من البطالة المتفاقمة - بسرعة وشراسة - أو دعم جزء من نظم رعاية صحية؛ أو بإغداق بعض مِنحه وأبويته على النقابات؛ أو حتى إدعائه بتطهر "رقابي" من دنس "الفساد" الذي يمثل في الحقيقة جذر رئيس لأصل شجرة النيوليبرالية المتشعبة تُحصنه بقوانينها وتحميه بتشريعاتها، تظل تلك الحلول - الجزئية - "هجينة" النظام الكينزي المفلس منذ عقود؛ كما أنها ستعاني "اليُتم" بعد ترقيعها لنظام "الرأسمالية المتوحشة". تبقى سلسلة جبال المعوقات أمامه عسيرة على قدراته بعد فقد حلول الموارد الطبيعية سحرها الناجع - النفط مثالاً - واشتعال الحرب التجارية بأساليب وآليات مبتكرة - الصين نموذجًا -، وقبل كل ذلك وأهمه تنامي الرفض الشعبي وتصاعد الانتفاض الجماهيري وانتشاره حتى وصل إلى ربوع واشنطن وباريس وغيرهما من دول مركز الثقل الدولي؛ تجهر بصراخها الموجع من نظام رأسمالي بصيغته النيوليبرالية التي أحتضرت وقضي أمرها ولا يبقى إلا قبر جسدها المتعفن والبحث عن صيغ جديدة؛ على ما يبدو ستظل ولادتها في تعثر دائم لسنوات قادمة نتيجة إصرار النظام الرأسمالي على بث روائح جثمان النيوليبرالية النفاذة…
وكما تُصر النيوليبرالية في إصدار روائح جسدها المحتضر، على المستوى الفكري/الثقافي/الاجتماعي، ببث أفكار ما بعد الحداثة وصراع الحضارات والأديان وما أنتجته من تناحرات وحروب دينية وطائفية وجهوية ومذهبية أججت من السُعار والهوس الديني، المُطعم بشيفونية قومية انفصالية تتعالى بعنصرية طبقية اجتماعية.. لا ترى الرأسمالية المتوحشة كمبعث لروحها إلا الحل الرأسمالي التقليدي القديم؛ وهو "الحرب" لإعادة تقسيم الغنائم والحظوظ والنفوذ، تكون على أرضية ما تنفثه من أفكار دينية/قومية/فوضوية؛ وهذا ما تعكف عليه منذ عقود بنشر "حروب الوكالة" وتنميط الجماعات الدينية المسلحة.
وهنا.. يأتي "جو بايدن" على أرضية ممهدة - منذ سنوات - تم تسخينها بما يكفي لمقدمه وبما يستحق الدخول في جولات جديدة.
وكما يرى "العفيف الأخضر"؛ أن اقتصاد الحرب يمثل جرحًا للاقتصاد الدولي كله في حقيقة الأزمة الدائمة والحرب الإمبريالية الدائمة وتعبئة الاقتصاد القومي في استعداداتها، لكن اقتصاد الحرب ضروري للاقتصاد المعاصر بقدر ما هو مُضر به، ضروري له: لأنه يُشكل منذ أزمة 1929 متنفسًا اصطناعيًا لأزمة فائض الإنتاج الدائمة: إنتاج الدبابات التي تُخزن ليأكلها الصدأ وترمى إلى الخردة بعد أن يتجاوزها تقدم التكنولوجيا العسكرية، وإما أن تُستخدم لتدمير القوى المنتجة المادية والبشرية.. بدلاً من إنتاج الجرارات مثلاً التي لا تجد سوقًا موسرة. ومُضر به: لأنه المسؤول الأول عن عجز الميزانيات الدولية وبالتالي عن أزمة المديونية والتضخم وباختصار عن انحطاط القوى المنتجة. (1)
ويروج خبراء التضليل الإيديولوجي في أوروبا وروسيا نفسها أسطورة إنتهاء التنافس الحربي واقتصاد الحرب ومعهما التكتلات العسكرية التي ستتحول، بقدرة قادر، إلى تكتلات اقتصادية سلمية تخوض منافسة اقتصادية، علمية تكنولوجية وثقافية.. متناسين أن اقتصاد الحرب هو حبل الوريد في الاقتصاد المعاصر الذي لا غنى له عن الأسواق الاصطناعية.. وللعصر الذي أصبحت فيه جميع الدول إمبريالية تتوسل الحرب لتأمين حصتها من السوق التي يعاد اقتسامها دوريًا بالحرب. هذه هي الحقيقة التي يتحاشى الاقتصاديون الرسميون كشفها. لأنه من الجنون الاعتراف بأنه بدون إهدار ثلثي الموارد الطبيعية والبشرية يختنق الاقتصاد الدولي وتموت الرأسمالية بالسكتة القلبية. (2)
بعد إنهيار الكتلة الشرقية وإنهيار المبرر الرسمي لعسكرة الاقتصاد الأميركي كتبت (وول ستريت جورنال): "برهن التاريخ على أن الاقتصاد ينزع إلى التقدم مدة أطول في زمن الحرب لا في زمن السلم: فخلال الـ 135 سنة الأخيرة رصد المؤرخون الاقتصاديون ثلاثين فترة توسع اقتصادي دون حساب الفترة الراهنة. منها 25 فترة حدثت من زمن السلم لم تدم في المتوسط إلا 27 شهرًا. في حين أن الخمس التي جاءت في زمن الحرب تواصلت في المتوسط لمدة 64 شهرًا. أطول فترة نماء اقتصادي عرفتها الولايات المتحدة (106 شهور بين 1961 - 1969) كانت خلال حرب فيتنام، الفترة الثانية من فترات الإزدهار في الاقتصاد الأميركي حدثت هي الأخرى في زمن حرب توسع دام ثمانين شهرًا أثناء الحرب العالمية الثانية.
"إردوغان" .. جوكر الجولات القادمة
تحت جنح الأزمة الاقتصادية التي تخنق بلاده وبحجتها؛ يصول الرئيس التركي، "رجب طيب إردوغان"، ويجول بمنطقة الشرق الأوسط وبدول محيطه الجغرافي مُصرًا على فرض هيمنة سافرة وتدخلاته الفجة في شؤون كثير من الدول، دون أن يعترضه "إجراء" أممي فعال يحد من ممارساته من وزن تلك الإجراءات التي تعرضت لأنظمة عربية وإفريقية وأميركية جنوبية تقدمية كثيرة وصلت لحد الإصدامات العسكرية والاحتلال المباشر، مما يؤشر على مدى أهمية الممارسات الإردوغانية واحتياجية المشهد العالمي لها.. فمن سوريا إلى ليبيا لقبرص والعراق وصولاً إلى أرمينيا وفرنسا؛ ينشط "إردوغان" في حماس نموذجي في ضرب هدفين رئيسيين: أولهما؛ فرض النفوذ االسياسي الخادم لهيمنته الاقتصادية على موارد ومقدرات البلدان الواقعة في محطيه الحدودي بل والعابرة لموقعه الجغرافي سواء في أوروبا أو إفريقيا أو آسيا. والثاني هو نشر وفرض فكره الديني التوسعي بالقوة، بزعم قدرته على إعادة حلم "الخلافة العثمانية" الغابر على منطقة تعاني غياب المشاريع الإيديولوجية - غير الدينية/القومية -، تحت قيادته كونه زعيمًا لحزب ذا مرجعية إخوانية؛ وبالتالي أصبح "إردوغان" نموذج مثالي جذاب لـ"تسخين" المسرح الدولي بكل ما يلزم من محفزات دينية وطائفية وعرقية ونحوها، جاذبية حسدته عليها "العربية السعودية" التي تفوق عليها في أداء نفس الدور خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي؛ لذا كان له قصب السبق في مارثون النفوذ بينهما.
ونظرًا لخبرة تركيا وسابق عملها، بمشاركة السعودية وإشراف أميركي وأوروبي، داخل أذربيجان، "المسلمة"، والغنية بالنفط والغاز، ودعمها في مواجهة أرمينيا، "المسيحية"، (التي دعمتها إيران وروسيا) - لكن روسيا كانت تبيع السلاح للدّولَتَيْن - في حربهما عام 1992؛ ضمن فوران الصراعات الحدودية التي استعرت إبان تفكك الاتحاد السوفياتي، لذا ظهر "إردوغان" وبقوة في مشهد الحرب "الأذربيجانية-الأرمينية" التي عادت للاشتعال في منتصف تموز/يوليو 2020.
وتحتل أذربيجان موقعًا إستراتيجيًا في آسيا الوُسطى، فهي تطل على بحر قزوين، ولها حُدُود مع أرمينيا وتركيا وإيران وجورجيا، وروسيا، وهي دولة منتجة ومُصدّرة للنفط والغاز، ويُقدّر احتياطيها بحوالي سبعة مليارات برميل، كما هي منتجة للغاز، وبها ثروات معدنية أخرى كالذهب والفضة والنحاس والحديد، والكوبالت والتيتانيوم… وتُصَدِّرُ نحو أوروبا، حوالي خمسين مليون طن من النفط الخام سنويًا، والذي يصِلُ، (منذ سنة 2006)، العاصمة "باكو" بميناء "جيهان" في تركيا، مرورًا بجورجيا، بالإضافة إلى خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي من حقل "شاه دنيز"، (الذي يُنتج حوالي 300 مليار متر مكعب سنويًا)، ويصل إلى تركيا، ثم أوروبا…
وتُجدر الإشارة هنا إلى انتشار الفساد في جهاز الدّولة لأذربيجان، ولكن نادرًا ما تنشر المنظمات التي تُكْثِرُ الحديث عن "الشفافية" تقارير عن أذربيجان، (الواقعة على حدود إيران)، ومن هذه التقارير النادرة، أخبار نشرتها "منظمة العفو الدّولية"، ضمن تقريرها السنوي 2017 - 2018، عن انتشار الفساد على نطاق واسع، وعن تكثيف حملات القمع وعن غياب حرية التعبير عن الرأي، واعتقال الصحافيين وحجب وسائل الإعلام "المُستقلة"، أو "المُعارضة" للنظام. أما سبب نَدْرَة مثل هذه التقارير فهو العلاقات المتطورة مع الإمبريالية الأميركية، ومع الكيان الصهيوني. (3)
سبق وجَمع الرئيس التركي، "تورغوت أوزال"، في تشرين أول/أكتوبر 1991، زعماء الجمهوريات السوفياتية السابقة، التي تسكنها أغلبية "تركية الأصل"، (الأتراك ليسوا شعبًا من "الشرق الأوسط"، وإنما من وَسَط آسيا، أتَوا إلى المنطقة بسبب الكوارث والمجاعات، بداية من القرن الثاني عشر)، في عاصمة تركيا، تحت شعار: "أمة تركية واحدة من البحر الإدرياتيكي إلى سد الصين المنيع"، ومن بين هذه الجمهوريات "أذربيجان"، التي أنشأت بها الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني قواعد عسكرية، في وقت مُبكّر من استقلالها، وتُخطط أذربيجان، تحت إشراف الإمبريالية الأميركية لمنافسة مشاريع روسيا لبناء خطوط تَصِل حقول الغاز الروسية بأوروبا.
فقد بذلت تركيا، منذ إنهيار الاتحاد السوفياتي؛ جهودًا كبيرة لتدعيم حضورها في منطقة "البحر الأسود" و"القوقاز"، وتدعم تركيا، "أذربيجان"، عسكريًا، ويُشرف الضّباط الأتراك على تدريب جيش أذربيجان؛ الذي يشتري الطائرات الآلية من مصانع صهْر الرئيس، "رجب طيب إردوغان"، وشاركت في تموز/يوليو 2020، في مناورات عسكرية مع جُيُوش أميركا وجورجيا ورومانيا وبلغاريا، في "البحر الأسود"، بالإضافة إلى العلاقات العسكرية المتطورة بين تركيا وأوكرانيا، ما زاد من الخلافات مع روسيا، (المُنحازة إلى أرمينيا)، التي اعتبرت هذه المناورات استفزازًا لها.
في عام 2016؛ أصدر رئيس أذربيجان، "إلهام عَلْيِيف"، قرارًا رئاسيًا يفرض حصول جميع الوافدين إلى أذربيجان على تأشيرة دخول، باستثناء حاملي الجواز الصهيوني والتّركي، وفي ذلك إشارة إلى عمق العلاقات مع هاتَيْن الدّولتَيْن، لذا فقد حاول "الطاهر المعز"؛ الوقوف على خلفيات هذا القرار، وعلى العلاقات المتينة بين أطراف هذا الثُّلاثِي.
التقتْ مصالح تركيا والكيان الصهيوني، في "أذربَيْجان"، التي طورت علاقاتها مع الكيان الصهيوني أيضًا، (إلى جانب تركيا والولايات المتحدة)، وشملت المجالات الإقتصادية والعسكرية والإستخباراتية، وتضم أذربيجان قاعدة عسكرية صهيونية، وشكلت موطيء قدم للصهاينة في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ثم توسّع النفوذ الصّهيوني، على خُطَى النّفُوذ الأميركي، إلى جورجيا وأوكرانيا، وروسيا أيضًا، حيث يستعمر فلسطين نحو مليون مُسْتَوْطن، جاؤوا من روسيا ومن أوكرانيا، خلال فترة إنهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع مستوى العيش في روسيا، ويكتسب موقع أذربيجان أهمية خاصة، بسبب مجاوَرتها لإيران، حيث يوجد حوالي 25 مليون مواطن إيراني، من أصل أذَرِي، كما توجد أقلية هامة من الأرمن الذين لجأ أجدادهم إلى إيران، هَرَبًا من المجازر، وعمليات الإبادة التّركية.. يستورد الكيان الصهيوني حوالي 70% من النفط الذي يحتاجه من أذربيجان، أو ما يعادل 40% من صادرات أذربيجان النفطية، وتُشارك شركة النفط الحكومية الأذرية، "سوكار"، في التنقيب على النفط المَسْرُوق من سواحل فلسطين المحتلة، فيما توطّدت العلاقات الاقتصادية، في مجالات الفلاحة والتكنولوجيا والأسلحة، واشترت أذربيجان، سنة 2016، أسلحة صهيونية بقيمة لا تقل عن 1.6 مليار دولارًا، تضمّنت أنظمة دفاع جَوِّي وصواريخ، وبلغت قيمة المبادلات التجارية، بينهما 4.5 مليارات دولارًا، سنة 2017، قبل أن ترتفع، منذ سنة 2018، لتصل إلى حوالي 5.7 مليار دولارًا، وتُعَدّ أذربيجان أحد أكبر أسواق السلاح الصهيوني، واشترت من دولة الاحتلال الصهيوني أنظمة رادار، (أميركية في الأصل، وقع تطويرها)، وطائرات آلية وغيرها، كما تُعَدُّ أذربيجان قاعدة صهيونية وأميركية متقدّمة للتجسس على إيران، وذكرت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية، (نيسان/أبريل 2012)، توقعات باستخدام الكيان الصهيوني القواعد الجوية لأذربيجان، لشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، واستهداف العلماء الإيرانيين، كما أشارت وسائل إعلام صهيونية، في نيسان/أبريل 2018، إلى توقيع أذربيجان اتفاقيات عسكرية مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، من ضمنها السماح للطائرات العسكرية الصهيونية بالإقلاع من القواعد العسكرية في أذربيجان، واحتمال استخدامها لشن عدوان على إيران، حليفة أرمينيا، ومن حين لآخر تقصف طائرات آلية صهيونية، (منذ سنة 2016)، مواقع للجيش الأرمني في إقليم "ناغورنو كارباخ". (4)
وما هي إلا أيام قليلة تمر على انتصار "إردوغان" في معركة "ناغورنو كارباخ" بحسم الصراع لصالح أذربيجان، حتى نشطت أصابعه في منطقة أخرى من أوروبا.. كانت هذه المرة في قلب "باريس" ذاتها، التي اشتعلت مع بداية خريف 2020؛ بأزمة الرسوم المسيئة لرسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي وقع خلالها الرئيس الفرنسي، "إيمانويل ماكرون"، أسيرًا لحظه السيء بين شقي رحى اليمين المسيحي الفرنسي المتطرف، المتمتع بقوة داخلية راسخة شعبيًا جعلت من زعيمته، "مارين لوبان"، منافسة شرسة وغريمة سياسية يخشاها ماكرون، وبين اليمين الإسلامي (التركي-الإخواني)، ما وضع ماكرون في ركن ضيق جعله يتصرف بشكل أهوج في إدارته للأزمة؛ نظرًا لعدم قوته السياسية وإفتقاره لأي مشروع "فكري/سياسي" قوي بديل يمكنه الخروج من مأزقه، اللهم إلا الرطانة بالمقولات الليبرالية وحرية التعبير وهي ما تم اصطياده منها؛ لكونها إشكاليات فلسفية مطاطية حمالة أوجه يتم توظيفها سياسيًا لصالح إيديولوجيات راسخة الوضوح.
أما "إردوغان" فقد أحسن كعادته استغلال فرصتها، سواء لترك بصماته السياسية أو لحلب ظروفها لآخر قطرة تغذية لمصالحه، فقاد حملة الدعاية النفسية التي نفذتها عناصر "جماعة الإخوان المسلمين" ضد فرنسا وكانت من أبرزها وأهمها حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية التي أرادها "إردوغان" لكي تلغي - أو على الأقل تُفقد فاعلية - الحملة المشابهة ضد المنتجات التركية التي كانت قد أطلقتها "العربية السعودية"، متزعمة المحور الخليجي المصري، قبل أيام من أزمة الرسوم المسيئة !
عدم الخروج عن النص
وكما للممثل المسرحي ضوء أحمر يُضاء تحذيرًا في وجهه إن خرج عن النص المُصاغ له، كان للرئيس التركي الطموح بعضًا من فرك الأذن تحذيرًا من مغبة شططه داخل عاصمة النور الأوروبية.. ففي بداية شهر تشرين ثان/نوفمبر 2020، أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية حظر جمعية "الذئاب الرمادية" على أراضيها، وهي حركة تركية قومية متطرفة تأسست، نهاية الستينيات من القرن الماضي، جامعة شبابًا يؤمنون بنظرية "تفوق العرق التركي"، ويطمحون إلى توحيد المنتمين إلى القومية التركية حول العالم في بلد واحد، وأصبحت الجناح العسكري المسلح لـ"حزب الحركة القومية" التركي المتطرف.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي، قررت حكومة مقاطعة "النمسا العليا" شمالي النمسا، وقف جميع أشكال التمويل الحكومي لـ"جماعة الإخوان المسلمين" وغيرها من تنظيمات الإسلام السياسي، وتشكيل لجنة خبراء لرصد تحركاتها وهياكلها. وقال حاكم مقاطعة "النمسا العليا"، "توماس ستيلزر": "على الرغم من جهودنا لإدماج الأشخاص من ذوي الخلفية المهاجرة في المجتمع، تلعب الجمعيات والمنظمات الإسلامية المتطرفة مثل الإخوان وغيرها، دورًا سلبيًا لإعاقة الإندماج".
وبرغم ما كانت تشكله النمسا كـ"حاضنة" مهمة لتنظيم "الإخوان المسلمين" في أوروبا، لا سيما وأن النمسا تعترف بالإسلام ديانة رسمية، وقانونها القضائي يسمح بالشراكات المتعددة بين الدولة والمجتمعات الدينية. وقد اتخذ (الإخوان) من النمسا مقرًا للممارسة نشاطهم بشكل مريح، ودون أيّ ملاحقات حقيقية، لذا استطاعوا تنفيذ نشاطات تجارية وخيرية علنية، وأخرى سرّية، بدعم من قيادة الجماعة في المنطقة العربية.
ولكن هذا لم يمنع أن تهتز عاصمتها، "فيينا"، بحوادث قتل وإرهاب على الهوية الدينية، في تشرين ثان/نوفمبر 2020، مما دفع "كارل نيهامير"، وزير داخلية النمسا، للإعلان عن مصادرة أكثر من 20 مليون يورو، (23.6 مليون دولار)، من أموال "جماعة الإخوان" ومعظمها أصول والباقي أموال سائلة، مشيرًا إلى أن التحقيقات أثبتت أن هذه الأموال تستخدم في "تمويل الإرهابط. وقال وزير داخلية النمسا، حسبما نقل عنه موقع (كورير)، إن: "أكثر من 20 مليون يورو من الأصول؛ تمت مصادرتها وتجميدها في المداهمات التي تم شنها على مقرات لجماعة الإخوان المسلمين"، مضيفًا أن: "الأموال كانت تستخدم في تمويل الإرهاب".
بل وذهب مجلس الوزراء النمساوي برئاسة المستشار، "سيباستيان كورتس"، إلى أبعد من تلك الإجراءات الأمنية ضد "جماعة الإخوان المسلمين"، وشرع في إستحداث جريمة جنائية تحت مسمى "الإسلام السياسي"، وقال "كورتس": "سنستحدث جريمة جنائية تسمى الإسلام السياسي؛ حتى نتمكن من اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين ليسوا إرهابيين، لكنهم يخلقون أرضية خصبة لهم". (5)
وإن كان الغرب الأوروبي لم يتحرك ضد الشطط الإردوغاني الراتع بالمنطقة منذ سنوات؛ إلا حينما وصلت ألسنة لهيبه إلى عواصم مدنه المتشدقة بالقشور الديمقراطية، إلا وكان الموقف الأميركي من السياسات التركية الإردوغانية أكثر وضوحًا وتصويبًا إلى ما يُهم دائمًا الإدارات الأميركية من الحفاظ على مصالحها الخاصة جدًا.. فقد أوضح "مايك بومبيو"، وزير الخارجية الأميركي، لصحيفة (لو فيغارو) الفرنسية اليومية: "نتفق أنا والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على أن تصرفات تركيا في الآونة الأخيرة عدوانية للغاية"، مشيرًا إلى دعم تركيا، لـ"أذربيجان"، في صراع "ناغورنو قرة باغ" مع أرمينيا، وكذلك التحركات العسكرية في ليبيا والبحر المتوسط. وأضاف أنه: "يجب على أوروبا والولايات المتحدة العمل سويًا لإقناع إردوغان بأن مثل هذه التصرفات ليست في مصلحة شعبه". وتابع قائلاً إن زيادة استخدام القدرة العسكرية التركية مبعث قلق.
ويتضح أكثر موطن القلق الأميركي من جنوح السلوك الإدروغاني مؤخرًا؛ حينما يتداول نواب "مجلس الشيوخ" الأميركي حول قانون ميزانية الدفاع لعام 2021، المعروف باسم "قانون ترخيص الدفاع الوطني"، بعد ما أضاف أعضاء المجلس فقرة تدعو الرئيس الأميركي، "دونالد ترامب"، إلى فرض عقوبات على تركيا في غضون 30 يومًا. وتشير الفقرة المذكورة إلى أن شراء تركيا منظومة صواريخ الدفاع الجوي، (إس-400) الروسية، يُشكل "مخالفة جسيمة" لقانون "مواجهة خصوم أميركا بالعقوبات"، الصادر عام 2017، والذي يقتضي معاقبة أي دولة تعقد صفقة أسلحة كبيرة مع روسيا.
ويدعو مشروع قانون ميزانية الدفاع الجديدة إلى فرض 5 عقوبات أو أكثر على تركيا بموجب قانون "مواجهة خصوم أميركا بالعقوبات". وينُص مشروع "قانون ترخيص الدفاع" الجديد على أن العقوبات الواجب فرضها على تركيا لا يجب أن تُرفع إلا في حالة إعلانها التوقف عن تشغيل منظومة صواريخ (إس-400) الروسية.
وكالعادة تنطلق الآراء والتحليلات - التي لا ترى أبعد من موضع قدمها - مؤكدة على استمرار الموقف الأميركي المُستاء من السياسات التركية؛ بل وتحوله إلى توتر ملحوظ بعد وصول إدارة الرئيس المنتخب، "جو بايدن" إلى البيت الأبيض.. مثلما ترى، "هدى رزق"، في تحليلها لانتكاسة العلاقات "الأميركية-التركية"؛ بأن تركيا تختلف عما كانت عليه من قبل، والتي كانت تلتزم بما تريده الولايات المتحدة والغرب، وبعد فشل مشروع الولايات المتحدة بتسليم الإسلاميين للسلطة في مصر، حاول "إردوغان" أن يكمل هذا المشروع، على أمل أن يُعيد سيطرة تركيا على العالم العربي بواسطة الإسلام السياسي، ومن هنا بدأ فقدان الثقة بين "تركيا إردوغان" والغرب. وتستدرك قائلة: "لذلك ترى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية؛ أن لدى إردوغان مشروعه الخاص، ويقول أن تركيا دولة إقليمية قوية لديها استقلالها ولديها الحق بأن يكون لديها مشروعها الخاص، وتدخلها الأخير بيّن أن إردوغان يتدخل في أي منطقة صراع في المنطقة، بحجة المصالح الاقتصادية أو القومية أو غيرها".
وترى "رزق" أن: "إردوغان الآن يحاول اللجوء لروسيا والتحالف معها، ويقول بأن هناك خطوط جديدة في منطقة شرق المتوسط ومنطقة القوقاز، ويحاول الاستعانة بروسيا في المسألة الليبية وأذربيجان، لكن السؤال هل روسيا مستعدة لمساندة إردغان ؟"، وتجييب: "روسيا لا تثق فعليًا بإردوغان، وكما قال لافروف ليس هناك تحالفات إستراتيجية مع تركيا، بل هناك تحالفات حسب المنطقة، وأعتقد أن روسيا ستكون أقوى في تحالفها مع إردوغان، وهي تعي أن بايدن والديمقراطيين يقفون ضدها كما يقفون ضد إردوغان، لكن الغرب يحتاج إلى تركيا".
وبرغم تلك الرؤى وأشباهها من التحليلات المستدعية للشفقة والضحك؛ والتي يُصّدرها خبراء ومحللون يدعون الإستراتيجية، مُصّرين بها على تضليل الرأي العام وقصر نظره على مساحة ضيقة مما يظهر من جبل الثلج فوق سطح مياه تغلي بمصالح وأطماع وتقاسمات تصل لحد صفقات الموت.. فتُصر تلك الرؤى القاصرة على إغفال الدور الحيوي والإستراتيجي الحقيقي الذي تلعبه تركيا، بقيادتها محور "تركي-قطري"، في المنطقة من تأجيج النزعات الدينية والقبلية والقومية والجهوية، سواء بشن الحروب النفسية "الفكرية/الإعلامية" أو عبر التدخل المباشر ميدانيًا في حروب وكالة ميليشياوية تسلمت بعضًا من مهام تنظيم (داعش)، الذي يعتمد حاليًا الضربات الخاطفة المتتالية في إستراتيجيته الواسعة لحرب العصابات، بواسطة شبكة معقدة ومتداخلة من كارتيلات شركات السلاح الكبرى ومجموعات من شركات بيع المهام الأمنية متعددة الجنسيات التي - رغم ندرة المعلومات الموثقة عنها لطبيعتها الأمنية شديدة الحساسية؛ إلا ما يتساقط من معلومات نذيرة ببعض التقارير المسربة كافي للعلم بطبيعة الصورة - يتشارك فيها ضلعي مثلث الحروب الدينية، "إيران" و"الكيان الصهيوني".
…………………………………………………
(1) العفيف الأخضر - "إنهيار رأسمالية الدولة الستالينية الأسباب والنتائج" - سلسلة (قضايا فكرية - الماركسية.. البيريسترويكا.. ومستقبل الاشتراكية) - (تشرين ثان) نوفمبر 1990.
(2) المرجع السابق.
(3) الطاهر المعز - "في كواليس الحرب بين أذربيجان وأرمينيا: بعض الخَلْفِيّات" - موقع (كنعان) - 19 تموز/يوليو 2020.
(4) الرجع السابق.
(5) نشوى الحفني - (يقظة متأخرة.. أوروبا تنتفض ضد "الإسلام السياسي" والنمسا تبدأ إجتثاث تنظيم "الإخوان المسلمين" !) - موقع (كتابات) - 16 تشرين ثان/نوفمبر 2020.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط