الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح 19

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 2 / 12
الادب والفن


ساعة الصفر

في لوح الإعلان الرئيسي قرب مبنى العمادة علقت نتائج الأمتحانات وكأنها تودعنا دون حتى كلمة تهنئة أو تبريك على رحلة الأعوام المنصرمة ووصولنا لمرحلة التخرج، سألت سوسن بلهجة متشائمة عن أسمي موجود... قالت نعم.. الحمد لله أطلقتها وكأن عادل إمام هو من يجيب، لم أخشى هذه المرة أن يحدث ليس ما هو خارج الحسبان واللا متوقع كما حصل معي في نتائج البكلوريا الثانوية، في قرارة نفسي هناك مزيج مختلط ومشوش بين الفرحة والحسرة وأمنيات لا استطيع وصفها، المهم الآن إكمال إجراءات أنهاء علاقتي بالكلية وأولها كتاب إلى مديرية التجنيد يعلمهم بأنني أصبحت تحت إدارتهم وإرادتهم حيث يشاء نظام التجنيد الإجباري أن نسارع في ذلك تحت طائلة عقوبة التخلف ومطاردة الإنضباط العسكري وسيطرة الدورة ذهابا وأيابا إلى بغداد.
مرت أربع سنوات سريعا ولم نستمتع بحياة جامعية أعتيادية كما لم نحرم أنفسنا من أن نملئها بكل ما يمكن أن يشتت هذا النكد والقلق والتيه، فقد مضت ومضت معها أحلامنا وأمالنا لغير النتيجة التي رسمها خيال جميل حين أنهيت الدراسة الثانوية من قبل، فلم يعد هناك عودة قريبة للكلية ولا وجوه ألفناها وألفتنا وربطتنا مع بعض حتى صارت جزء من حياة يومية، كل ذلك ذهب مع هذا الإعلان ولم يبقى غير الرحيل المؤلم إلى عالم أكثر قسوة وربما أكثر وحشية ... و..... ربما يحدث وقوع المعجزة التي لا أساس لها وفقا للواقع، زمان المعجزات القدرية زمان موهوم خيالي أفتراضي يخدعنا ونخدع أحلامنا به.
أنتهت أخر لحظات الأنتساب للكلية وتسلمت أمر براءة الذمة وأنتهى معها ما كان يحسب لي أني طالب جامعي، من هذه اللحظة عدت غريبا عن الكلية وعلي أن أتصرف هكذا وأسمي الجديد الخريج، فقد خرجت من عالم بورقة كما دخلته من قبل بورقة ولن أعود له مستقبلا إلا بورقة، وما أغلاها وأندرها في زمن الورق فيه شحيح ولكن الرصاص والموت والفناء هو كل ما متوفر ومتاح بسهولة، إذا كما غنى عبد الحليم حافظ أيام زمان (يا أهلا بالمعارك....يا بخت من يشارك!!!)، ليس الحرب هي معركتي القادمة ولا هي نهاية كل المعارك، حتى وجودك في ظل ما هو سائد تحمل رأسك على كتفيك كما خلقك الله واحدة من أهم المعارك، وبعدها وما بعدها معارك من طرازات مختلفة ومتنوعة تخرج من واحدة لتدخل في أخرى، حتى تلقى مصيرك في معركة ختامية مقيد لك فيها أنك الخاسر حتما حين تودع هذا العالم بأسرة وأنت مرغم.
في طريق العودة والبداية من محطة الباصات في منطقة العلاوي كان هناك باص كبير على وشك الأمتلاء ما كان ينقصه إلا ثلاثة ركاب، المقعدان الأماميان خلف السائق لم يشغلهما أحد، سألت الشاب الذي كان ينادي على الركاب هل هم مشغولان، قال تفضل أجلس ليس من أحد، جلست قرب النافذة وتركت المقعد الأخر بأنتظار راكب جديد، دقائق وحضر ضابط عسكري وتكلم مع السائق ليصعد الرجل ويخبرني بمغادرة المكان، لماذا؟ قال هناك ضابط يريد المقعد وهناك مقعد في الأخير يمكنك الجلوس فيه... قلت ولكن أنا راكب مثله ونقودي تشبه نقوده... قال ومع ذلك فالرجل بحاجة للمكان وسيأتي زميل له لننطلق، لم يكن من بد أن أقوم من مكاني على الأقل لنكسب الوقت خاصة وأن عيون الركاب تقول جميعها وبصمت قم لننتهي من إضاعة الوقت، حملت نفسي وحقيبتي وذهبت للمقعد الأخر رغم أنفي.
جلست في المقعد الأخير الذي يسع خمسة ركاب متوسطا به وبجنبي الأيمن سيدة يبدو عليها الوقار بملامح تبدو أن جارتي امرأة ليست عادية وبشمالي رجل ضرير هو الأخر بحالة من الهيبة والعز، أنتظرنا كثيرا حتى جاء رفيق الرجل الضابط بعد أن كادت السيارة الأخرى أن تمتلئ والجميع في حالة تبرم لكن لا أحد يعترض على هذا التعطيل، المهم تحركت السيارة وخرجنا من محطة الباصات بأتجاه طريق كربلاء، أخرجت أوراقي التي كانت في حقيبة اليد وأنا أنظر لها مليا وعقلي يسرح في الأيام الخوالي ويحسب للأيام القادمة كيف سيكون لونها وطعمها، بادرتني السيدة بالقول.. مبروك لقد أنهيت دراستك الجامعية إذا وسيزداد رجلا أخر في قائمة من يدافعون عن القانون والحق.... شكرتها على هذا اللطف...
_ ولكن يا سيدتي ما نفع الرجال إن لم يكن القانون محترما من الجميع وعادلا بما فيه الكفاية ليحفظ حق الناس ويحمي كرامتهم.
_ أظن أن هذا من مسئوليتكم أنتم، واجبكم فرض القانون وحماية وجوده، عندها سيحميكم القانون ويحمي وجودكم أيضا.
_ أحيانا عندما يزرع الفلاح أرضه بأنتظار أن تثمر وتعطي ويسعد بالنتيجة يكون متوهما أو حتى مخطئا عندما تكون الأرض غير صالحة أو البذور ميتة أو غير صالحة للإنبات أو أن البيئة أساسا غير قادرة على مساعدته.... يشح الماء أو المطر أو يغزوها الجراد والآفات الزراعي... هنا لا يستطيع الفلاح أن يفعل شيئا...
_ تماما فلا بد من توافر الكثير حتى ينجح الأمنيات والأحلام وحدها لا تكفي وحتى الحظ قد لا يكون مساعدا في ذلك.
_ عندما يسلب حق باسم القانون أو ينسب هذا الحق للقانون زورا فلا أمل به.
_ أعرف تلك المرارة التي تتحدث عنها فقد جربتها كثيرا... وها أنت تجربها اليوم لأول مرة وأنت رجل قانون كما أفهم....
الرجل الضرير الذي كان ينصت للحوار شاركنا بمداخلة صغيرة (لو كان القانون مصان في عقر داره لا يمكن أن نرى الظلم وضياع الحقوق، فقد ورثت أرضا عن أبي عن جدي الذي أشتراها بماله الخاص ثم جاءت الدولة وأنتزعت هذه الملكية لتوزعها على أخرين بدون ثمن، الجميع صفق للحكومة وصفق المنتفعون الجدد وكأن الله أنزل حكما جديدا يحل به الحرام ويحرم به الحلال، والغريب أن حراس قصر الرب وكتابه وحجابه لم يستنكروا ولم يعترضوا بل صمتوا صمت أهل المقابر)... يا سيدي كما يقول البعض أن الدين أفيون الشعوب وهذا الأمر من ذاك ... قال بلهجة السخرية وبصوت منخفض (ليس كل دين أفيون ولا كل العقول يسكرها المخدر، القومية أفيون العقول المريضة بالأنانية والعنصرية، والنرجسية المتعالية أفيون للنفوس المريضة، والشعور بالدونية تجاه الغرب ومنجزه الحضاري أفيون للعقول العاجزة، كل ما يخرج الإنسان من مسيرة الوجود الصح هو أفيون قاتل، كن با أيها الإنسان كما خلقك الله عامل ومستعمر للأرض ومصلح للوجود تكون الأقرب لحقيقتك وأصلك الذي جئت من أجله).
لقد أسقطني كلامه بالضربة القاضية نعم فليس كل دين أفيون ولكن كل دعوة فردية تنسب للدين وتخرج الإنسان والدين من حدود العقل هي الأفيون الأعظم، صمت عمنا نحن الثلاثة خوفا من توسع الحديث فنحن غرباء هنا وقد لا نعرف أن من بين الركاب من لا يعجبه الكلام أو ربما يفسره بطريقته الخاصة، أخرجت السيدة التي بجنبي دفرا صغيرا وقلما وكتبت.. كنت منسرحا في خيالي بكلام الرجل وما يحمله من ألم بسبب القانون وبسبب وكلاء الرب، دست السيدة في يدي ورقة وأشارت لي أن أقرأها (متى ما ساوم الإنسان على حقه في الوجود سقط في بئر العبودية، الحق بالحياة الحرة والتمتع به يساوي الخلود .... إياك أن تفوض أحد للدفاع عن حقك وإنسانيتك، فلديك لسان وعينين وأذنين ومعك الحق فلم تفاوض على ما لا يمكن التنازل عنه).
أنتهى كل الحديث وشكرت السيدة مرة أخرى على التهنئة وودعت الرجل الضرير الذي كانت زوجته تقوده للنزول من الباص، رمقت السائق بنظرة شفقة وقلت له بنفسي (صرخة المظلوم لا يفتر صداها في أرجاء الكون يتردد باللعنة حتى تبلغ كل السجلات التي وضعتها السماء ليتذكرها من نسى أو تناسى أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، أين الملوك الذي ملكوا الشرق والغرب، أين صارت نياشين القادة وسيوفهم المرصعة بالأحجار الكريمة، أين التيجان التي علت هامات وأذلت أخرى، فلا يغرنكم صمت الله عنكم فتذكروا أن الأيام دول فقد تكون النازلة أشد عليكم من الصاعدة منكم عندها لا تنفع دعوة الداع ولا شفاعة الشفيع ولا من عذر لمعتذر).
الطريق حتى المنزل أخذ مني وقتا أكثر من المعتاد، كنت أفكر في كل كلمة دارت بيننا في الباص خاصة تلك الأمنية أو الرغبة التي أبدتها السيدة في حماية القانون والمحافظة على وجوده، فلا يمكن لمجتمع أن يضع قانونا للجميع فيقوم البعض بعد ذلك بالتغوط عليه لأنه يظن أن وجوده أسمى من القانون، هل كان عبد أبو عيون وأبو هارون وعباس وهاشم على حق حينما أرادوا أن يكون القانون تحت حراسة مشددة حتى لا يمسه المتسلطون على رقبته كلما رغبوا أن يخضع لهم، يقول عبد ماركس العراق طالما القانون يخاف من البنادق فالسلطة ليست له بل لتلك الأصابع التي تحرك الزناد فتطلق النار، تعال يا سيدي الآن القانون أسير لهم حتى بدون بنادق فقد أستبدلوها بالبدلة الزيتوني وكلمة رفيق.
مشكلة القانون مثلها مثل مشكلة الرب فكلاهما يخضعان حين نريدهما لمزاجنا ونفهمها كما يحلو لنا دون أن نضع معيار واحد، فكل إنسان له رب خاص يتشكل في وعيه الذهني طبقا للطريقة التي نشأ فيها عقله، والقانون يعاني ذات القضية وبنفس المنهج الوصولي، درسنا القانون على أنه قاعدة عامة مجردة عما هي خارجه ولا تنتسب له، والدين كما قال الله يسير وإصلاحي وينشد الخير والمصلحة، منذ أن عرف الإنسان الدين والقانون لم يجردهما كما هو مطلوب ولا طبقهما على أساس نتيجة الخير والإصلاح، الذي نجح في الحياة هو من أسرج الدين مطية والقانون عربة ووصل بهما إلى قمة الأنانية، أما غيرهم فقد كانوا يدفعون ثمن علف الحمار ويصلحون العربة من لحم أجسادهم.
وصلت البيت عصرا دون أن يسألني أحد عما ذهبت من أجله أو عن نتيجتي النهائية، لم أشأ أن أخبر أحد ولم يخطر في بالي أن أتحدث عن همومي وأنا أقترب من ساعة الصفر القادمة بعد أيام، جارنا عبد الأمير والذي يعتبرني صديقه أخبرني أنه سيدخل أمتحانات البكلوريا هذا العام خاصة وأنه تأخر عن ذلك كثيرا وهذه فرصته الأخيرة وإلا سيكون على قوائم التجنيد بعد أسابيع قليلة، كنت أحرص على دفعه بأن يستمر في الدراسة ولو على مراحل فقيمة الإنسان كما أرى تتحدد بمقدار ما يتعلم لا بمقدار ما منح له من غير جهد، سألني متى تتخرج من الجامعة، ضحكت من كل قلبي... يا رجل لقد تخرجت ولم أعد طالبا مثلك فأنا رجل قانون وسأكون أحد حماته ومن يتشرف بأحترامه وتقديسه، طبع قبلة على خدي لفت ذلك المنظر أنتباه والدتي التي سألتني عن سر تلك القبلة، أجبتها عربون تهنئة منه فقد فرح لي.
الأسبوع الأول مر بهدوء لا شيء ملفت للنظر، لا رغبة في القراءة ولا ميل لأي شيء كنت أتمنى أن يكون لي من الوقت المناسب حتى أتمتع به، عند قرب الظهيرة أذهب للمكتبة لأجلب الجريدة اليومية كالمعتاد، العصر نقضيه مع شلة الشباب من جيراني وأغلبهم ممن هم أقل مني سنا، المساء يبدا من بعد الساعة السادسة من مشاهدة أفلاك كارتون حتى أنتهاء البث بالسلام الجمهوري، أخبار الحرب والأنتصارات تتوالى بين الفينة والفينة، حتى أصوات النساء التي تشق عنان السماء معلنة عن وصول جثمان شهيد لا تثير فينا ذلك الإحساس بالحزن، لقد أماتت الحرب حتى مشاعرنا وجردتنا من روح الإنسان وأدمنا الصمت العار الذي تلبسنا، الحزن والموت يترافقان سويا زائرين كل البيوت بلا أستئذان، يا ترى هل من فرصة لنا أن ننجو من هذه القيامة الزائفة؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع